على رغم فترات الجمود التي طرأت على مفاوضات التسوية بين اسرائيل والعرب في السنين الماضية خصوصاً مع اقتراب التوصل الى اتفاق سوري - اسرائيلي، لم تتجمد ولم تتراجع المفاوضات الاسرائيلية - الاميركية حول طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الحليفين في المستقبل. بل ان النقاشات، التي شارك فيها ايهود باراك وديفيد ليفي وشاوول موفاز وغيرهم، شهدت هذه الأيام سخونة غير موسمية، سعياً الى التوصل الى تفاهم استراتيجي وعسكري يمهد لمعاهدة دفاع مشترك بين البلدين تكون الركيزة الاستراتيجية لاتفاقات السلام المبرمة مع الأطراف العربية. وفي الوقت الذي انشغلت وسائل الاعلام بالمشهدين اللبناني والفلسطيني، أخيراً، عادت اللجنة الاستشارية الثنائية الخاصة فكثفت اجتماعاتها لتحضير اقتراحات وافكار حول طبيعة المعاهدة، بإشراف الرئيس السابق لمجلس الأمن الاسرائيلي في مكتب رئيس الوزراء، السفير الاسرائيلي الجديد في واشنطن ديفيد عفري، ونيد ووكر مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وبتأثير كبير للسفير الاميركي في اسرائيل مارتن انديك الذي يتصرف كمبعوث باراك الخاص لدى واشنطن. وتأمل ادارة كلينتون بأن تمرر المعاهدة الجديدة بأكثرية ثلثي مجلس الشيوخ قبل الانتخابات الاميركية في نهاية السنة، مما يسهل عليها تمرير مساعدات عسكرية جديدة لاسرائيل تقدر في الفترة الأولى بنحو 17 بليون دولار من دون أي معارضة. وتأمل حكومة باراك بأن تستغل نهاية عهد كلينتون وحاجة الديموقراطيين الى مكسب سياسي يتضمن انصياع الجمهوريين قبل الانتخابات، لكي تنتزع مجموعة من المساعدات المالية والعسكرية وعدداً من التنازلات في الجانب الاجرائي والسياسي الذي تصر عليه واشنطن في العادة، كما هي الحال مع اليابان وكوريا الجنوبية كذلك مع حلف الاطلسي. وكانت حكومة اسحق شامير استغلت هي الأخرى نهاية عهد رونالد ريغان حين توصلت الى "وثيقة اتفاق" جديدة سنة 1988 تجدد فيها التعهدات الاميركية التي تضمنتها "وثيقة التفاهم" التي سبقتها في صلب الحرب الباردة، وتتعداها الى تعهدات وآليات عمل جديدة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية العسكرية. ولكن هذه المرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي تقوم فيها الولاياتالمتحدة ببحث معاهدة دفاع مشترك مع احدى حليفاتها، ما يعطي هذه المفاو ضات أهمية خاصة كونها تشكل اسبقية لفترة ما بعد الحرب الباردة. ولكنها بالمعنى نفسه تبرز الأهمية التي توليها واشنطن لاسرائيل ولدورها في منطقة الشرق الأوسط في فترة ما بعد السلام. ونقل ألوف بن أحد المحللين الاستراتيجيين الاسرائيليين في نهاية السنة الماضية عن بعض المشاركين بأنه ليس هنالك الكثير من الامتيازات الجديدة التي يمكن ان تحصل عليها اسرائيل من خلال هذه المعاهدة، والتي لم تتضمنها الاتفاقات السابقة والتي منحت اسرائيل تعهداً اميركياً صريحاً بالحفاظ على تفوق اسرائيل العسكري في المنطقة وعلى تأمين قدرة على الردع الاستراتيجي تتضمن قوة عسكرية قادرة على دحر مجموعة من تهديدات مجتمعة، وكان الرئيس كلينتون جدد التعهد الاميركي في الاعلان المشترك مع رئيس الوزراء شمعون بيريز عام 96 ثم اكده في الاعلان المشترك مع ايهود باراك في شهر تموز يوليو السنة الماضية. لكن المعلق العسكري زئيف شيف جدد قبل اسابيع الحديث على مخاوف حكومة باراك من اتفاق تضطر اسرائيل، اذا ما وقعت عليه، ان تلتزم من خلاله التنسيق مع واشنطن قبل تحريك قواتها العسكرية مهما كان السبب، وتسمح للقوات الاميركية التمركز على أرضها في حالات ما. وهو ما ترفضه المؤسسة العسكرية الاسرائيلية لأنه يقيد حركتها في المنطقة. وكان قد رفضه اسحق رابين في حين انه لا يروق لباراك، على رغم ما يقال عن حماس شمعون بيريز وبن غوريون من قبله لمثل هذا الاتفاق مع القوة العظمى.... الوحيدة، والذي يمكن ان يضمن أمن اسرائيل وسلامتها من دون اي التباس. واذ تحتم معاهدة دفاع مشترك، من النوع المطروح حالياً، على القوات الاسرائيلية ان تشارك في عمليات اميركية، الا ان ادارة كلينتون قد اعفت اسرائيل من هذه المهمة. اما بالنسبة الى مبدأ حرية الحركة للجيش الاسرائيلي، فهو لا يزال، كما يبدو، موضع خلاف مع اصرار البنتاغون على عدم التورط في معاهدة لا تلزم اسرائيل حداً أدنى من التنسيق خوفاً من توريط القوات الاميركية في حروب اسرائيلية يمكن تفاديها. ورفض البنتاغون في هذه الاثناء طلب اسرائيل شراء صواريخ "توماهوك - كروز" الأكثر تقدماً في الترسانة الاميركية. ولكن اذا تراجع البنتاغون عن شروطه بضغط من اللوبي الصهيوني ومن ادارة كلينتون فإن العرب سيكونون امام حال خطيرة تسمح لاسرائيل بأن تتصرف كقوة عظمى في المنطقة من دون ان تحمل المسؤولية التي تحتمها مثل هذه التصرفات، وهذا يمكن ان يقود الى حال توتر من نوع جديد في الشرق الأوسط. وتحاول ادارة كلينتون تجسير الهوة بين مطالب البنتاغون ورغبات اسرائيل لتأمين توقيع قبل نهاية السنة على اتفاق تعتبره انجازاً آخر لها. ويبحث البيت الأبيض عن الصيغة المناسبة لإعفاء اسرائيل من الالتزامات المترتبة مع السفير مارتن انديك الذي تنسق حكومة باراك معه في تل ابيب لضمان أكبر قدر من المساعدات والتعهدات الاميركية. وبمقدار ما يعنيه ذلك، في حال تحقيقه، من تحول الجنود الاميركيين الى "مرتزقة عند الاسرائيليين" أو على أحسن الأحوال من ان يصبح الراعي الاميركي شرطياً يعمل لمصلحة اسرائيل، فإنه يعني كذلك تعميق علاقة التبعية الاسرائيلية لأميركيا، وتقوية المشروع الاميركي - الاسرائيلي في المنطقة على حساب حرية الحركة واستقلالية القرار العربي، وتكريس اسرائيل قاعدة عسكرية اميركية من دون تمويهات أو استثناءات. وبهذا المعنى فإن المفاوضات الساخنة بين اسرائيل واميركا تزيد في أهميتها للعالم العربي وللاستقرار والسلام في المدى البعيد على تلك المفاو ضات التي تدور حول الجولان وأبو ديس. وكان لا بد من طلب ايضاحات وضمانات في ما يتعلق بالعلاقة الاميركية - الاسرائيلية المستقبلية. فإذا عزمت اسرائيل على ان تصبح عضواً مسالماً في شرق أوسط مستقر، وإذا انتهت الحرب الباردة، فما الحاجة لمعاهدة استراتيجية جديدة ومن نوع الدفاع المشترك هذا؟