هل كان يخطر في بال احد في العام 1980 حين رحل المفكر والكاتب الفرنسي جان بول سارتر عن عالمنا، ان قومه سوف يضعونه على رفوف النسيان طوال العشرين عاماً التالية؟ لقد حدث هذا ومن دون اي سبب وجيه. فسارتر لم تقادم به العهد وكتاباته لم تعرف الشيخوخة، والمبادئ السياسية والفكرية اليت امضى حياته مدافعاً عنها، كانت هي الاقرب الى الانتصار والديمومة، في وقت انهار فيه الكثير من الاقطار والايديولوجيات، وبات عشرات الكتّاب والكتب مستحقين لأكثر من مجرد النسيان. الذي حدث هو ان الفكر الفرنسي، وحديداً خلال العقود الاخيرة من السنين، بات فكر "وض" جمع "موضة" تظهر وتختفي تبعاً لقوة جاذبيتها الاعلامية. وجدية فكر سارتر، بما في ذلك ايمانه بالدور النضالي للمثقف والتزام هذا الاخير، كانت خرجت من الموضة. لكن المشكلة، بالنسبة الى خصوم سارتر. كنت في ان تلك الجرية لم يمكن ادخالها المتحف، بل بقيت هناك ماثلة في منتصف الطريف تلهم الكثرين، دون ان يعترفوا بذلك، حتى اقترب موعد الذكرى العشرين لرحيل صاحب "الذئاب" و"الشيطان والرحمن" و"الكلمات"، فانبعث سارتر من رقاده وعاد الحديث عنه، وراحت تظهر الكتب تلو الكتب، محولة اياه الى "موضة" من جديد. ووصل الامر بواحد من "الفلاسفة الجدد" - من الذين كانوا خاصموا سارتر طويلاً، ووصفهم احد المفكرين بأنهم لا فلاسفة ولا جدد - الى ان يؤلف كتاباً ضخماً يقول فيه ان سارتر كان، بعد كل شيء. رجل القرن العشرين بامتياز. الذكرى العشرون لرحيل سارتر، تقع اليوم، اذ انه رحل عن عالمنا يوم 15 نيسان ابريل 1980. وهو حين رحل، ودفن في مقبر مونبارناس، وسط باريس، غير بعيد من مكان سكنه ومن مقاهيه المفضلة رافقته الى مثواه الاخير جماهي حاشرة، لم يسبق ان حظيت بمثلها جنازة اي زعيم فكري من طراز سارتر. فالواقع ان سارتر كان ذا سعبية كبيرة، ليس فقط بفضل كتبه الفكرية او الادبية، بل تحديداً وخاصة بفضل خوضه النضال في الشارع الى جانب المهمشين والذين تضيع حقوقهم. كان هو صاحب مبدأ التزام المثقف، المبدأ الذي اتبعه طوال حياته وكلفه غالياً. بل جعله يبدو صاحب تقلبات، وجعل حتى حلفاءه يقفون ضده حين ينقلب ضدهم هو اذ يكتشف اضطادهم. ولد سارتر العام 1905 في باريس، يتيم الاب، فتولى تربيته جده شارل شفايتزر، والد الطبيب والانساني البرت شفايتزر. وسارتر يروي لنا طفولته في كتاب سيرته "الكلمات" الذي اصدره في العام 1964 اي العام نفسه الذي رفض فيه جائزة نوبل حين مُنحها. ويروي لنا سنوات دراسته ورفقته لبول تينان اولاً ثم لخصمه اللدود بعد ذلك ريمون آرون. وهو تعرف على سيمون دي بونوار وارتبط بها منذ العام 1929. بين اواخر العشرينات والعام 1945 تولى سارتر تدريس الفلسفة. لكنه في العام 1933 ذهب الى المانيا حيث درس هايدغر ورهاسرل وتحول الى الوجودية مبتكراً واحداص من اشهر فروعها: الوضودية الحدة الملتزمة. ومنذ ذلك الحيث جعل مبدأ الحرية المبدأ الذي يقود خطواته. وكان هو الذي ادخل الى فرنسا الوجودية الامانية والظواهرية. اما كتاباته الدبية فبدأت بالظهور في العام 1938 حين نشر روايته الاولى "الغثيان" ثم الحقها بمجموعته "الجدار" ولم يتوقف بعد ذلك عن الكتابة، حتى حين جُند في الجيش، او حين التحق بالمقاومة خلال الحرب العالمية الثانية. وملفت في هذا الاطار ان يكون كتابه الاهم "الوجود والعدم" صدر في العام 1943. طبعاً من الصعوبة بمكان، في هذه العجالة الحديث عن كل ما كتبه سارتر، فمؤلفاته، على شكل كتب او محاضرات اكثر من ان تحصى. ولكن يمكن مع هذا الاشارة الى بعض ابرزها مثل ثلاثية "دروب الحرية" ومسرحية "الايدي القذرة" وكتاب "تعالي الأنا" و"نقد العقل الجدلي" و"الوجودية نزعة انسانية". كما يمكن الاشارة الى اصداره، مع دي بوفوار وآخرين، مجلة "الازمنة الحديثة"، ودفاعه عن العالم الثالث، ووقوفه الى جانب المعسكر الاشتراكي، حتى كانت مأساة المجر في العام 1956، فانصرف عن ذلك الوقوع وأصبح من اشد الخصوم لموسكو عداء لها. وهو وقف مع ثورة الطلاب الفرنسيين في العام 1968، ووصل الى حد بيع الصحف التقدمية على قارعة الطريق. كل هذا جعل له شعبية وحضوراً كبيرين. وجعل رحيله في العام 1980 يعتبر نهاية عصر في الحياة الفكرية الفرنسية، وما عودته الى الواجهة اليوم سوى مظهر من مظاهر الحنين الى ذلك العصر. الصورة: جان بول سارتر