"ماذا تريد ان تصبح"؟ هذا السؤال كان يتكرر بشكل شبه يومي على مسامعنا أيام المدرسة خلال عقد السبعينات. والمشكلة لم تكن في السؤال بقدر ما كانت في الاجابة. فقد تعودنا على تكرار اجابات ذات وزن ثقيل مثل "اريد ان اصبح طبيباً او مهندساً" بغض النظر عن رغباتنا. وعندما كان احدنا يخرج عن القاعدة ويقول بغير ذلك كان الجميع يقهقه ضاحكاً عليه. ولا يختلف الأمر سواء اكان ذلك في المدرسة ام في البيت ام عند الجيران. ومما اتذكره في هذا الاطار ان الاهانات لاحقتني لأشهر طويلة عندما قلت ذات يوم اني ارغب بأن اكون فلاحاً متخصصاً في تربية الابقار والنحل. وشارك في توجيهها بالاضافة الى زملائي الجيران والأهل وباقي الاقرباء. واليوم وبعد مرور اكثر من عقدين على هذه الذكريات كررت نفس السؤال على نماذج من صفوف نفس المدرسة التي كنت فيها. وعلى ضوء الاجوبة ظهر ولحسن الحظ ان هناك تغيرات تنطوي على رغبات بتعلم مهن وحرف عادية حدادة، نجارة، ميكانيكي… الخ لم يكن لها موقع في اجاباتنا عندما كنا في سنهم. غير ان هذه التغيرات لم تصل بعد الى المستوى الذي يمكن من خلاله الحديث عن تحول جوهري. فأكثر من نصف الرغبات المعلن عنها لا تزال تدور وتحوم في مجالي الطب والهندسة. ويبدو ان بوادر البطالة التي وصلت الى صفوف الاطباء والمهندسين في العديد من مدننا خلال العقد الماضي قادت الى تراجع اعداد المغرمين بتخصصاتهم. وبعيداً عن اللاذقية حيث زرت المدرسة شاءت الاقدار ان تزور ابنتي احدى مدارس العاصمة الالمانية برلين. وعلى غير ما هي عليه الحال في بلداننا تبدو غالبية طلابها راغبين بتعلم الميكانيك والالكترون والكهرباء والنجارة والحدادة وتنسيق الزهور والحلاقة والبناء… الخ. ولا تتجاوز نسبة المهتمين منهم بدراسة الطب والهندسة اكثر من 10 في المئة في احسن الاحوال. وتراعي ادارة المدرسة واساتذتها منذ الآن ميول الطلاب ورغباتهم. ويظهر ذلك من خلال توثيقها وتقديم الحوافز التي تساعد على تنميتها بالتعاون مع الاهل. ولا يلفت الانتباه هنا مدى الجدية التي يوليها الجانبان للأمر وحسب. فكلاهما يظهر احتراماً كبيراً لرغبة الناشئة ويبني مواقفه حيالها على ضوء ذلك. تعكس الحالتين المذكورتين نظرتين متعارضتين لمجتمعين تجاه المهن واهميتها. ففي المجتمع السوري وباقي المجتمعات العربية ما تزال تهيمن النظرة الدونية تجاه مكانة المهن والحرف العادية ولو بدرجات مختلفة. فالطالب او الشاب الذي يختار تعلمها يصنف في خانة المقصرين او الفاشلين علمياً بغض النظر عن رغبته وهواياته. ولا يغير من جوهر الأمر ان مثل هذا التصنيف ليس قاسياً في بلدان كتونس ولبنان وسورية ومصر كما هي عليه الحال في بلدان الخليج. وتؤثر نظرة المجتمع هذه على اختيار شبابنا سلباً. فاذا رغب احدهم بتعلم احداها تراه يواجه المعارضة واللوم تارة وعدم الاعتبار الذي يصل احياناً الى درجة التهكم تارة اخرى. ويشكل هذا احد الاسباب المهمة التي تدفعه لترك المدرسة او المعهد الذي يتلقى فيه تأهيله المهني ساعياً لنيل شهادة الثانوية العامة التي تمكنه من دخول احد فروع الجامعة. ولا يهمه اي فرع ومدى القناعة به بقدر ما يهمه الظهور امام المجتمع على انه طالب جامعي. واصبح الامر في بعض البلدان موضة تنطوي على المظاهر والهدر اكثر من انطوائها على المنفعة وتأمين مصادر الدخل الضرورية لبناء المستقبل. وعلى سبيل المثال تدل المعطيات في سورية على ان اكثر من نصف الطلاب المفرزين الى المدارس والمعاهد المهنية يتركونها باتجاه مدارس ومعاهد خاصة يتبعون فيها دورات تقوية وتحسين مستوى قبل التقدم الى امتحانات الثانوية العامة كطلاب احرار. ومن الجدير ذكره ان الفرز يتم بشكل اوتوماتيكي على اساس تاريخ الولادة ودرجة النجاح في الشهادة الاعدادية ومن دون مراعاة للميول والرغبات. ومما يلفت النظر من جهة اخرى الحماس والدعم اللذان تبديهما العائلات تجاه ابنائها الذين يقررون ترك تعليمهم المهني بغض النظر عن كون التعليم الآخر مكلفاً ومرهقاً مالياً لغالبيتها. وتدل التجارب ان القسم الاكبر من الناجحين الاحرار يتراكم في الكليات الجامعية النظرية وعلى رأسها كليتا الآداب والحقوق. وقد يفاجأ المرء بحقيقة ان هاتين الكليتين تضمان اكثر من نصف طلاب الجامعات السورية الاربع الذين زاد عددهم على 160 الفاً اواسط التسعينات مقابل اقل من 50 الفاً يقتصر الامر هنا على العدد الفعلي في مدارس ومعاهد التعليم المهني. وفي الكليات الاخرى يدرس القسم الاكبر الطب والهندسة. وما يعنيه ذلك ان عدد الذين يريدون ان يصبحوا ادباء ومحامين واطباء ومهندسين يزيد بكثير على عدد الذين ينوون ممارسة مهنة ميكانيكي او كهربائي او حداد او نجار او …الخ. ويبدو الوضع في بلد كالمانيا على النقيض من ذلك. فنسبة الذين يذهبون الى الجامعات لا تتجاوز اكثر من 10 الى 15 في المئة من خريجي المدارس الثانوية في احسن الاحوال. اما الباقون فيختارون تعلم واتقان المهن خلال فترات تتراوح بين سنتين الى ثلاث سنوات ليدخلوا بعدها سوق العمل. وهناك وفي سن مبكرة يقومون بالانتاج والابداع ومراكمة الثروة وتأمين دخولهم. وبالمقابل يعاني العديد من اسواق العمل عندنا كما هي عليه الحال في سورية ولبنان مثلاً من التخمة على صعيد خريجي الجامعات بطالة اكاديمية ومن النقص على صعيد المهنيين المؤهلين والمهرة فعلاً. ولا يشتكي من ذلك المستثمرون الذين يلاقون صعوبة في ايجاد مثل هؤلاء وحسب. ففي عدد كبير من شوارع مدننا وقرانا يزيد عدد عيادات الاطباء ومكاتب المحامين على عدد ورش التصليح والصيانة. ويتم هذا في الوقت الذي لم تتمكن فيه بلداننا من دخول عتبة الثورة التقنية والصناعية بعد. لماذا تبخس المهنة العادية حقها في بلداننا؟ يقف وراء نظرة مجتمعاتنا الدونية الى المهن والحرف العادية عدة عوامل. ومن اهمها تلك التي تنطوي على المكاسب المادية. فدخل الطبيب اعلى من ربح المهني او الحرفي عموماً. كما ان حصوله على دعم المؤسسات الرسمية وغير الرسمية اسهل. فهو لن يجد صعوبة في الحصول على قرض من احد البنوك او المصارف. وبالمقابل يترك اصحاب المهن العادية لوحدهم في ساحة العراك. ولا يوجد برامج دعم حومية تذكر لدعمهم وتشجيعهم. وبالاضافة لذلك ما تزال غالبيتهم تعاني من النظرة السلبية لغالبية افراد المجتمع تجاه ما يقومون به. ويجد هذا الامر انعكاساته في مختلف جوانب حياتهم اليومية. وبالمقابل تبالغ مجتمعاتنا في اعطاء مكانة اجتماعية للطبيب او المهندس او المحامي على حساب اهمية من يمارس مهنة عادية. ولا ينبغي نسيان حقيقة ان الكثير من المعاهد والمدارس المهنية اساء الى سمعة المذكورة بسبب تركيز برامجه على الجانب النظري. كما ان فترات التأهيل لا تتضمن فترات تدريب عملي في المصانع والورش والمؤسسات والمكاتب كما هي عليه الحال في بلدان صناعية مثل المانيا. وهكذا يتخرج الطالب منها من دون تمتعه بخبرة او مهارة تؤهله لممارسة عمله كما ينبغي. وتعود الذاكرة هنا الى ما روته احدى الجارات اثناء العطلة الصيفية الماضية في اللاذقية. فقد جاء في روايتها ان ابنها حصل على الثانوية الصناعية بتخصص كهرباء. وكان أملها ان يجد عملاً بعد التخرج وان يقوم بتصليح كهرباء المنزل وادواته عند الحاجة. غير ان الورش التي بدأ عمله فيها استغنت عنه بعد فترة قصيرة. وهذا ما حير الوالدة الى ان كشفت بنفسها سر الأمر. وكان لها ذلك ذات يوم عندما اصيبت شبكة المنزل بعطل ادى الى انقطاع الكهرباء عن غرفه. فاستدعت الام الابن لكشف العطل ووصل التيار. غير ان المذكور وقف "مثل الاطرش بالزفة" على حد تعبيرها. فهو لم يتمكن لا من كشف العطل ولا من اعادة النور. وعندما سألته كيف يحصل ذلك وهو الذي درس الكهرباء ثلاث سنوات، اجابها بأن تعلم المهنة بشكل نظري فقط. اما رد الأم التي لم تفهم قصده وهي التي لم تزر المدرسة مثله فكان بالسؤال "هل يعني النظري تعليم حكي فقط… هل يعني انك تلقيت تعليم مسخرة وضحكت علينا لمدة ثلاث سنوات؟". وعلى النقيض من ابن الجارة الذي تطوع في الجيش وتخلص من عقدة الكهرباء التي لم يرغب فيها يوماً يوجد بالمقابل مهنيون يتمتعون بالتأهيل والخبرة والمهارات اللازمة. ويبرز منهم الذين لديهم هواية بمهنهم وولع بتطبيقها. وهؤلاء تساعدهم الشهادة على توسيع مداركهم. كما تفتح لهم آفاق اوسع على صعيد حقوق الممارسة والحصول على التراخيص اللازمة. وهناك الكثير من الاسماء التي لمعت في مناطق عملها خلال السنوات العشر الماضية، وتمكنت بفضل مهارتها من جمع اعداد متزايدة من الزبائن والثروة ومن ثم الجاه والمنزلة الاجتماعية. وقد أدى ذلك الى توجه المزيد من الشباب نحو تعلم المهن العادية ولو في اطار محدود. ويواكب هذا التوجه التغير الايجابي الذي طرأ على نظرة غالبية شرائح المجتمع تجاهها. كما يعكس تأثير الاوضاع الاقتصادية الصعبة وطلب السوق وزيادة نسبة العاطلين عن العمل بين صفوف حملة الشهادات الجامعية. ومن الملاحظ ان تغيير النظرة المذكورة لا يشمل فقط ابناء الفئات الشعبية العريضة التي بدأت تراجع وجهات نظرها بشكل ينطوي على مزيد من العملية والعقلانية تجاه مستقبل ابنائها. فقد وصلت عدوى اعادة النظر هذه ايضاً الى صفوف اولئك الذين يمارسون اعمالاً توصف بالمرموقة كالاطباء والمحامين والمهندسين واساتذة الجامعات. فمن خلال سؤال وجه الى عشرين من هؤلاء مؤخراً ابدى ما يقارب النصف عدم معارضته لقيام ابنائه او ابناء اقربائه باختيار تعلم المهنة التي يرغبون. ومن بين المؤيدين صديق طبيب منذ ايام الدراسة وله شهرة واسعة في اللاذقية. فقد قال: "سأدعم قرار اولادي بتعلم اية مهنة او حرفة يختارونها حال رغبتهم بذلك". واضاف "اصبحت على قناعة ان فرصاً كبيرة متوفرة لهم هناك في حال نجاحهم في اتقان ما يتعلمونه وأدائه كما ينبغي". واؤكد هنا على كلمة اصبحت لأن الصديق لم يكن من المتحمسين لحرية الاختيار قبل بضع سنوات. أهمية الدعم الحكومي إن توجه المزيد من شبابنا نحو المهن والحرف العادية ظاهرة صحية كان ينبغي ان تتم منذ اكثر من عقدين على الاقل. ويبعث على الامل بزيادة اهميتها اعادة التقويم الجارية في موقف المجتمع تجاهها. لكن المشكلة ان هذا التوجه لا يواكبه دعم حكومي قادر على النهوض كما ينبغي. ويقصد بهذا الدعم المادي منه والمعنوي. ومن المهم بالنسبة للأول تجهيز المعاهد والمدارس المهنية بالمخابر والتجهيزات وتأمين الكادر التعليمي المؤهل والتنسيق مع القطاعين العام والخاص لاستيعاب كل المنتسبين اليها في دورات تدريبية اثناء التعلم. ولا يقل أهمية عن ذلك وضع برامج من شأنها تقديم القروض والمساعدات المالية بشروط ميسرة للخريجين. ويخص بالذكر منهم اولئك الذين يتقدمون بتصورات ومخططات لمشاريع تنطوي على الابتكار والابداع. وعلى صعيد الدعم المعنوي ينبغي اعطاء حملات التوعية القائمة على التعريف بالمشاريع والخبرات المتميزة موقعاً متميزاً. ان الدعم المذكور مسألة في غاية الاهمية. فبدونه لا يمكن الحديث عن مناخ جاذب للاستثمار ومساعد على التنمية كون الايدي العاملة المهنية المؤهلة والخبيرة تشكل عماده الاساسي. وطالما بقيت بلداننا فقيرة بها لن نتمكن من ولوج عتبة الابداع والتصنيع والتقدم التقني. ومن المهم هنا التذكير بأن المانيا واليابان وسويسرا من افقر بلدان العالم بالثروات الطبيعية، ولكنها من اغناها على صعيد الثروات البشرية من النواحي النوعية. ويقصد بذلك نواحي التعليم والتأهيل والتدريب والخبرات العملية. وعلى ضوء ذلك ينبغي القول ان دعم تأهيل وتدريب الثروة البشرية يشكل الاستثمار الوحيد الذي لا يخيب. وفي الظروف الحالية لبلداننا ينبغي اعطاء المهن العادية اهمية خاصة على هذا الصعيد.