عن سلسلة "مكتبة التراث الشعبي" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، صدر للباحث أحمد حسين الطماوي كتاب عنوانه "سيم العشق والعشاق"، والمقصود بكلمة "سيم" هو تلك الشفرة التي يتم التواطؤ عليها، داخل طائفة ما، بغرض حجب أسرار اعضائها عن الغرباء. ومن المؤكد أن للزهور لغة، أو أنها استحالت ضمن تراث الإنسانية، لكي تصبح لغة في ذاتها. وفي هذا المجال، فإن الطماوي أعاد نشر دراسة مهمة في هذا المجال ضمن كتابه. وهذه الدراسة كانت نشرت للمرة الأولى في العام 1897، تحت عنوان "مخابرات الحب السرية". واخترنا تلك الدراسة المهمة، والتي كتبها نسيب منصور المشعلاني، لتكون موضوعاً لهذه المقالة. إن دراسة المشعلاني، وما تحتويه من معجم للزهور والنباتات مرتبة طبقاً للحروف الأبجدية، طبعت على هيئة كتيب، لا يتجاوز 72 صفحة من القطع الصغير. وترد المقدمة النظرية للدراسة في 14 صفحة، بينما يرد المعجم في 58 صفحة. وعلى الغلاف نجد أن العنوان الرئيسي للكتاب: مخابرات الحب السرية - ورسائل المملكة النباتية، ثم نجد عنوانا آخر في السطر الثالث والرابع: ترجمان - في لغة النبات والزهور. وعلى طريقة الكتابة السائدة في نهاية القرن التاسع عشر، نجد بعد العنوان العبارة الآتية: جمعه الفقير إلى الله نسيب منصور المشعلاني، ثم يلي اسم المؤلف بيتان من الشعر على الغلاف: إذا أراك مسروراً دع للقاء الكلام أوبان فيه قصور لله خلِّ الملام وبعد البيتين السابقين، ترد عبارة أن الكتاب نُشر "بالرخصة الرسمية من جانب نظارة المعارف الجليلة في الأستانة - نومرو 129 في 22 ذي الحجة سنة 314 و12 نيسان ابريل سنة 313. وفي نهاية الغلاف، نجد أن الكتاب مطبوع في بيروت بالمطبعة الأدبية عام 1897 مسيحية. في البداية، يهدي المؤلف كتابه هذا الى سيد الزهور، وعنوان السعادة والسرور - البنفسج، فالبنفسج - كما يرد في الإهداء - هو الرقيق الخصال، البديع الهيئة والمثال، رسول اليمن والإقبال، وسفير النزاهة والاعتدال. وإذا كنا، كنوع من العرف الاجتماعي السائد، نقوم بإهداء الزهور الى الآخرين في المناسبات المختلفة، فمن المؤكد أن الأمر متجاوز كون تلك الزهور جميلة، أو أنها يمكن أن تتخذ كزينة، فإهداء الزهور - عموماً - ينتقل من صيغة الإهداء الى صيغة التخاطب، وهذا التخاطب/ التعبير يتشكل طبقا لنوعية الزهور المقدمة. فهي حين تقدم من شخص الى آخر، "تظهر معنى يريده الإنسان، أو عاطفة يدفعها القلب، مسلما سرها للزهرة، فتوصله بكل أمانة، وتترجم عنه بأفصح لسان، وأجلى بيان، فترى مخطوطاً على وريقات كل زهرة عدة تعابير وتعاليم مهمة". إن التخاطب / التعبير هما من وظائف اللغة، إذ أن اللغة تستهدف الجانب الاتصالي بالأساس. إن تلك اللغة لا تتكون عن نسق عضوي منظم من العلاقات، لكنها تتشكل من علامة واحدة، هي اسم الزهرة. ونظراً لأن الاسم / العلامة يحتوي في داخله على ثنائية الدال / المدلول، التي لا يمكن فصمها، حينئذ فإن اسم أية زهرة، باعتباره دالاً، سوف يستدعي المدلول وهو التصور الذهني عن الزهرة. ونظراً لأن الزهور تحولت إلى "سيم" أو "شفرة" بامتداد التاريخ، لذا فإنها اصبحت لغة داخل اللغة، أو دوالاً جديدة تطفو على سطح اللغة. حينئذ، فإن الدال لن يستدعي شكل الزهرة داخل الذهن، لكنه سيستدعي الدلالة الكودية للزهرة، باعتبار أنها المستهدفة بالقيام بعملية الاتصال/ التعبير. وعلى ذلك، يمكن أن نخلص بأن لغة الزهور هي لغة مفردة، أي لا تعتمد سوى على دال واحد، وأنها لغة مشفرة تستهدف حجب معناها عن غير المرسل إليه، كما أنها ثنائية الدوال، إضافة إلى أنها تقوم على تواطؤ من نوع خاص. لذلك، فإن البشر بأصنافها اتخذت النبات - وزهوره - خصوصاً - كشعار يستعملونه لإفهام معنى مقصود، أو لإبلاغ أفكارهم لبعضهم البعض. فالخواص الإيحائية التي تم إسنادها إلى كل زهرة، هي محض صفات متفق عليها، وعادة ما تكون ارتبطت بتلك الزهرة نتيجة واقعة محددة. أي أن معجم الزهور يتشكل طبقاًَ للمصادفة، وليس للضرورة، والأمثلة على ذلك عديدة. فالمشعلاني يقرر أن السير جيو فري شو سار اتخذ زهرة الربيع البيضاء شعاراً له، يعبر به عنه الجمال والفضيلة المحبوبة، وسبب هذا الوصف أن اليونان قديماً كانوا يزعمون أن الملكة "ألسست" جاهدت لتخلص زوجها من القتل، وفازت أخيراً بأن قدمت ذاتها ضحية عنه، فارتضت الآلهة عن عملها، ونسخت روحها الى زهرة جميلة هي زهرة الربيع البيضاء. على أن التراث الإنساني يحمل لكل زهرة ذكرى خاصة ترتبط بها، ومن هنا تكتسب دلالة جديدة، فالبنفسج يرتبط في التراث الإغريقي، كما يرد في الكتاب، بالعديد من الوقائع بين الآلهة والبشر. ومن تلك الوقائع يشير المشعلاني الى أن بلوتون تتبع بروسبرينو ونارسي ليقتلهما، فوجدهما يجمعان باقة من زهور البنفسج، وإذ كانت تلك الزهرة محبوبته، فقد عفا عنهما. وليس الإله بلوتون وحده هو الذي يعشق تلك الزهرة، كذلك فإن الإله أبوللون جين طلب من "آيا" ابنة اطلس أن تتزوجه ورفضت، فقد مسخها إلى زهرة بنفسج. أما زهرة الخزام، التي تشير في التراث الإنساني الى السرور والفرح، فأصلها أن أجكس لمار أي عوليس قد اغتصب أسلحة أشيل، وكان هو أحق بها منه، غضب فطعن ذاته بخنجر، فمات. وإذ سال دمه على التراب، أنبت هذه الزهرة. وهكذا - يقول المشعلاني - أنه قد وجد في كل عصر من الأعصر الغابرة، قوم ينتحلون أسباباً لتسمية الزهور باسماء مختلفة، وإعطائها ألقاباً حسبما تتفق لهم الحال. وعلى التمادي، أصبح لكل زهرة معنى مختص بها، وتألف من ذلك لغة مستقلة بذاتها، ضبطت مواردها، وقيدت أوابرها، فجاءت سهلة القواعد، بسيطة العبارة. المزولة النباتية وقبل أن نطرق للحديث عن لغة الزهور، أو الزهور باعتبارها لغة، فإننا سنعرض بعض المعلومات الطريفة التي طرحها الكتاب، عن علاقة الزهور والنباتات بالزمن، فالمشعلاني يشير الى أن علماء النبات في عصره، توصلوا الى أنه يمكنهم الاستغناء عن الساعات بمختلف أشكالها، للتعرف على الوقت. فهم - اكتشفوا مزولة تشير الى الوقت بدقة، هي المزولة النباتية. وهذه المزولة تستغنى عن عقارب الساعة بزهور النباتات، إذ أن مواعيد تفتح وانطباق تلك الزهور إنما يتم في ساعة محددة، وبدقة متناهية لا يمكن تجاوزها. فمثلاً: زهرة الأقحوان البري تتفتح في التاسعة صباحاً كل يوم، وتنطبق في تمام الثالثة مساء، وزهرة الأقحوان الافريقي تتفتح في السابعة صباحاً، وتنطبق في الثالثة وأربع دقائق بعد الظهر. بينما زهرة نبات "آذان الهر" تتفتح في السادسة وسبع دقائق صباحاً، وتنطبق في الرابعة وخمس دقائق مساء. وهكذا، يمكن لنا أن ندرك أن دقة التوقيتات النباتية والزهرية، لا يمكن أن يعتريها الخطأ. وبذلك، تصبح تلك المزولة النباتية أكثر دقة من الساعات التي نستعملها في حياتنا اليومية، خصوصاً إذا عرفنا أن عدو تلك النباتات والأزهار لا حصر لها، أي أنها تغطي ساعات اليوم الأربعة والعشرين! يورد المشعلاني في معجمه عن النباتات والزهور، عدداً ضخماً من اسمائها، مصحوباً بالدلالة العاطفية التي تم التواطؤ عليها بين العشاق عبر التاريخ الإنساني، واصبحت جزءاً من مدلول اسم الزهرة. وقام بترتيب هذا المعجم طبقاً للحروف الأبجدية، بدءاً من حرف الألف وحتى الياء، فإذا عرفنا أنه أورد تحت حرف الألف وحده ثلاثة وستين مادة للنباتات والزهور ومشتقاتها، لتبين لنا مدى الجهد الهائل الذي قام فيه بجمع اسماء النباتات والزهور على الأحرف السبعة والعشرين الأخرى، ناهيك عن دلالاتها المختلفة داخل التراث الإنساني. وعند دراسة الدوال والمدلولات داخل هذا المعجم، سنلاحظ بداية أن ظاهرة الترادف شائعة، بمعنى أنه قد يرد للدال الواحد العديد من المدلولات التي تشير إليه. فكما أن اللغة العربية تزدحم بتلك المرادفات، التي هي - في النهاية - اسماء حالات للدال، فإن الدال النباتي/ الزهري داخل هذا المعجم يتبع القاعدة نفسها، إذ تتغير حالته جاف - يابس - غصن - زهرة - شجرة - ذابل - مثمر. إن لكل حال من تلك الحالات مردود عاطفي، قد يختلف أو يتباين عن الحالات الأخرى، فمثلاً شجرة ليمون البرتقال قد تمارس تحولاتها العاطفية على النحو الآتي: إذا جاءت على هيئة باقة من زهورها فإنها تشير إلى العفة - الولائم - العرس، وإذا جاءت على هيئة زهرة واحدة فإنه يعني: طهارتك تساوي جمالك. أما إذا كان على هيئة شجرته، فإنه يدل على السماحة - السخاء - الكرم. فإذا كان ليمون البرتقال حلواً وجاء على هيئة زهور منه، فإنه يعني الأمانة في الحب. وكما تأتي المدلولات على هيئة مرادفات لدال واحد، فإن العديد من الدوال قد تأتي - أيضاً - كتعبير عن مدلول واحد. فالشهرة - مثلاً - يشير إليها كل من السوسن والخزامي، والزنبق، وزمور الباشا. كما أن الحزن يشير إليه كل من نبات إبرة الراعي، والأقحوان، وأوراق الأشجار السوداء، والأوراق الذابلة، وزهرة الجرس، والصفصاف، والصبار. أما العفة فتدل عليها زهر البرتقال، وبرعم الورد الأحمر، والتريليوم، ورجل الغراب، والزنبق الأبيض، وزهرة الربيع البيضاء، وزهر النعناع. إن الدال قد لا يستدعي مدلولاً أحادياً، لكنه - أحياناً - يشير الى عبارة كاملة ترد للدلالة عليه. والكثير من التعبيرات التي وردت في المعجم، والتي ارتبطت بالأزهار / النباتات، قد وردت في صيغة أسلوبية تقترب من اسماء وعناوين بعض الأعمال الأدبية الرومانسية، مثل أعمال يوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس، مع أن هذه الصيغ كتبت في نهاية القرن التاسع عشر. فعلى غرار روايات يوسف السباعي، التي تتميز دلالياً برومانسيتها، واسلوبياً بقصرها، نجد في معجم "مخابرات الحب السرية" تعبيرات مثل: "اذكرني" التي تدل على نبات "أذن الفأر"، أما شجرة الأرز فتشير الى معنى"أنا أحيالك" وزهرة التمباك تقول "تركتك للأبد". وعلى غرار عناوين روايات إحسان عبدالقدوس الرومانسية، التي تتميز بطولها وغرابة تركيباتها الاسلوبية، نجد أن الغصن المثمر من نبات "عنب الثعلب" تهمس الى الحبيب بتعبير أنت ترضي الجميع. وزهرة البرتقال تقول: "طهارتك تساوي جمالك"، وزهرة الحناء البري تحذر المحبوب: "إياك أن تفعل"، بينما الورد الأبيض يغمغم: "إذا كانت تحبني أكتشف ذلك"، وفي المقابل، فإن الخشخاش الأبيض يشير إلى معنى "يا قاتلي أنت تحييني"، بينما الزعفران البري يأتي كدليل على أنه مضت أحسن أيامي، وباقة من زهور الربيع البيضاء تقول للحبيب "فقير ولكن سعيد". أما زهرة النسرين، فتشير إلى دلالتين: "الأولى أتمنى مقابلة ودادي بالمثل، والثانية جرحت لأشفي. إلا أن أطراف ما في معجم تلك المخابرات السرية للمحبين، هو تلك الدلالات التي يوردها المؤلف وقد ارتبطت بالعديد من النباتات والثمار، التي نعاينها في حياتنا اليومية، فمن النباتات التي ترتبط بأطباق "السلاطة" كمشهيات، فإن البصل يقول للمحب احفظ السر الى الأبد، والثوم يقول لا تقدر على كتمان السر، أما الجزر فيشير الى أن الحب يزداد تأصلا، والحمص يهجس: سأفارقك، والخس يقول بأسى: "ما أبرد قلبك"، بينما الخيار يصرح مهما تقلبت الأحوال أزداد ولاء. أما الفجل فيعني كلما بعدت ازداد ولعي بك، والكراث يأتي دالاً على النشاط، والكزبرة تقول: "قيمتك ثمينة ولكن محجوبة". وتأتي الثمار التي نتناولها في وجباتنا اليومية، بدلالات لا تقل طرافة، فالبطاطا - البطاطس تعني "الإحسان والمحبة"، والسبانخ تشير الى "الشرك/ الفخ"، بينما الملوخية سيدة المائدة المصرية، فهي تتأوه: "لم يعد لي صبر على الغياب"! ولا ينسى المؤلف أن يورد مقابلات للفواكه، حتى الشاي الذي يأتي بعد تناول الطعام والفواكه، يورد المؤلف دلالته الخاصة لدى المحبين، وهي أطرف الدلالات، اذ يشير الشاي إلى معنى: "انتظرني لما ينام الجميع"! * شاعر مصري.