ليس جميع الصحافيين مؤهلين لأن يكونوا ضمير الشعب، ولا يستطيعون جميعاً أن يكونوا ذلك الضمير. توفيق بن بريك هو من أولئك الرسل القلائل الذين تعطيهم شجاعتهم مثل هذه القدرة. ولكي يكون ضمير الشعب، فإنه مضطر للتضحية، لذا اختار الموت العلني البطيء لعل الضمير الآخر في بلاده يصحو أخيراً ويعود إلى رشده. أضرب توفيق عن الطعام لأنه سئم المضايقات اليومية. ففي بلد أهله مسالمون في طبعهم وتطبعهم، لا يعود للأجهزة من عمل سوى أن تلاحق الأقلام والأفكار. وكلما قويت الأجهزة وزادت سطوتها، زاد خوفها مما في الرؤوس من أفكار، ولسوء حظها فإن الدول الكبرى الرائدة في القمع لم تخترع بعد آلة لكشف الأفكار كتلك التي ترن متى تكتشف سلاحاً. وليس بين توفيق والسلطة صراع ايديولوجي، وإنما صراع أكاذيب وحقائق. هو يريد ككل مواطنيه ان يعامل كمواطن أي كإنسان، عملاً بما ينص عليه الدستور، لكن السلطة تعامله وسواه على أنه كائن مطارد. هو يريد حريته الأساسية، التي ينص عليها الدستور، وهي تفاخر بما في النص الدستوري ولا تبالي إذا كان النص محترماً أم لا. هو كتب مقالات لم يكن مضطراً لأن يخترع فيها أو يبالغ أو يكذب، بل لعله فضل ألا يقول كل ما يعرف. حاول نشر المقالات داخل البلد فلم يفلح، لذا نشرها في الخارج، فجنّ جنون السلطة، اتخذت منه عدواً. منذ ذلك الحين لم يعد توفيق يعيش حياة طبيعية، لكنه اكتسب "حصانة" من الخارج. أراد ان يغادر البلاد أخيراً كما يمكن أن يفعل أي إنسان، ولكن... لا جواز سفر، انه مصادر. ولأنه كتب مجدداً فقد طلب إلى التحقيق. وكل ما في الأمر ان توفيق لا يستطيع أن يقول إن حقوق الإنسان هي بخير في بلاده، إذا لم تكن بخير فعلاً، وإلا فإنه بذلك يعترف أنه ليس إنساناً وليست له حقوق يطالب بها. لا يمكن ان يكتب دائماً ما يحلو للسلطة أن تقرأه، انه يتمنى ان يفعل لكن هذا يعني ان لا يرى ولا يسمع ولا يفهم، بل ان هذا يعني ان يكتب أكاذيب. والصحافي الذي لا يكتب سوى أكاذيب يتحول هو نفسه اكذوبة. اضراب توفيق عن الطعام هو حربه على ما كان يتعرض له، على ما أصبح يتعرض له أهله بسببه، على ما يتعرض له مواطنون وأجانب تضامنوا معه. لم تعد السلطة تستحي من شيء فهي أيضاً في حرب مفتوحة ضد التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية مع "شخص" من اتباعها لا تعجبه طريقتها في احترام حقوق الإنسان. صنعت السلطة من توفيق بن بريك بطلاً وطنياً على الرغم منها، وعلى الرغم منه. لم يكن توفيق يريد ان يكون أكثر من مجرد "إنسان"، مجرد "مواطن"، مجرد "صوت" يدعو إلى دولة قانون يحترم فيها القانون ولا يُصنع القانون يومياً حسب الحاجة، مع ذلك أصرّت السلطة على أن يكون بطلاً، فهذا أسهل من ارساء دولة القانون. لم تنفع الوساطات في اقناع السلطة بأن تتصرف تجاه "مواطنها" بأبسط ما هو مطلوب منها، فتوفيق لم يطلب اصلاح النظام ولا القضاء على الفساد ولا معاقبة مجرمي الأجهزة لكي يوقف اضرابه عن الطعام، انه ككل مواطنيه، يطالب بكل ذلك وبأكثر، لكنه في اضرابه الأخير لم يطرح أكثر من حقوقه البديهية البسيطة، إذا نالها ينتصر، يحقق انجازاً، لذا لا تريد السلطة "سابقة" تمس هيبة الدولة. من قال إن هيبة الدولة لا تتأمن إلا بإهانة المواطنين؟ لكن هذه الحرب بين توفيق والسلطة ما كان لها أن تكون، وهي تبقى غير متكافئة في أي حال: شجاعة توفيق مقابل صلف السلطة. صوت الحريات مقابل سوط القمع. ضمير الشعب مقابل جدران السلطة. تضامن العالم مع توفيق مقابل هتاف الانتهازيين..