أذكر من بين الافلام التي اهتمت اجهزة الدعاية والاعلام في مصر بعرضها بعد الانقلاب العسكري في العام 1952، فيلماً عن حرب البوير في جنوب افريقيا من انتاج المانيا النازية، تحت عنوان "اعداء الإنسانية". وانتابني العجب إذ أرى أن المقصود بعبارة "اعداء الإنسانية" هم البريطانيون، في حين كنت في صباي أحسب ان الألمان النازيين، لا اعداءهم البريطانيين، هم اعداء الانسانية. ثم تبخرت سذاجتي بمرور الأيام إذ تتكرر ملاحظتي ان كل دولة تدخل في نزاع مع دولة اخرى تسم عدوتها بأقذع الصفات، وتنسب اليها ابشع الاتهامات، في الوقت الذي تتوهم فيه، وتحاول إيهام الآخرين، بأنها ملاك طاهر، لا هم لها إلا خدمة السلام، وما من شيء يدعوها الى التسلح أو الى التوسع او الى الدخول في حرب غير النيات العدوانية لعدو مقيت شرير يدفعها دفعاً الى اتخاذ مثل هذه الخطوات التي ما كانت لولاه لتخطر على بال. ما يدخلُ السجنَ إنسانٌ فتسألُهُ ما بالُ سجنك إلا قالَ مظلومُ! هذا الايمان من جانب الأمم والافراد بعدالة قضيتهم هم، وخبث طوية الخصوم، هو من ابرز اسباب الحروب بين الدول، والنزاعات بين الافراد. كان نلسون يوصي جنود اسطوله قبل موقعة الطرف الأغر بأن "يكرهوا الفرنسيين كراهيتهم للشيطان". وظل اتباع الانكليز لهذه الوصية قائماً حتى أطاحت موقعة ووترلو بعرش نابليون، فلم يعد ثمة ما يدعو الى الاستمرار في كراهية الفرنسيين. كذلك كانت خشية البريطانيين من ان يهدد النظام السوفياتي مستعمرتهم في الهند، داعياً الى تشويههم العمدي لصورة الروس، وإلى اعتبار النظام النازي الالماني في مستهل عهده نظاماً ديموقراطياً سليماً يتمتع بالشرعية الدولية، حتى اتضحت لهم الاهداف التوسعية الهتلرية التي هددت حليفاتهم في وسط اوروبا، فتحولوا الى وصم النظام النازي بالديكتاتورية البشعة، ثم الى الاشادة بالروح السلافية الليبرالية التي تشيع في نظام الحكم السوفياتي فما انتهت الحرب بهزيمة هتلر وتدمير المانيا، حتى سمح لأبواق الدعاية البريطانية باستئناف الحملة على السوفيات من النقطة التي كانت توقفت عندها في الثلاثينات. وينبع اعتقاد الدولة بخبث نيات دولة اخرى من احساس الاولى بأن خطراً حقيقياً أو متوهماً من جانب الدولة الثانية يهدد مصالحها، حتى إن كانت تلك المصالح في حقيقة الأمر غير مشروعة. فمتى كان من مصلحتنا التصدي لأمة ما بالخصومة والعداء، ترانا نكتشف فجأة ان كلّ أو جل افراد تلك الامة من "البلطجية" الذين لا يفهمون غير لغة القوة، ولا تجرى معهم مفاوضات أو حديث سلام، وأن معهم سيكون السيف "اصدق انباء من الكتب"، إلى غير ذلك من مئات العبارات التي استخدمها صقور العرب في نزاعهم مع الاسرائيليين. أو أنهم اجلاف متخلفون، لا يصلحون للاشتراك في بناء مجتمع دولي حديث، ولا يعرفون من المواجهة غير زرع القنابل في المقاهي والاسواق المكتظة بروادها، إلى غير ذلك من مئات العبارات التي استخدمها صقور الاسرائيليين في نزاعهم مع العرب. ثم يمضي ابناء هذه الدولة او تلك فيقولون انهم "سيلقنون العدو درساً لن ينساه" وانهم سيكونون "اداة في يد العدالة الإلهية" وسيقذفون بالاعداء في البحر جزاء بما كسبوا نكالا من الله. فإن امتدت اعين الانكليز مثلا إلى ذهب جنوب افريقيا وطمعوا فيه، اطالت اجهزة إعلامهم الحديث عن قسوة معاملة البوير للسود من الافارقة. وإن قرروا احتلال مصر عبّروا عن حسرتهم على وضع الخديو توفيق المسكين وتعرضه للمهانة على يد العرابيين الاحلاف. وإن رأى الفرنسيون في العام 1830 ضرورة لضم الجزائر صرخوا غاضبين إذ يجرؤ "الباي" على ضرب وجه قنصلهم بمروحة في يده. وفي كل من مثل هذه الحالات يُصدّق السُّذَّج ممن لا يدركون خفايا هذه الامور ما تردده وسائل إعلام دولتهم يوماً بعد آخر من ان العدو شرير شرس لا بد من سحقه تحت الاقدام. ثم إذا بمشاعر الكراهية عند هؤلاء السذج من افراد العامة تتحول الى هستيريا جماعية، وتتبلور حول الحقيقة الواحدة عشرات الاوهام من وحي الخيال، بينما يرسخ ساعة بعد ساعة إيمانهم بعدالة قضيتهم، وبنقاء سريرتهم ونُبل اهدافهم. فإن كان عدونا يغدر ويقتل، فنحن إنما "نقاوم الغدر ونواجه الموت" وإن كانت تصرفاته "وحشية بربرية" فتصرفاتنا "نبيلة بطولية"، فإن تحدثنا عن أقرباء لنا في ميدان القتال وصفناهم بأنهم "على أتم استعداد للموت في سبيل الوطن" ولا نقول إنهم يقتلون الاخرين في سبيل الوطن، في حين اننا في قرارة انفسنا ندعو الله ان يتحقق لهم قتل الاخرين من دون أن يموتوا. ولو أننا القينا نظرة على الصحف الصادرة في دولة ما اثناء الحرب، لهالنا ذلك القدر العظيم من الهوس والميلودراما والاخلاقيات القبلية الشرسة الذي يطل علينا من صفحاتها، ولعجبنا كيف كان ابناء تلك الدولة يأخذون اخبار تلك الصحف ومقالاتها على محمل الجد، ويصدقون كل ما تنشره عن الفضائح التي يرتكبها العدو. ولا أعني بهذا غير القول بأن كل او معظم الدول التي تدخل مع غيرها في نزاع او حرب، تبث الاكاذيب وترتكب الفظائع في حق هذا الغير. غير أننا نغض الطرف دائماً عما نرتكبه نحن منها او يرتكبه حلفاؤنا، ونضخم ونبالغ في تصوير ما يقترفه الاعداء، وهو ما تعنيه عبارة "الكيل بمكيالين". وقد تتكون لدى الناس انطباعات خاطئة عن دول او حتى مدن معينة، بسبب تركيز وسائل الاعلام على احداث تدور فيها لمجرد انها تراها احداثاً شائقة. فمعظم الناس مثلاً كانوا إن سمعوا منذ سبعين أو ثمانين عاماً اسم مدينة شيكاغو تتبادر الى أذهانهم على الفور صورة عصابات الإجرام فيها، في حين كانت الغالبية العظمى من سكان شيكاغو دائما من المواطنين العاديين المسالمين المطيعين للقانون. ولو ان صحيفة عربية احصت وأبرزت عدد جرائم القتل والتدليس والاختلاسات والفضائح الجنسية والاعتداءات البدنية، مما يرد ذكرها في وسائل الاعلام الاسرائيلية على مدى عام، ثم اضافت قولها إن هذه الحوادث تمثل مرآة صادقة لواقع المجتمع الاسرائيلي، لخُيل لقارئ تلك الصحيفة ان الاسرائيليين امة يسري في دمها الإجرام. ولو ان مؤرخاً غير بريطاني ألف كتاباً عن تاريخ الاستعمار البريطاني في الهند لكان من السهل عليه ان يثبت ان تعلق الانكليز بالديموقراطية تعلق زائف، وان اعتراضهم على قمع الحريات نفاق، وان استبشاعهم لقسوة رجال الشرطة او للحبس من دون محاكمة، لا يسري خارج حدود بلادهم هُم، ولا ينطبق على ما يجري في مستعمراتهم او حتى في الدول الاجنبية الاخرى. ثم ها نحن جميعاً في عالمنا الاسلامي نتحدث عن "فتح" عمرو بن العاص لمصر، او "فتح" ابي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد للشام، بل حتى عن "الفتح العثماني" للاقطار العربية، من دون ان يجرؤ احد على التحدث عن "غزو" عربي، او "احتلال" عربي لمصر والشام، على نحو حديثنا عن الغزو الفرنسي لمصر في العام 1798، او الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان في العام 1920. كذلك فإن استخدام تعابير مثل "النصر المبين" او "النكسة الموقتة" عند الحديث عن حرب حزيران يونيو 1967، يتوقف على ما إذا كنا من الاسرائيليين او من العرب. وهو أمر يذكّرني بما حدث لأحد الصحافيين المصريين ايام حرب الخليج الثانية، كان وقتها في زيارة للجزائر فدعته احدى الكليات الجامعية هناك الى إلقاء محاضرة عن الازمة الدائرة رحاها في الكويت، وأعد الصحافي المحاضرة في الصباح، ثم خطر بباله انه لا يدري ما إذا كانت مشاعر الجمهور الذي سيسمعها منه في المساء هي مع العراق أم مع الكويت وقوات التحالف. وإذ كان مدركاً لحدة طباع الجزائريين ويبغي السلامة لنفسه، فقد اعاد صوغ المحاضرة بحيث تصلح لكل من الحالين، مضيفاً عبارات وضعها بين اقواس، فإن تبين اثناء دردشته مع أفراد الجمهور قبل بدء المحاضرة ان مشاعر غالبيتهم مع العراق قرأ ما بين الاقواس واغفل الكلمات السابقة مباشرة عليها، وإن تبين ان العكس هو الصحيح وأن التعاطف هو مع الكويت اغفل ما كتبه بين الاقواس. ثم جاءت محاضرته المذكورة على النحو التالي: "أيها الاخوة والاخوات: إنه حقاً لمن دواعي سعادتي تعاستي أن اتحدث اليكم في هذه الظروف المجيدة العصيبة التي نحياها اليوم، ولا شك في انكم جميعاً توافقونني على أن منطقتنا العربية، بل العالم كله، يمران بمرحلة من أدق وأزهى أحلك المراحل في التاريخ بأسره: مرحلة انتصار الحق على الباطل الباطل على الحق والايمان على القوة الغاشمة القوة الغاشمة على الايمان والعدل على الظلم الظلم على العدل والديموقراطية على الفاشية الفاشية على الديموقراطية، وهي مرحلة لا شك في انها تبشر تُنذر بأن يسود النظام العالمي الجديد الذي نشهد اليوم فجره مبدأ سيادة القانون قانون الغابة وغلبته على كل ما عداه. إنني إذ أرقب من فوق هذه المنصة وجوهكم المتهللة العابسة وطلعتكم الباسمة البائسة لأشارككم الإحساس بالبهجة والفخار بالخزي والعار إذ تتناهى الى أسماعنا أخبار ذلك الهجوم الرائع العدوان الشرس الذي شنته القوات الحليفة على العراق العراق الشقيق وتلك الانتصارات الاعتداءات المدوية على من جانب قوى الخيانة والغدر، بعد أشهر طويلة من الاستعدادات الضخمة من أجل تحرير الكويت، من ربقة الاستعمار العراقي الغربي وإعادة الحكومة الشرعية غير الشرعية إليه. وليس عندي أدنى شك في أن الشعب الكويتيالعراقي العظيم يواجه الآن مهمة عظيمة خليقة بأمجاده السالفة، وهي إعادة بناء الكويتالعراق بعد الخراب الذي لحقه على يد المعتدين الآثمين من العراقيين القوات المتحالفة. غير اننا كلنا ثقة في أن شعب الكويتالعراق سينهض بمسؤولياته الجسيمة باقتدار بزعامة سمو الامير جابر الأحمد الرئيس صدام حفظه الله ونصره على اعدائه، ليعيد الى الكويتالعراق مجده القديم. إن التعتيم الاعلامي الذي فرضه قادة النظام العراقي قادة التحالف الدولي طوال اسابيع النضال، كان المقصود به إخفاء الجرائم التي اقترفوها داخل الكويتالعراق على يد حثالة من الجنود باعوا ضمائرهم للشيطان الأكبر صدام حسين جورج بوش وداروا في البلاد يقتلون الشيوخ والنساء والاطفال من الاهالي المدنيين العُزّل. غير ان الله سبحانه وتعالى الذي نؤمن به ونصدق كتابه، ويشمل شعبنا بعطفه ورضاه، لم لن يقبل لنا المهانة والمذلة فهو يقول في كتابه العزيز "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وهم من بعد غلبهم سيغلبون إنه عز وجل قد كلّل سيكلّل جهودنا وعزائمنا بالظفر، وألحق سيلحق بقوى الظلم والطغيان الهزيمة، وسيدخل الشهداء منا الجنة، ويدخل قتلاهم النار خالدين فيها ابداً، إنه على كل شيء قدير. أيها الإخوة والاخوات: في هذه المناسبة السعيدة المؤلمة لا يسعني الا ان اعبر عما اشعر به وتشعرون جميعاً به من تقدير واعتزاز من مرارة واسف للدور البطولي الإجرامي الذي لعبته بعض الدول العربية التي تدعي الانتساب الى العروبة في ازمة الخليج، ومبادرتها بإرسال قواتها الى الكويت المحافظة التاسعة عشرة لتحريرها لاقتطاعها من العراق، وهو ما نرى فيه تعبيراً أكيداً انتهاكاً صريحاً لرغبة ومشاعر الرأي العام فيها الذي هبت جموعه وحشوده هبة رجل واحد لتناصر قضية الكويتالعراق العادلة، وتدعو الى مقاومة قوى البغي، بخاصة بعد أن اطلعت على ما تنقله وسائل الاعلام من مناظر واخبار عن الجرائم الرهيبة التي ارتكبتها القوات العراقية المتحالفة في الكويت في العراق وهي جرائم تكشف عن بشاعة النظام العراقي النظام العالمي الجديد الذي يجلس على قمته صدام حسين جورج بوش، وتكتوي الامة العراقية الانسانية المغلوبة على أمرها بناره، والذي تقع عليه مسؤولية ما أريق من دماء، وخُرّب من ديار. كذلك فإني أكون مقصراً لو لم أذكر ذلك التأييد المخزي النبيل الذي لقبه العراق من جانب منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الدول التي تدعي الانتساب الى العروبة وبعض الدول العربية الشقيقة كالسودان والاردن واليمن، وبعض الجماعات الاسلامية الضالة المضلة المؤمنة الطاهرة التي زعمت بحمقها رأت بحكمتها ان احتلال استعادة العراق للكويت للمحافظة التاسعة عشرة هو الطريق الأنسب لتحرير فلسطينالمحتلة من ايدي الصهاينة، ولا ادل على حماقة حكمة هذه النظرة من ان القضية الفلسطينية قد أخذت طريقها بعد احداث الاشهر السبعة الماضية، ونتيجة لسياسة العراق، الى سلة المهملات الدولية الى قمة المشاغل الدولية. أيها السيدات والسادة: فلنتضرع جميعاً الى الله عزت قدرته ان يحمي الكويتالعراق من المؤامرات التي يحيكها أعداؤه، وان يتمكن ابناؤه البررة، بمعاونة الدول الصديقة، من أن يعيدوا في القريب العاجل بناءه، حتى يحتل من جديد مكانته الرفيعة المرموقة بين الدول، ويسهم في بناء مقاومة النظام العالمي الجديد... وشكراً لجميل استماعكم". * كاتب مصري.