لم تنجح الآلة الإعلامية فقط في إشغال الناس، جميع الناس، بخرافات تأكد بعد مرور أيام قليلة مدى الوهم والخيال الذي فيها، والذي وقع العالم كله فيه، لكنها حققت هيمنة على القرارات والمواقف السياسية والاقتصادية. ولا نزال نذكر ما بلغ من انشغال الناس تحسباً لمشكلة الصفرين Y2K. وشغلت الأجهزة الأمنية والإعلامية في جميع أنحاء العالم فيما استُدرجنا إلى اعتقاد حدوث غارات وعمليات يخطط لها بن لادن، ولا يقدر عليها سوى سوبرمان وجيمس بوند و... هتلر شخصية كرتونية في رسوم الأطفال تفوق الأول بتريليون ضعف على الأقل. وقال لي صحافي أردني يراسل مؤسسة إعلامية أميركية، انه تقاضى عما كتبه عن بن لادن أكثر من خمسين ألف دولار. ولنسأل ببساطة عن تكاليف التغطيات الإعلامية للمراسلين الذين سافروا مع فرق التصوير والعمل في أنحاء العالم، وقد قابلت عدداً منهم في عمان جاؤوا للكتابة عن بن لادن والخلايا المرتبطة به في عمان، والتي اكتشفت مخططاتها لتدمير احتفالات الألفية الثالثة لحسن الحظ! قبل تنفيذها . ونحن في الأردن محظوظون فقط باكتشاف العمليات الإرهابية، ولا أعرف لماذا لا يطاوعنا الحظ باستخراج البترول، وزراعة الصحراء، ومعرفة شبكات الفساد!. فقد اكتشفت خلال السنوات الأربع الفائتة 707 عملية إرهابية، لكن وسائل الإعلام المحلية والخارجية تحدثت عن عشرة عمليات على الأكثر منذ 1991، وكانت جميعها تقع في دائرة التخطيط لعمليات، أو محاولات ساذجة محدودة. ولا بد أن العمليات ال697 الأخرى التي لم نسمع عنها كانت أقل أهمية وتأثيراً من عمليات الأفغان، وجيش محمد، والنفير، وغيرها مما لا تساوي إمكاناتها المالية والفنية مجتمعة ما توفر لصديقي مراسل الصحيفة الأميركية من أموال وكاميرات تصوير، وفريق مساعد، وسيارات... وبرغم ذلك يبدو خيالياً أو مجنوناً من يشك في حجم وجدية المواجهات بين الأجهزة الأمنية والعسكرية في جميع أنحاء العالم كله وبين عصابات بن لادن. وأكاد أصدق، وأنا أراجع نفسي كل يوم لأتأكد أني لست غبياً، أن دولة الطالبان لا بد أنها تملك الكثير من الأموال والجيوش والمفاعلات النووية والأقمار الاصطناعية والخيال العلمي وأدب الأطفال وأجهزة الاتصال والكمبيوتر والخبرات القتالية والتدريبية والصواريخ النووية التي يحملها الأفراد على أكتافهم والقنابل الهيدروجينية التي يمكن إخفاؤها في الحقائب. لكني كلما تذكرت قصة الطفل الذي كان وحده قد رأى الملك عارياً، أعود وأواصل عنادي معتقداً أن هؤلاء الهواة البائسين سيقوا رغماً عنهم إلى مباراة تشبه مباراة ملاكمة بيني وبين تايسون، وأن العالم يراقب باستمتاع ودهشة مثله مثل جمهور الملاكمة والمصارعة الحرة. في قصة "أبو الحروف" الكرتونية، تحدث مواجهة غير منتهية بين خربوط وأبو الحروف: الأول يغير الحروف والنقاط في أسماء الأشياء فتتحول تبعاً لتغير الحروف والنقاط، فحين يضغط على جهازه يصبح الجرس "جرش" المدينة الأثرية، ويأتي أبو الحروف فيعيد النقاط إلى مكانها وتعود المدينة جرساً. تكاد تكون هذه القصة المدخل الوحيد لفهم ما يدور من صراع بين خربوط طالبان وبن لادن وأبو الحروف حلف الأطلسي وكلينتون. يعتقد ألفن توفلر أشهر من كتب في التحولات الجارية بفعل المعلوماتية والتقنيات الجديدة، أن العالم متجه للعودة إلى مجتمع زراعي جديد يوائم بين التقنيات المتقدمة والحياة الزراعية السابقة للثورة الصناعية في القرن السابع عشر، والتي تشمل معظم مسار البشرية منذ تحولت من الرعي والصيد قبل آلاف السنين. وهذا يشمل بالطبع الثقافة والرواية والموسيقى والفن والمعتقدات والأساطير. ألا يبدو ما يحدث بالفعل عرضاً مسرحياً حياً لقصص "مسخ الكائنات" وهرقل، وأبولو، وأبو زيد الهلالي، والزير سالم؟ المسألة تبدو حالة دراسية تصلح للمناقشة والتحليل. ولعل الزميل مارك صايغ يجد فيها الكثير مما يصلح للدراسة والتأمل و... الكتابة.