من الأصوات الشعرية التي تشهد على القرن الماضي بأحداثه وتحولاته ولا سيّما في نصفه الأول، الشاعر القروي رشيد سليم الخوري. فهذا الشاعر الذي عاش بين أواخر القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، وعمَّر قرابة قرنٍ من الزمان استطاع بحياته وشعره أن يتمثل هموم أمته، فيعيشها نضالاً دؤوباً، ويغنّيها شعراً تحدو به الركبان، فيشكل مثالاً للشاعر الملتزم الذي يقول ما يفعل، ويهيم في وادي الوطنية والقومية، فيتبعه غاوو العروبة، ويرجّعون صدى صوته من المحيط الى الخليج. والناظر في حياة القروي وشعره لا بدّ له أن يكتشف ذلك التفاعل مع الأحداث، وتلك الشهادة عليها. يتفاعل مع الحدث، ينفعل به، ويشهد عليه شعراً يفعل فيما حوله. وهكذا، فكثير من قصائده وثائق فنية ترجّع أصداء التاريخ والمحطات الكبرى التي مرت بها البلاد العربية طيلة النصف الأول من القرن العشرين على الأقل" فمن وعد بلفور سنة 1917، الى الثورة العربية الكبرى، الى الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي بقيادة سلطان باشا الأطرش، الى اغتصاب فلسطين وانطلاق المقاومة في ما بعد، هي محطات توقف عندها الشاعر القروي، وعكستها مرايا قصائده، فكان شاهد الأمة على العصر. بهذه الذاكرة نطل على "الشاعر القروي - آخر الأوراق" للكاتب جورج طراد دار رياض الريس، 2000، فهل يشبه آخر الأوراق أوّلها؟ وما الذي تنطوي عليه هذه الأوراق الأخيرة؟ نشير، بداية، الى أن لكلمة "آخر" في الكتاب ثلاث دلالات" فهي تدل على آخر ما كتب الشاعر، وآخر ما كتب اليه، وآخر ما نشر عنه على رغم أنه مكتوب في مراحل سابقة. والكتاب الذي بين أيدينا هو آخر ما كتب عن القروي، ويشتمل على الدلالات الثلاث: ما كتبه، ما كتب اليه، وما نشر عنه من وثائق. نشر جورج طراد كتابه بتحريض من رياض نجيب الريِّس، ووضعه في ثلاثة أقسام" تناول في أوّلها رحلة عمر الشاعر، ونشر في ثانيها أوراقه المطوية، وأفرد الأخير للمفكرة الأخيرة. فإلى أين يأخذنا طراد في رحلته؟ وأية أوراق نشر؟ وأي "قرويٍّ" يطلع من المفكرة؟ رحلة العمر يتناولها المؤلف على مدى ثلاثة فصول" يقدم في الأول منها ترجمة مبتسرة للشاعر، ويعرض في الثاني لخصوماته الأدبية والسياسية، ويجلو في الثالث حقيقة انتمائه الديني. وهكذا، يرصد طراد رحلة القروي من البربارة واليها، متوقفاً عند محطات معينة في هذه الرحلة، مغفلاً أخرى. وهي رحلة طويلة قاربت قرناً من الزمان، إذ امتدّت بين 5 نيسان ابريل 1887 و27 آب أغسطس 1984، جاب فيها الشاعر أماكن عديدة، وخاض معارك كثيرة، وكابد أشواقاً حرّى، ورسم بحياته معالم بارزة" وفي هذه المعالم نقرأ: تحدّر القروي من أصول شويرية - بربارية، وجمعه بين القوة البدنية لعائلة أمه والبعد الثقافي - الشعري لعائلة أبيه، وتنقله في طلب العلم من مدرسة القرية الى مدرسة الفنون الأميركية في صيدا الى مدرسة سوق الغرب الى الكلّية السورية الإنجيلية أي الجامعة الأميركية اليوم. ونقرأ في معالم الرحلة ممارسته التدريس في مدارس عدة، وسفره الى البرازيل سنة 1913 بغية ايفاء دين ورثه عن الوالد، ومكابدته المشقات في المهجر وفشله في تحقيق اثراء لم يكن هدفه الأساسي في حياته - كما نقرأ عزوفه عن الزواج شاباً، وميله الى الشيطنة طفلاً. ولئن كان المؤلف عنون فصله بعنوان "من البربارة الى البربارة"، فإن ما أورده في المتن لم يعبر عن هذا العنوان، بل انه جاء مبتوراً، قافزاً فوق محطات عديدة في هذه المسافة من البربارة واليها، فالفصل ينتهي على المستوى التاريخي عند العام 1934 حين أصبح القروي رئيساً لتحرير جريدة "الرابطة" بعد وفاة الدكتور خليل سعادة، وينتهي على المستوى النصّي عند العام 1924 حين أسس الشاعر مصنعاً لربطات العنق، بينما عاد الى وطنه صيف 1958، أي أن هناك قرابة ربع قرن بين ترؤسه تحرير الجريدة والعودة لم يشر اليها الكاتب في فصل اتخذ له عنوان "من البربارة الى البربارة"، وورود اشارات الى هذه المدة الزمنية في فصول أخرى لا يعفي الكاتب من مسؤولية البتر في فصلٍٍ له مثل هذا العنوان. ولأن الشاعر القروي كان ملتزماً قضايا أمته لا يهادن فيها، فمن الطبيعي أن يثير الخصومات الأدبية والسياسية. وهذا ما يعالجه الكاتب في الفصل الثاني من كتابه، فيشير الى خصومات أدبيَّة خاضها الشاعر مع جبران وسعيد عقل والأخطل الصغير وجورج صيدح وطه حسين، وهي أدبية في ظاهرها سياسية الباطن، ويتوقف عند الخصومة الأدبية الأطول التي كان طرفها الآخر ميخائيل نعيمة، وهي ذات جذور فكرية تتعلق بالمنحيين المختلفين للرابطة القلمية ذات المنحى الروحاني الخيالي واليها ينتمي نعيمة، وللعصبة الأندلسية ذات النفس الوطني القومي واليها ينتمي القروي. ومن طرائف هذه الخصومة أن الشاعر انتظر خمسين عاماً ليرد على ما تناوله فيه نعيمة في كتابه "الغربال"، وذلك بتبنيه كتاباً لكعدي الكعدي ينتقد فيه نعيمة. وهكذا، يكون القروي قد بزَّ في انتظاره ذلك البدوي الذي انتظر أربعين عاماً ليأخذ بثأره. أما الخصومة الثانية الطويلة التي يتوقف عندها طراد فهي سياسية، بين الشاعر والقوميين السوريين، ويورد مقاطع مما قاله كل طرف في الآخر، يتبين منها تقاطع السياسي مع الشخصي. وإذ يرى المؤلف أن الشاعر القروي لم يستفد من الخصومات لأغناء شاعريته ويعزو ذلك الى طغيان المناخ السياسي على الشاعر، فإن مثل هذا التبرير غير المقنع يدفعنا الى التساؤل: ألم يكن هذا الطغيان حافزاً على ازدهار الشعر القومي عند الشاعر؟ وهنا، لعلّه من المفيد التذكير أن العامل القومي هو المغلَّب في خصومات الشاعر ومواقفه، ودليلنا على ذلك أن اختلافه في المذهب الشعري مع الشاعرة العراقية نازك الملائكة لم يفسد للود قضية بينهما إذ يجتمعان على العروبة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة الى بلبلة معينة اكتنفت استخدام الكاتب بعض المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بالخصومة، ففي حين ينفي أن يكون ثمة عداوة بين الشاعر ومن يرد عليهم من خصومه، نراه يذكر في الصفحة نفسها ما نصه: "وإذا كان المجال لا يتسع هنا لتفصيل الشواهد عن كل عداواته الأدبية المستحكمة، فإننا..." ص 61 فكيف يستقيم نفي العداوة والحديث عن عداوات في الصفحة الواحدة؟ ألم يكن الأفضل لو أن الكاتب عمد الى توحيد مصطلحاته؟ ويختم طراد هذا القسم من كتابه بجلاء حقيقة الانتماء الديني للشاعر، ذاك الذي تعدَّدت فيه الآراء وتضاربت، فيثبت وصية الشاعر الأخيرة التي كتبها سنة 1977، وفيها يقول أنه على الأرثوذكسية الآريوسية التي تقول بالتوحيد لا بالتثليث، ويوصي أن يصلّي على جثمانه كاهن وشيخ وأن يوضع على قبره شاهد فيه صليب وهلال متعانقان، غير أن وصيته لم يعمل بها. في القسم الثاني من الكتاب ينشر جورج طراد مجموعة أوراق مطوية، وهي وثائق معظمها رسائل من الشاعر واليه، وتتناول شؤوناً قومية أو اجتماعية أو أدبية أو شخصية. وقد هدف من نشرها الى "كشف العديد من الحقائق بالطبع، ولكن كذلك الى لفت أنظار أصدقاء القروي النافذين، وبعضهم لا يزال في السلطة، الى أن الرجل لم يأخذ حقه، وأن تكريمه لم يفت أوانه بعد، وان كان قد تأخر أكثر مما ينبغي". ص 89. ولعمري، انه لهدف نبيل يقتضي ممّن بيدهم الأمر العمل على تحقيقه، فهل تبادر وزارة الثقافة الى ذلك؟ أما تعامل الكاتب مع هذه الوثائق، فكان يتم "بتوزيع محتوياتها على موضوعات، ودراسة محتوى الوثيقة، ونشر صورة عنها مع النص". ص 89، غير أنه لم يكن ليراعي التسلسل التاريخي دائماً في هذه العملية، وهو لو راعاه ضمن وثائق الموضوع الواحد على الأقل لكان أفضل. وهو يمهد للوثيقة بذكر الظروف العامة والخاصة التي أحاطت بها، أو بذكر ترجمة مبتسرة لصاحبها وعلاقته بالقروي. وحين تفتقر الوثيقة الى تاريخ فإنه كان يربطها بالحدث الذي تتضمنه أو بالخط، ذلك أن خط الشاعر في آخر سني عمره اختلف عما كان عليه في السابق. الفصلان الثاني والثالث من هذا القسم هما مقالان سبق نشرهما في مجلة "الناقد" في عامي 91 و92 بمناسبة الذكرى السابعة والثامنة لرحيل الشاعر، وبعد الإشارة في أوّلهما الى ما لقيه أواخر عمره من تجاهل وضيق ذات اليد، يرصد بعض حالات البكاء الرصين والضحك المداعب في شعره من خلال أمثلة معينة. ويشير في ثانيهما الى القروي موسيقاراً، من نشأته في بيت جميل الأصوات، الى امتلاكه خامة صوتية ومعرفة بالقواعد الموسيقية، الى العلاقة الوجدانية بينه وبين العود منذ مطلع شبابه. ولا يقتصر نشر الأوراق المطوية على ما مرّ ذكره وحسب، فالكاتب ينشر "المفكرة الأخيرة" للشاعر، وهي مجموعة يوميات تقع بين 16/1/75 و18/6/75، وتتضمّن شؤوناً مالية وسياسية وقومية واجتماعية، وتكمن أهميتها في أنها: آخر يوميات القروي المدوّنة، تعكس نبضه في أيامه الأخيرة، وترهص بالحرب اللبنانية. وقد نشرها طراد كما هي من دون تمهيد أو دراسة أو تعليق، وبما فيها من وضوح وصراحة صارخة أحياناً. ومنها نستخلص بعض عادات الشاعر وميزاته في سنيه الأخيرة. فإذا به ذو ذوق صعب في الغناء، يؤثر من الفاكهة البرتقال، يعشق الطفولة، يدمن قراءة الصحف، يتلقى الرسائل، يستقبل الزوار والأصدقاء، يتعاطف مع العمل الفدائي، يدأب على قراءة آيات بعينها من القرآن الكريم، يمارس الرياضة الجسدية والروحية، ويوثق كل ما ينفق يوميّاً. ويبقى أن نشير الى أن المؤلف زيَّن كتابه بمجموعة صور للقروي منفرداً أو مع آخرين غير أن بعضها لم يرد في الموقع الملائم ما يفقد الصورة وظيفتها ويجعلها من قبيل الزائد الذي لا يقدم ولا يؤخر. وبعد، على الرغم من الهنات التي رافقت هذا العمل، وقد أشرنا الى بعضها، فإن جورج طراد بذل جهداً مشكوراً أملاه عليه الوفاء لصديقه والحقيقة، ونهض بعبء تكريم الشاعر منفرداً فرفع عنه بعض ما لحق به من غبن في سنيه الأخيرة وفي موته، وهو عمل أولى بالمؤسسات والأندية الثقافية أن تتولاه، فهل تفعل، فترفع ما تبقى من غبن، وتولي الشاعر تكريماً يستحقه؟