لعل أخطر ما في قضية العولمة ما تطرحه من هيكل للقيم الاجتماعية تتفاعل كثير من التوجهات الدولية على فرضه وتثبيته بل دفع مختلف شعوب المعمورة لتبني منظومة تلك القيم وهيكلها ونظرتها للإنسان والكون والحياة. ذلك أن محاولة اللحاق بركب العولمة الواسع لن تقتصر متطلباته على تعلم اللغات الاجنبية وعلوم الكومبيوتر والعمل على شبكة الانترنت، بل لا بد للفرد الراغب في الاندماج في تلك المنظومة وأسواق عملها أن يقوم بعملية تكييف لاتجاهاته وقناعاته ونمط تفكيره مع قيم وطريقة التفكير التي تتطلبها تفاعلات العولمة. من المفيد أن نعود في البداية لنستكشف جذور الصراع الحضاري الذي دارت رحاه في منطقتنا بين منهجين في الحياة. إذ أن العالم الغربي الذي أخفق في المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود الى تماسكها الذي يعود بدوره الى وجود بناء أسري قوي لا يزال قادراً على توصيل المنظومات القيمية والخصوصيات القومية الى ابناء المجتمع. ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية وبوعيهم وبثقافتهم وقيمهم. وهذا بلا شك يعني التصدي لعملية العولمة التي تعني الترشيد داخل الاطار المادي الغربي لكل المجتمعات بحيث يتحول العالم في التحليل الاخير الى سوق واحد متجانس، يخضع لقوانين العرض والطلب المادية يتحرك فيه البشر أنفسهم والسلع نفسها في الحيز الأملس نفسه، بلا سدود أو حدود أو منظومات قيمية تعوق هذه الحركة. واذا كانت الاسرة هي اللبنة الاساسية في المجتمع، فإن الأم هي اللبنة الاساسية في الاسرة. ومن هنا يأتي تركيز "النظام العالمي الجديد" على قضايا الانثى. وهنا تأتي المؤتمرات الدولية التي لا تنتهي عن المرأة وعن تحديد النسل وحركة "تحرير المرأة" التي تهدف الى تفكيك الاسرة والى تحرير المرأة من أدوارها التقليدية مثل "الامومة"، وهي أدوار ترى حركة التمركز حول الانثى أن المرأة سجينة فيها. بل إن وثيقة مؤتمر المرأة العالمي السابع الذي عقد في بكين صوّرت عمل المرأة في بيتها كزوجة وأم بأنه عمل غير مربح. وفي هذا الإطار - وفي هذه النوعية من المؤتمرات الدورية للمرأة - تظهر محاولة الاستغناء عن الاسرة في المصطلحات المستخدمة في الاشارة الى الطفل الذي ولد خارج إطار الزواج والاسرة، فهو لم يعد طفلاً غير شرعي كما كان في الماضي، بل اصبح طفلاً مولوداً خارج نطاق الزواج، ثم يتطور الأمر ليصبح طفلاً طبيعياً واخيراً يصبح طفل الحب والجنس والبقية تأتي. والشركات المتعددة الجنسية أو "العابرة القوميات" هي شركات تعد الكرة الأرضية ومن عليها سوقاً فعلية او محتملة لها وتنافس غيرها في اقتسامها ولا تتقيد بأي اعتبارات محلية. وأخطر ما في هذه الشركات العملاقة على الدول النامية أنها تشوّه نمط تنميتها وأولوياتها بما يتفق مع أغراضها، أو تفرض نمطاً لا يكون إلا في مصلحة الفئة المهيمنة سياسياً واجتماعياً. وبذلك يتم تهميش مصالح الجماهير الواسعة وتبلغ الطامة ذروتها "أو هوتها" عندما تقوم الشركات باستثمارات ضخمة تمثل سيطرة على الآلة الانتاجية في البلد النامي، ومن ثم تفرض نمطاً اجتماعياً مشوّهاً مماثلاً لذلك النمط المشوه في التنمية في مجال الاقتصاد. ويلاحظ في هذا النمط الاجتماعي انه يعيد صوغ الإنسان "ذاته" في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية، وهو عنصر اساسي في منظومة القيم الغربية. ولقد أدى تطور وتضخم تلك الشركات الى تسهيل وتعميق العولمة اقتصادياً ومعلوماتياً، كما أدى الى الاسراع بتضخمها وتعدد أنشطتها في الاستثمار والانتاج والتوزيع وتشغيل العمالة بشكل جعلها تعيد صوغ الانساق الاجتماعية في بلدان الجنوب والعالم غير الغربي التي تنتشر فيها من خلال عملها على فرض سيادة نظام اجتماعي واحد في العالم كله. وفي هذا الإطار عملت ثلاث صناعات على خلق "النموذج" وإعادة صوغ الانسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية. هذه الصناعات الثلاث ركزت على المرأة واعتبرتها وسيلتها للربح وتعظيمه بصرف النظر عن كونها إنساناً. أولى هذه الصناعات هي صناعة السينما خصوصاً في هوليوود التي أعادت صوغ المرأة في الوجدان العام ونزعت عنها كل قداسة. ولم تعرّها من ملابسها فقط وانما ايضاً من إنسانيتها وكينونتها الحضارية والاجتماعية وخصوصياتها الثقافية بحيث تصبح إنساناً بلا تاريخ ولا ذاكرة ولا وعي. ثانية هذه الصناعات هي صناعة الازياء التي تفننت في طمس الشخصية الانسانية والاجتماعية للمرأة وابراز مفاتنها الجسدية. اما ثالثة هذه الصناعات فهي صناعة مستحضرات التجميل وأدواته التي جعلت المرأة هدفاً أساسياً لها من خلال آلاف المساحيق والعطور وخلافه، وكأنها من دونها تفقد جاذبيتها وتصبح قبيحة. وبعد ترسيخ هذه القناعة تماماً في وجدان الاناث يتم تغيير المساحيق كل عام، ويطلب من "المرأة" أن تغير وجهها لتصبح جديدة دائماً ومرغوبة ابداً. وهكذا تصبح المرأة سوقاً متجددة بشكل لا ينتهي. ومما يزيد من خطورة تلك الشبكات الاقتصادية التي تعمل على مستوى كوني، التشابك المتزايد على مستوى العالم كله بين منظومة الاقتصاد والاعلام خصوصاً التلفزيون الذي أدى الى ظهور ما يسميه علماء الثقافة التنميط أو التوحيد الثقافي للعالم كله على حد التعبيرات التي استخدمتها لجنة اليونسكو العالمية للإعداد لمؤتمر السياسات الثقافية من أجل التنمية. وهذا التنميط الثقافي للعالم يتم باستغلال ثورة وشبكة الاتصالات الغربية والمسماة عالمية وهيكلها الاقتصادي الانتاجي بعماده المتمثل في شبكات نقل المعلومات والسلع وتحريك رؤوس الاموال. هذا التنميط يعكس تصور صناع "العولمة" الاقتصادية والمستفيد الاكبر منها ضرورة أن يتماثل البناء الثقافي للإنسانية مع البناء الاقتصادي المعلوماتي للعالم. وبذلك يتم تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة، وإخضاعها لمركزية نظام المفاهيم والقيم والأنماط السلوكية السائدة في الغرب في ظل النظام الرأسمالي، بغية الإقبال على استهلاك المنتجات الغربية وتحقيق الانتصار الناجز النهائي للرأسمالية الذي رمز إليه زعم "نهاية العالم"، والذي يجعل المواطن في براغ في تشيخيا وفي روما وفي طهران يرقص على أنغام موسيقى الروك ويأكل سندويشات ماكدونالدز ويشرب الكوكا كولا ويشاهد السي. ان. ان.، ويرتدي التي شيرت. * كاتب مصري.