غالباً ما تثار مسألة العلاقة بين القانون الوطني الداخلي او المحلي وبين القانون الدولي. ويكون الامر كذلك وعلى وجه الخصوص عندما يتعلق الموضوع بقضايا حقوق الانسان وحق تشكيل الجمعيات. فالحكومات تشدد على "أحقيتها" في تشريع قوانينها الداخلية متعكّزة على قواعد قانونية دولية كاحترام مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وغيرها من قواعد القانون الدولي التي يقرها ميثاق الاممالمتحدة ووثائقها الاساسية، فتعتبر هذه المبادئ قواعد آمرة اي ملزمة في القانون الدولي JUS COGENS. أثيرت هذه المسألة اخيراً في الكثير من البلدان العربية وتعرضت منظمات عدة للتضييق ولاتهامات في خصوص دورها ووظيفتها وماليتها وذلك في اطار حملة رسمية واسعة... ولعل الجزء المثير للجدل في هذا الميدان هو "قانون المعاهدات" الصادر وفقاً لاتفاق فيينا لعام 1969، حيث يتجاوز هذا القانون في الكثير من الاحيان نطاق القانون الوطني ليحدد معايير دولية تتطلب احترامها ومراعاتها في ما يتعلق بالتشريعات الوطنية. وتثور مسألة التوافق او تكييف القوانين الوطنية وفقاً للمعايير والقواعد الدولية على نحو واسع في قضايا حقوق الانسان، وبشكل خاص عند الحديث عن الحريات والحقوق الاساسية ومنها حق التعبير وحق الاعتقاد والحق في التنظيم وتأسيس الجمعيات والحق في المشاركة في ادارة الشؤون العامة. في ميدان التشريع الوطني بخصوص حق تكوين الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني بما فيها منظمات حقوق الانسان، تحاول الحكومات، خصوصاً في العالم الثالث ومنه بلداننا العربية، التذرع بالمعايير "الوطنية" وإعلاء شأنها على حساب المعايير الدولية بتأكيد اسبقية وأولوية القانون الداخلي على القانون الدولي، في محاولة للتحلل احياناً من الالتزامات الدولية بهذا الخصوص، تلك التي تمليها مواثيق حقوق الانسان من جهة وقواعد القانون الدولي من جهة اخرى. وقبل مناقشة الفكرة التي تشكل جوهر الاشكالية بين التشريع الوطني والتشريع الدولي في ما يتعلق بقضايا حقوق الانسان، سأتطرق سريعاً الى بعض الاتجاهات او المدارس القانونية بهذا الخصوص. الاتجاه الاول - المحلي، وهو الذي يذهب الى القول ان القانون الوطني المحلي يتقدم على القانون الدولي. الاتجاه الثاني - الدولي، الذي يعاكس الاتجاه الاول، وهو الذي يحدد اسبقية وأولوية قواعد القانون الدولي على القوانين الداخلية في كل من الاحكام الدولية والمحلية. يضع الفقيه البريطاني كلسن القانون الدولي في المنزلة الاولى. وبالتالي فإنه لا يضع حدوداً بين السلطة الوطنية والقانون الدولي، ذلك ان صلاحيات الدول مستمدة من فكرة القانون وهذا الاخير هو الذي منحها ولاية ممارسة هذه الصلاحيات، الامر الذي يجعل القانون الدولي والوطني متلازمين في اطار نظام واحد هو "القانون". الاتجاه الثالث وهو ما يمكن ان نطلق عليه "المدرسة الثنائية"، وهو ما ذهب اليه الفيلسوف الالماني هيغل، فالقانون الدولي والقانون الداخلي مجالان مختلفان للاجراءات القانونية. ولا ينبغي ان يكون هناك تنازع بينهما، فهما مختلفان بسبب الاختلاف في: 1- مصادرهما: في القانون الداخلي يشكل العرف الذي نشأ داخل حدود الدولة والقوانين التي سنتها سلطة اصدار القانون التشريع الداخلي المصدر الاساسي. اما في القانون الدولي فإن العرف بين الدول اضافة الى المعاهدات التشريع الدولي الاساس في مصادر القانون الدولي. 2- علاقة تنظيمهما: القانون الداخلي ينظّم العلاقة بين الافراد في الدولة ذاتها والعلاقة بين الدولة والفرد. اما في القانون الدولي فإن المجال الاساسي هو تنظيم العلاقات بين الدول اضافة الى المنظمات الدولية وبشكل محدود الافراد. 3- جوهر القانون: القانون الداخلي هو قانون دولة ذات سيادة على الافراد الخاضعين لها. اما القانون الدولي فتشكل فكرة العلاقة بين الدول ذات السيادة على اساس التوافق والتعايش جوهر فكرة القانون وليس الخضوع او التبعية. الاتجاه الرابع - التوفيقي، فالمدرسة التوفيقية ترفض الاتجاه الواحدي الداخلي او الواحدي المعاكس اي الدولي ولا تتفق مع الاتجاه الثنوي، وتفترض هذه المدرسة عدم وجود تنازع بين القوانين الداخلية والدولية، اذ ان نقطة البدء هي الانسان وعلاقته بالانسان. ويقع الفرد في نطاق كل من الولايتين الداخلية والدولية، لأنه يعيش حياته في كل منهما وفي نطاقهما. ويذهب اصحاب هذا الاتجاه الى القول: ان القانون الدولي والداخلي هما مجموعتان منسجمتان من المبادئ، وكل منهما مستقلة عن الاخرى لأنها موجهة الى مجال محدد للسلوك الانساني ومنفرد الى حد ما، لكنهما متفقتان في ان القواعد العامة في مجملها تهدف الى تحقيق رفاهية اساسية للانسان. واستناداً الى هذه الاتجاهات فهناك دول تضع الاعتبار الداخلي اولاً وقبل كل شيء والاخرى تضع القانون الدولي في المقدمة. اما الاتجاه الثالث فإنه يفترض ثنائية وعدم تنازع لاختلاف المصادر والعلاقات التي ينظمها وجوهر ومحتوى القاعدة القانونية. اما البعض الآخر فيحاول ايجاد نقطة توافق بين القانونين بافتراض عدم وجود تناقض. واذا كان اتفاق فيينا حول قانون المعاهدات للعام 1969 دعت الى توافق وانسجام وتكييف للقوانين الوطنية مع المعايير والالتزامات الدولية، فإن دولاً عربية غضت الطرف عن هذه المسألة الملزمة التي ترتبها اتفاقية فيينا على رغم توقيعها عليها، خصوصاً المواءمة بين التشريع الوطني والتشريع الدولية بما في ذلك قانون المعاهدات. فماذا ترتب اتفاقية فيينا: تعرف المادة الثانية، الفقرة 1 من اتفاقية فيينا المعاهدة الدولية بأنها "اتفاق دولي معقود بين دولتين او اكثر بصورة خطية وخاضعة للقانون الدولي...". وبهذا المعنى فلا يجوز لطرف الاستناد الى احكام دستوره او قانونه الداخلي كمبرر لعدم الوفاء بالتزام دولي تعهد به بموجب المعاهدة، وذلك استناداً الى مبدأ فقهي عام يقول: ان العقد شريعة المتعاقدين. وجهة النظر هذه تطرح مسألة العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي. وهي مسألة غالباً ما يتكرر طرحها بالارتباط مع المادة 46 من اتفاقية فيينا التي تؤكد "لا يجوز للدولة ان تستظهر بأن التعبير عن موافقتها على الالتزام بمعاهدة ما تم على وجه سينطوي على خرق حكم من احكام قانونها الداخلي، يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كمبرر لإبطال موافقتها تلك، ما لم يكن هذا الخرق بيّناً ومتصلاً بقاعدة ذات اهمية اساسية من قواعد قانونه الداخلي". ويلاحظ هنا ان اتفاقية فيينا اشترطت الخرق البيّن اولاً وثانياً، وهذا يفهم من مضمون النص: التصرف بحسن نية. فبعض الدول يعتبر التنفيذ التلقائي المشروط بالنشر في الجريدة الرسمية كافياً لتأكيد الالتزام بأحكام المعاهدة الدولية. والبعض الآخر يؤكد على ان ذاتية التنفيذ ليست تلقائية بل تتطلب اصدار تشريع تنفيذي خاص. والبعض الآخر يؤكد اسبقية القانون الداخلي مع ادماج احكام المعاهدة به لتأخذ بُعداً دولياً. وهناك بعض الدول التي تعتبر المعاهدة جزءاً من القانون الداخلي، طالما تم التصديق عليها. واذا كان موضوع قانون المعاهدات يشكل سقفاً للعلاقة بين التشريعين الوطني والدولي، لا بد من مراعاته كإطار عام، فإن الحق في تكوين الجمعيات ASSOCIATIONS الذي تنص عليه مواثيق حقوق الانسان يشكل نقطة احتكاك تحاول فيها بعض الحكومات التحلل من التزاماتها المنصوص عليها في الكثير من الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها، فضلاً عما ينص عليها دساتير بعضها. اذ لا يمكن اعتبار اي نظام يتمتع بالديموقراطية من دون كفالة هذا الحق، اضافة الى الحقوق الاخرى ولو بحدودها الدنيا. ان حق تكوين جمعيات لها اهدافها ومبادئها وبرامجها وتوجهاتها وأسماؤها خارج اطار السلطات الحاكمة ومن دون تدخل، يعتبر الاساس في انشاء وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وبما يوفر لها شخصية اعتبارية في امكانها رفع الدعاوى امام القضاء وتلقي الاشتراكات والمساعدات. ونص الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10/12/1948 في المادة 20 على: 1- لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والاجتماعات السلمية. 2- لا يجوز ارغام احد على الانتماء الى جمعية ما. اما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في 16/12/1966 والنافذ ابتداءً من 3/6/1976 فقد نص في المادة 21 على ما يلي: "يكون الحق في التجمّع السلمي معترفاً به. ولا يجوز ان يوضع من القيود على ممارسة هذا لاحق. الا تلك التي تفرض طبقاً للقانون وشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديموقراطي". ونصت المادة 22 على: "لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين بما في ذلك حق انشاء النقابات والانضمام اليها من اجل حماية مصالحه. هذه الحقوق وما ترتب من التزامات على الحكومات والدول لا يمكن ردّها استناداً الى مبدأ السيادة التقليدي او مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية. فمع انهيار جدار برلين وتداعي اركان نظام القطبية الثنائية الدولي، بدأ نمط جديد من العلاقات الدولية. وإن كان لم يكتمل بعد فضلاً عن تناقضه واتسامه بعدم التكافؤ والكيل بمكيالين او التعامل بطريقة انتقائية في الكثير من الاحيان، الا انه على رغم كل شيء حدد بعض الملامح الجديدة للعولمة بما عليها من تحفظات ومساوئ وهو كثير جداً وبما لها من مزايا وإن كانت قليلة، فهي مشروطة بحسن الاستخدام والاستفادة من الظروف الجديدة التي خلقتها، اذ لا يمكن رفضها او اعلان عدم الدخول في صومعتها وحسب، لاتقاء شرورها وآثارها. بمواثيق حقوق الانسان والقانون الدولي؟ ان صدور عدد من الاتفاقات الدولية بخصوص حقوق الانسان جعلها لا تنحصر بولاية قضائية داخلية وحسب، بل وضعها في مصاف القضايا التي تعتبر من صميم القانون الدولي. فالدول بتوقيعها وانضمامها الى المعاهدات والاتفاقات الدولية، تكون قد سلمت بجزء من سيادتها الى المجتمع الدولي. وسمحت بتدخله لمراقبة سجلّها في ميدان حقوق الانسان وحرياته الاساسية. هذا التطور الفعلي، بغض النظر عن ابعاده الآنية والمستقبلية، الا انه ينبغي ان يؤخذ في الاعتبار في ما يتعلق بتشكيل وعمل ونشاط منظمات حقوق الانسان وحركتها في مواجهة الضغوط والتحديات التي تحيق بها من مختلف الاتجاهات. * كاتب عراقي مقيم في لندن.