قال الداعية الاسلامي الاميركي الأسود لويس فرخان عبارة ذكية يوماً، فقد لاحظ ان "اللاسامي" كان في الماضي شخصاً يكره اليهود، وأصبح اليوم شخصاً يكرهه اليهود. تذكرت تلك العبارة وأنا أتابع الحكم الذي اصدره القاضي تشارلز غراي ضد المؤرخ ديفيد ارفنغ الذي كان رفع قضية على البروفسورة اليهودية الاميركية ديبرا ليبشتات ودار النشر بنغوين بعد ان اتهمته بأنه "منكر للمحرقة". القاضي أكد التهمة وزاد عليها من عنده فهو وجد ان ارفنغ "جدلي يميني مؤيد للنازية"، وانه حوّر السجل التاريخي ليتفق مع "اجندته" السياسية. ارفنغ "لاسامي" بالتأكيد، وقطعاً بحسب تعريف لويس فرخان، فهو شخص يكره اليهود وهم يكرهونه. غير انني توقفت عند تهمة "منكر للمحرقة"، فلماذا هي تهمة؟ شخصياً أعتقد ان المحرقة حدثت، ولا سبب للشك عندي في عدد الضحايا، لذلك لا مشكلة لليهود معي او لي معهم. غير انني وأنا اختلف مع ارفنغ على هذه النقطة بالذات، لا أرى سبباً يمنعه من ابداء رأي معارض او مخالف او مناقض، خصوصاً في بلاد تحمي حرية الفكر والقول. أليس هذا هو نص التعديل الأول للدستور الاميركي وروحه؟ هو اذا قال ان المحرقة لم تقع يكشف سخفه او ضحالة تفكيره، غير ان الذين يمنعونه وكل انسان يشكك في وقوع المحرقة، أو عدد الضحايا، يكشفون عداء لحرية الكلمة. ارفنغ كان سخيفاً بالتأكيد عندما قرر ان يدافع عن نفسه، فهو مؤرخ، الا انه ليس محامياً، وما كان يمكن ان ينتهي بغير الخسارة، وهو يواجه فريقاً قانونياً من مستوى رفيع. قرار القاضي غراي وقع في 66 صفحة لن أثقل على القارئ بشيء منها، وإنما أقول ان هذا القاضي كان محاميَّ في القضية الوحيدة التي رفعتها في حياتي وهي قضية كسبتها، وكان آخر ما سمعت عنه قبل ان يصبح قاضياً انه خسر الدعوى التي رفعها النائب السابق جوناثان ايتكن على جريدة "الغارديان"، بعد ثبوت كذب موكله. وكان غراي واجه في تلك القضية أحد اشهر محامي القدح والذم في بريطانيا، وهو المحامي جورج كارمان، فأرجو من القارئ ان يذكر هذا الاسم، لأنني قد أعود اليه في المستقبل القريب في موضوع آخر. على كل حال سجلت سطوراً عن قضية ارفنغ قبل ان تضيع في زحمة ما يهمنا من اخبار، خصوصاً ان اجتماع الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء ايهود باراك صرف الأنظار العربية عن كل خبر آخر. شخصياً، أحاول ألا أكون أحادي النظرة الى الأمور، وقد تابعت مع اخبار الشرق الأوسط اخباراً أخرى تستحق تعليقاً سريعاً. وأبقى مع القضاء، فقد قضت محكمة في فلوريدا بأن تدفع شركات صنع السجائر 6.9 مليون دولار لاثنين من المدخنين اصيبا بالسرطان. وكانت 46 ولاية اتفقت مع شركات صنع السجائر سنة 1998 على ان تدفع لها 246 بليون دولار، في مقابل ما تكبدت هذه الولايات على علاج المواطنين المدخنين. غير ان القرار الأخير يعني ان يستطيع المدخنون في ولاية واحدة ان ينتزعوا من الشركات ما يتراوح بين 200 بليون دولار و300 بليون دولار. ولست محاسباً، الا اننا لو اخذنا الرقم الأصغر وضربناه بخمسين ولاية، لوجدنا اننا نتحدث عن عشرة ترليونات دولار، وهو مبلغ خرافي يوازي دخل أوبك حتى نهاية القرن كله. مع ذلك شنوا علينا حملة عندما ارتفعت اسعار النفط، مع ان المنتج لا يحصل على اكثر من عشرة في المئة من سعر البيع بالمفرق، في حين تذهب التسعون في المئة الباقية الى الضرائب والأرباح ونفقات التكرير والشحن وما الى ذلك. ومن يدري، فربما رفعوا علينا دعوى في المستقبل تطالب بتعويضهم عن تلويث البنزين الجو. أبقى مع الاميركيين وفلوسهم، فالأسبوع هذا جمع الجمهوريون في مجلس النواب مليون دولار في يوم واحد بعد ان دعوا 500 متبرع لتقديم اقتراحاتهم عن السياسة الضريبية لأعضاء لجنة الاعتمادات في الكونغرس. اما الديموقراطيون فأنشأوا منتدى الأعمال الديموقراطي، وشرط الانضمام اليه ان يقدم الراغب عشرة آلاف دولار للحملة الانتخابية للحزب. الانتخابات في اميركا صناعة، والثري يجد من يمثله او يستمع الى آرائه، اما اذا كان لا يملك عشرة آلاف دولار يهديها لحزبه المختار، فهو يعمل اجيراً بالساعة، ويموت فلا يشعر به احد او يحزن عليه. ومن يدري فربما كان هذا أفضل ما في الديموقراطية على الطريقة الأميركية التي يوجد من يصرّ على ان خلاصنا باتباعها. طبعاً، هناك اميركيون لهم رأي آخر، وقد توافدوا على واشنطن طوال الأسبوع للتظاهر في نهايته احتجاجاً على اجتماع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتضيق الصفحة، والجريدة، عن تسجيل قائمة الجماعات والجمعيات المشتركة او القضايا المثارة، الا ان اهمها الفقر في العالم الثالث، ودور المؤسسات العالمية في ترسيخه، مع اصرار اركان هذه المؤسسات على انهم يعملون لمساعدة الدول الفقيرة على قهر الفقر. والدول الفقيرة ستقهر الفقر قطعاً اذا استطاعت ان تدفع فائدة المرابين المطلوبة السودان عليه ديون بحوالى 17 بليون دولار، اي ما يعادل دخله القومي السنوي مرتين ونصف مرة. وعلى نطاق اخف وطأة، فهناك "إن سنك"، وهي فرقة غناء أميركية لم أسمع غناءها او أسمع عنها، وإنما قرأت انها باعت في يوم واحد 1.1 مليون نسخة من أغنية جديدة لها بعنوان "بلا قيود أو شروط"، وباعت في الأسبوع الأول 2.4 مليون نسخة، والرقمان يزيدان مرتين على الرقمين القياسيين السابقين، لبيع أغنية في يوم أو أسبوع. ولا بد ان دخل اعضاء الفرقة حتى كتابة هذه السطور يطعم كل جياع اثيوبيا.