الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    اليونيفيل : لم نسهّل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك للسيادة اللبنانية    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل انقاذه من الاندثار : عولمة التراث
نشر في الحياة يوم 27 - 02 - 2000

لم يعد للتراث في حياتنا العملية دور يُذكر، رغم الإقبال الواسع في بعض البيئات على تلقّف كتبه وقراءتها على نحو امتثالي ضعيف الابداعية. فمع التشدق به غير المصحوب بإحياء أدواته ومؤسساته متاحف، كليات... الخ، لم يعد الآن تأثيره في مجتمعاتنا وأفرادنا يُقارن بتأثير محطات أساسية وفدت الينا من خارج "تاريخنا": كالتنوير أو النهضة أو الثورة الصناعية، هذا حتى لا نقارن بالتلفزيون أو السينما، ومن الآن فصاعداً بالتليفون المحمول والكومبيوتر.
وإذا كانت العولمة تهدّد بخفض هذا الدور المنخفض أصلاً للتراث، فالواضح ان رمزيه اللذين لن تقوى عليهما العولمة، كما لم يقو عليهما غيرها، هما ابن خلدون وابن رشد اللذان تسللا من موقعهما في التراث المحلي إلى موقعهما في التراث الكوني: الأول بوصفه مؤسس علم الاجتماع المعاصر، والثاني كصلة وصل بين الفلسفة اليونانية وأوروبا، ومن ثم العالم.
هكذا يمكن القول إن التراث الإسلامي - العربي المهدد بالانقراض، شأنه شأن كل التراثات المحلية المعزولة، يطرح علينا التحدي التالي: إما أن ندعه يوالي اندثاره عن طريق الإمعان في دفعه إلى الجوف الداخلي واللغة الميتة، مع محاولات لصق وتضميد لأوراقه المصفرّة المتداعية، أو أن نتدخل للحؤول دون هذا الاندثار بتقديمه جسر تواصل مع العالم الأوسع، وبالتوكيد على ما هو كوني وإنساني فيه بقصد احيائه الذي قد يفتح لنا معبراً ضيقاً لولوج الكوني.
والحضارة الإسلامية المتعددة إثنياً وجغرافياً، والتي تضم ما لا حصر له من ملل ونحل ومذاهب وأديان، وتتقاطع مع حضارات وثقافات عدة، لا تنقصها مؤهلات السير في طريق يعاكس الطريق الحالي المعبّد بالضيق وعدم التسامح وقطع الأواصر مع العالم.
وقد سبق لبرنارد لويس في "ثقافات في صراع" دار اكسفورد، أن ألمح إلى أن الإسلام أسس الحضارة الكونية الأشد تعددية في العالم، جامعاً في امبراطوريته قارات وأعراقاً وأجناساً لم تجتمع قط للمسيحية. فالأخيرة، باستثناء اثيوبيا الطرفية وغير المؤثرة في سياقها ومسارها، بقيت حضارة اقليمية، أي أوروبية، تماماً كما الهندوسية في ارتباطها الحصري بشبه القارة الهندية. وبدورها فالاختراقات المسيحية الواسعة للنصف الجنوبي من القارة السوداء لم تنتج لوناً خاصاً بمسيحية افريقية، كما لم تنتج مساهمة لها فيها. أما الإسلام الذي هو آسيوي، أوسطي وأقصى، فهو كذلك افريقي، وله حضوره الأساسي في أوروبا الجنوبية والشرقية ثم الوسطى بحيث غدا المسلمون في بلد كألمانيا التجمع الديني الثاني عدداً. وهكذا باتت حضارته "الأولى التي يمكن ان تسمى كونية". غير ان التسمية هذه لا تزال، حتى إشعار آخر، أقرب إلى الكمون منها إلى الفعل المنوط بأصحابه انفسهم، وبالمبادرات التي يقومون بها.
فإذا صحّ، كما يقال أحياناً، ان العولمة تهدد بافقار التنوع الثقافي وإعلاء ما هو أميركي حصراً، صحّ ان استجابة تحديها تكون بتكريس هذا التنوع والاشتغال على تظهيره. ولأن حياتنا تصير أغنى وأمتع حقاً حين تُستحضر فيها ثقافات الشعوب وتراثاتها، فيبدو الحاضر المشرع على المستقبل مشرعاً أيضاً على ماضٍ كثير الألوان، غدا مثقفونا مطالَبين بالبرهنة على القابليات العالمية لتراثنا. فبدل شتم العولمة لأنها "تأمركنا" و"تسطّحنا"، أو شتم الاستشراق لأنه "يصادرنا" و"يمثّلنا"، يُستحسن توفير بعض الجهد لكشف ضرورتنا ثقافياً وتبيان امكانات المساهمة التي نستطيع تقديمها لعالم يتعولم، مخففين، بهذا، ميله المزعوم إلى هوية ثقافية حصرية متهمة بتضييق الخيار.
والراهن ان العالم هذا لم يكن ضئيل الاكتراث بالمحاولات القليلة التي هبّت من جانبنا في الاتجاه هذا، على ما يشي، مثلاً، الاحتفال المتواصل بأمين معلوف، صاحب "ليون الافريقي" و"الصليبيون" و"سمرقند"، كائناً ما كان الموقف من محاولته ومدى ابداعيتها.
ومن ناحيتها فالثقافة الإسلامية استطاعت، في دورانها حول نصّ تشرحه وتؤوله وتجتهد فيه، ان تجمع تقليدياً بين تركيزها المحوري هذا وبين انفتاح وتوسّع سبقت الإشارة إليهما. والواقع انه على الضد من محاولات الاصوليين الراهنة لزمّ نطاق حضارة الإسلام وثقافته، تكفي مراجعة أي كتاب مدرسي في تاريخ هاتين الحضارة والثقافة للتأكد من صحة العكس صحة مطلقة. ففي كنفهما اتيح للتلاقح ان يحصل ويثمر، وللمراحل التي تلي ان تحتفظ بما كان تحقق في مراحل سبقت الإسلام نفسه، على رغم جبّ "الما قبل". فما حصل لاحقاً، في العصر الذهبي العباسي، ما كان ليتمّ أصلاً لولا التراكم الضامر والثاوي الذي أنجزته مدرستا الاسكندرية في مصر وانطاكية في الشام: الأولى التي عرفت الفيثاغورية المتأخرة والافلاطونية المهوّدة والمذهب الاسكندراني أو الافلاطونية المتأخرة، والثانية التي اشتهرت بمذهبها الفقهي الذي رمز إليه ديودوروس اسقف طرسوس وتلميذه حنا فم الذهب اسقف القسطنطينية. وقد كان للانطاكيين فضلهم على الفلسفة اليونانية نفسها، إذ كان القس السرياني بروبوس أول ناقلي كتبها، وهذا كله إنما كان بمثابة التأسيس لأول عملية انتقال تباشرها الفلسفة شرقاً هذا إذا اعتبرنا اليونان غرباً.
والمسلمون، بادى بدء، لم يرفضوا التقسيم اليوناني للفلسفة جاعلينها أربعة أقسام: الرياضيات وفي عدادها الفلك والموسيقى، والمنطق، والالهيات، والطبيعيات وتندرج فيها قوى النفس، أي الحواس وعملية التفكير. وإنما عملت نقاط التقاطع على تبرير ظهور جملة من الآراء والمزاعم، كأن يقال مثلاً إن "الكلام" في العربية يقابل "لوغوس" في اليونانية و"ملّتا" في السريانية، بمعنى الكلمة. لا بل قيل ان "علم الكلام" نقل للتعبير اليوناني أو السرياني الذي يدور حول قضايا في المسيحية تشبه قضايا علم الكلام في الإسلام.
لقد سكّت العرب "العلوم الدخيلة" للتدليل على "العلوم الأجنبية" التي نقلها المسلمون من لغات الأمم غيرهم إلى العربية، وأبرزها اليونانية، ولكن أيضاً الفارسية والهندية. وأهم تلك العلوم المنطق المردود دوماً إلى ارسطو، والذي أثّر في المسلمين وغير المسلمين من خلال التبسيط والشرح اللذين قام بهما فرفوريوس الصوري، إذ كتب له مقدمة هي "المدخل إلى علم المنطق" أو ايساغوجي فرفوريوس.
وقد تولى ايصال الكتاب الأخير، عبر نقول وشروح عدة، أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي وأبو بشر متى بن يونس وعبدالله بن المقفع وهو غير صاحب "كليلة ودمنة". وبينما لعب أقليّون كحنين بن اسحق، مترجم اقليديس وهندسته، أدواراً محورية في عمليات النقل، بقي الحوار الضمني مع اليونانية مصدر التوتر الثقافي ومحموله الابداعي. وإنما نظراً لاشتغالهما على منطق ارسطو، سُمّي الفارابي وابن سينا المعلمين الثاني والثالث، إذ من دون العودة إلى فيلسوف اليونان والقياس عليه يستحيل التدقيق في اسهام الحضارة الإسلامية، لا سيما عبر الفارابي، في الطبيعيات والالهيات أو علم ما بعد ما وراء الطبيعة.
لقد ظهرت الحاجة إلى علوم "الآخرين"، بعدما بلغت المدنية وحاجاتها درجة من التعقيد، ما ألحّ على نقل الفلسفات والثقافات إلى العربية، وهذا فيما كان المسلمون مقبلين على أوسع الاحتكاك بغيرهم. ولئن تناول ابن رشد لاحقاً، في مطلع رسالتيه "فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلّة" حثّ القرآن المسلمين على التفكير في العالم المحيط، فإن فروض الصلاة والصيام والحجّ إنما ضاعفت الحاجة إلى الحساب والتقويم، وتالياً تطوير الحسّ بالزمن، من دون قمع السعي الذي يقودهما، وهو سعي بات يمليه المقدّس، وكذلك من غير التعرض لنتائج الاحتكاك التي لا بدّ أن تلي.
والحق ان اهتمام العرب بعلوم اليونان ترقى بداياته إلى العصر الأموي، على ما يشير انقلاب خالد بن يزيد بن معاوية إلى درس الكيمياء على راهب اسكندراني اسمه مريانوس، بعد يأسه من الفوز بالخلافة لانتقالها من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني. وقد برز من مترجمي الزمن الأموي اصطفن اسطفان الاسكندراني وعبدالله بن المقفع وآل ماسرجويه اليهود، وآل بختيشوع النصارى النساطرة السريان اللغة، وآل ماسويه وهم أيضاً نصارى سريان، فضلاً عن آل حنين وآل ثابت وآل موسى المنجّم وغيرهم.
على أنه منذ أيام المنصور غدا من الممكن الحديث عن وجهة، حيث بدأ الانتباه يتسع إلى كتب العلم والفلسفة اليونانية، ويتسع نقلها إلى العربية، فيما شرع أثرياء مسلمون، كبني المنجّم، يقصدون "بلاد الروم" ومعهم من يجيدون اليونانية للتسوّق بكتبها. ومع المأمون، وكما هو معروف، انشئت في بغداد "دار الحكمة" ورُصدت أموال لنقل كتب الفلسفة إلى العربية، وقد روي، في هذا المجال، ان المأمون إذ انتصر على الروم في 215ه أو 830م، "اهتبل الفرصة وأحب ان يأخذ في شروط الصلح مكان المال كتباً. وقد ظن ثوفيل ثيوفيلوس ملك الروم ذلك كسباً، أما المأمون فعدّه نعمة عظيمة"، أي ان النقل، مع المأمون، لم يعد مبادرة أفراد بل غدا سياسة دولة.
وكان من ثمار العصر الذهبي في الترجمة وفي غيرها حنين بن اسحق وريث إحدى عائلات المترجمين إذ أضحت المهنة منذ العهد الأموي مهنة عائلية. وحنين من نصارى الحيرة في العراق، نسطوري المذهب سرياني اللغة، درس الطب على يوحنا بن ماسويه واتقن العربية على الخليل بن أحمد الفراهيدي قبل اتصاله ببلاط المأمون الذي ولاّه رئاسة دار الحكمة للنقل، ليصبح لاحقاً أشهر أطباء بغداد وأشهر نَقلَتها. كذلك برز ثابت بن قره واسحق بن حنين وقسطا بن لوقا البعلبكي وسنان بن ثابت ويحيى بن عدي وغيرهم.
وآنذاك كان العلاّف، شيخ البصريين في الاعتزال وأحد أكبر علمائهم الدينيين، أول من مزج علم الكلام بالفلسفة اليونانية، كما تطرق إلى الكلام على علوم الطبيعة. ثم اتبع إبراهيم النظام المعتزلي ارسطو في تعليل الوجود، ما خلا تعليل الالوهية.
وفي العهد العباسي دلّت اسماء المساهمين الكبار في النهضة الفكرية، أو المحاولات التي بذلوها، على سعة مصادرهم وآفاقهم، دلالتها على الطابع الامبراطوري العابر للحدود الذي يسم الحضارة الإسلامية. فالخوارزمي، الذي وضع كلمة "جبر" مع ان البعض يعيدها الى اسم جابر بن حيّان، يعود في أصله إلى تركستان، عاش في بغداد عهد المأمون. أما الكندي المولود في البصرة فكان عربي الأصل، لكنه كان واسع المعرفة بعلوم اليونان وفلسفتها مع أنه اعتقد أيضاً بالتنجيم. وولد الرازي جنوب طهران، وفي كتاب "هيئة العالم" حاول، وهو الطبيب أساساً، أن يبيّن ان الأرض كروية تقع في وسط الفلك، بينما الأخير ذو قطبين يدور عليهما. وفي "تهذيب الأخلاق" جمع مسكويه أقوال فلاسفة اليونان وضمّ إليها أفكاراً وتصورات وآراء مستقاة من الإسلام والشعر العربي، محاولاً الخروج بنظام أخلاقي وعملي يصلح دستوراً للحياة. ويعود الفقيه الحنفي الماتريدي إلى سمرقند. أما الفارابي المولود في أراضي تركيا الحالية، فدرس على الطبيب يوحنا بن حيلان وعلى ابي بشر متى بن يونس. واشتهر الفارابي، بين ما اشتهر، بمعرفة اللغات وكانت اليونانية، على الأرجح، في عدادها، كما كان موسيقياً نُسب إليه اختراع آلة القانون، وعلى إلمام بالطب. غير أنه، هو المعتبر أول فلاسفة الإسلام الكبار، كان أقرب معاصريه إلى فهم ارسطو، وأول حاملي المنطق اليوناني منظماً إلى العرب. واقتدى اخوان الصفا، ممن شاؤوا تطهير الشريعة التي دنّستها الجهالات بالفلسفة، بالحكماء والفيثاغوريين، فضلاً عن تأثرهم بالأدب الفارسي. وفي ميلهم إلى توحيدٍ لم يخل من شبهة تآمر، فكروا في إذابة الخلافات في مذهب واحد جامع يُبنى على عناصر تُستقى من الأديان والمذاهب جميعاً. ووجد ميلهم هذا إلى توسيع مصادرهم واستلهاماتهم في آن، تتويجا له في التعريف الذي خرجوا به ل"العالِم الخبير الفاضل الذكي المستبصر" الذي هو "الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النُسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة، الملكي الاخلاق، الرباني الرأي، الالهي المعارف".
وقد ولد البوزجاني، الرمز الرياضي والهندسي، في ما هو اليوم منطقة حدودية بين إيران وأفغانستان، وصدر ابن يونس المنجم، المصري، باني المرصد في المقطّم في عهد العزيز الفاطمي، عن أسرة يمنية.
أما ابن سينا، وهو من الاسماعيلية، فولد في بخارى لعمل والده موظفاً كبيراً هناك. وتأثّر "الشيخ الرئيس"، في طبه وفلسفته وآرائه في النفس، باليونان والمذهب الاسكندراني. وفي تشريحه العين وما اتصل بذلك اهتم ابن الهيثم، وهو من البصرة، بتلخيص بعض ما كتبه اقليديس وبطليموس. ولئن كان أصل البيروني من فارس فهو من مواليد تركستان، رافق السلطان محمود الغزنوي في غزواته في شمال غربي الهند، ودرس فلسفاتها ودياناتها وتعلّم بعض لغاتها بما فيها السنسكريتية، وهذا معطوفاً على معرفته بفلسفة اليونان واحتمال معرفته اللغتين العربية والسريانية. وترك لنا أبو العلاء المعري ما يمكن أن يُسمى المساهمة العربية - الإسلامية في كلاسيكيات التسامح وحرية الابداع الثقافي. فقد كتب "رسالة الغفران" جواباً عن رسالة وردته من صديقه الأديب الحلبي ابن القارح الذي رأى ان بعض الأدباء والشعراء صائرون إلى جهنم لإهمالهم بعض الفروض الدينية. وعلى لسان ابن القارح رد أبو العلاء متناولاً سعة عفو الله، وأن كثيرين من شعراء الإسلام والجاهلية ممن يظن الفقهاء المتعنّتون انهم من أهل النار، يمكن ان يكونوا من أهل الجنة وان يكونوا قد نالوا النجاة من النار، إما بايمان بالله، أو بعمل صالح، أو بنيّة طيبة، بقطع النظر عما اشتهروا به في حياتهم، أو عما رماهم به الناس من الكفر أو الزندقة أو التخلي عن فروض الدين.
ولئن شكّلت الصوفية على الدوام واحداً من الاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، فإن تأثرها باليونان لم يكن، كذلك، خفياً. فالمذهب الايوني عزّزها بفكرة الشمول والاحاطة، أي أن أوجه الطبيعة جميعاً مظاهر للألوهية، فيما الوجود كله إنما هو الله. كذلك عززتها فلسفة فيثاغوراس بوجود عالم روحي تشتاق إليه النفوس وراء العالم المادي. ومن ارسطو أتاها افتراض ان الله هو الغاية التي، في تطورها إلى الكمال، ينجذب العالم نحوها. واختزنت الصوفية بعض المذهب الاسكندراني وتعاليم افلوطين، صاحب المذهب هذا، لا سيما اعتبار أن النفس، ابان حياتها، تحاول الاتصال للحظات بالملأ الأعلى، أي العالم الالهي، شريطة اتباعها منهجاً معيناً من الرياضة النفسية.
كذلك تأثرت الصوفية بأفكار الهنود، في قيام الدين والفلسفة الهندوسيين على التناسخ، أي مجيء النفس إلى الحياة مرات عدة تسمى أدواراً بهدف ان تتاح لهذه النفس فرص كثيرة كيما تتهذب. فحين يكتمل التهذيب لا يعود بها حاجة إلى المجيء فتصعد إلى النرفانا، أي جماع الامّحاء والانعدام والسكون والانتعاش والراحة. ويبدو ان المتصوفة المسلمين جعلوا النرفانا "الفناء"، إلا أنهم اعتبروها مجرد مرحلة في طريق الاتصال بالله.
وثمة من يرى تأثيرات صينية أيضاً على التصوف الإسلامي، أهمها مفهوم لاوتسه عن الحقيقة القصوى أو "تآو". فهذه، وهي عندهم أقدم من السماء والأرض، منها ابتدأ كل شيء وفيها كل شيء موجود وإليها يرجع. فلا وصف يحيط بها ولا بصر أو سمع أو مثل يدركها. أما الحصول على تآو، أو الاتصال بها، فشرطه نجاة الإنسان من شرك المادة، أي الجسد، ومن حواجز المكان والزمان، أي انصراف المرء، تالياً، عن الدنيا، ليمر، بعد ذلك، بمراتب ثلاث تفضي به إلى التوحد ثم الحقيقة المطلقة.
وتأثرت الصوفية أيضاً بالمسيحية لجهة تعذيب النفس الموجود أيضاً في الهندوسية، والتبتّل وترك السعي في الدنيا. وقد زُعم ان الحب الالهي في التصوف مستقى من النصرانية، بمعنى التقلّب في الآلام التي يؤمن المسيحيون بأن المسيح قد لقيها. وقد قال متصوفة متأخرون في بغداد بالحلول، وهذا قطعاً مأخوذ من المسيحية، وأشار السرّاج الطوسي إلى ذلك بقوله: "وقد غلطت جماعة من البغداديين في قولهم إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق، وقد أضافوا أنفسهم بجهلهم إلى معنى يؤدي إلى الحلول أو إلى مقالة النصارى في المسيح عليه السلام".
ومع ضعف الدولة العباسية كان الغزالي، المحافظ والمعادي للفلسفة، هو نفسه نتاج تأثرات نمّت عنها ولادته في طوس وعيشه في جرجان ونيسابور، قبل تعيينه في المدرسة النظامية ببغداد، ومن ثم تنقله بين دمشق والقدس والخليل، فطوس وهمذان ونيسابور في اخريات حياته. أما محيي الدين بن عربي، أعظم متصوفي الإسلام بعد جلال الدين الرومي، فامتزج لديه التصوف والمذهب الأشعري في صيغته الغزالية بفلسفة المشّائين والمدرسة الاسكندرانية والعلوم الباطنية ومذهب الاشراق. ولئن أثّرت كتبه في العرب، كما في الفرس و"الافرنج"، فإن خيالاته في "الفتوحات المكية" كان بعض ما استلهمه دانتي لكوميدياه الالهية. وعن اختلاط كهذا صدرت أبياته الشهيرة:
"لقد صار قلبي قابلاً كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وايماني".
وفي الأندلس آلت حركة تثاقُف واسعة إلى انتاج محاولات ارتبطت بمحمد بن عبدالله بن مسرّة، الميّال إلى مزج الاعتزال والصوفية بالآراء الباطنية والتعاليم الاسكندرانية واليونانية، وأبي القاسم مسلّمة بن محمد المعروف بالمجريطي أو المرحيطي الذي اعتُبر "إمام الرياضيين بالأندلس في وقته وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم وكانت له عناية بارصاد الكواكب". وظهر من العلماء والمؤرخين ابن صاعد الاندلسي الطليطلي في علم الفلك والرياضيات حيث رجع في هذا إلى "الأمم القديمة وخصائصها"، قبل أن يظهر الثالوث: ابن باجّة وابن طفيل وابن رشد.
وأولهم كان، على تعدد ابداعاته، أول الفلاسفة العقليين حصراً. تعامل مع الفلسفة في استقلالها عن الدين وبُعدها عن العامة، وركّزها على قاعدة من الرياضيات والطبيعيات، كما وضع مبادئ فلسفية في الالهيات، لائماً الغزالي على وصوله إلى الله صوفياً لا عن طريق التفكير. وكان رأي ابن باجّة في الصورة والمادة مزيجاً من رأيي ارسطو وأفلاطون، إذ المادة عنده لا توجد بلا صورة، وهذا حدّه الارسطوطاليسي، لكن الصورة توجد بريئة من المادة وإلا استحال تصوّر المادة تتقلب في سائر العصور، وهذا حدّه الافلاطوني.
وأما ابن طفيل فعرف ثقافة اليونان معرفة عميقة بطبيعة الحال، وإلا لما استطاع انشاء حيّ بن يقطان وبناءه. وجاء غضب العامة على تلميذه ابن رشد وإلقاء الأقذار على رأسه في شوارع قرطبة، ثم احراق كتبه ونفيه إلى أليُسانة، غضباً على أعظم الفلاسفة غير الأوروبيين أثراً في التفكير الأوروبي. والحال ان شروح ابن رشد على كتب ارسطو أدت إلى عداوة المسلمين من معاصريه له، واتهامه بالزندقة، بينما هي نفسها ساهمت في تحرير العقل الأوروبي وانطلاقته. وكان ابن رشد تناول بالشرح والتلخيص والردّ كتباً لفلاسفة عديدين بينهم أفلاطون وارسطو والاسكندر الافروديسي وجالينوس وبطليموس والفارابي وابن سينا وابن باجّة والغزالي والمهدي بن تومارت.
فمتى يتصالح تأويلنا التراثَ مع تحرير عقلنا وتعبيد طريقه إلى الكونية، فننتزعه من الأيدي العاميّة التي انتزعت لنفسها، في هذا المضمار، الموقع السيادي؟
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.