في افتتاحية العدد الصادر في 21 كانون الثاني يناير 1902، اكد الطالب نجيب نصار "ان كل أمة لا تحافظ على جنسيتها من الخلل، ولا تطهر قومها من الشوائب الداخلة عليه، ولا ترد العوائد السيئة الواردة إليه، لا بد لها من القلاقل والمنازعات والسقوط والانحطاط وأخيراً الفناء والاضمحلال. هذه حقيقة أثبتها العقل وأيدها التاريخ ومحضها البرهان". فهل تنطبق الحالات السلبية تلك على الأمة التي منها بلدة "عين عنوب" الجبلية التي هبط منها نصار الى رأس بيروت حيث تقع الجامعة الاميركية؟ ويجيب الكاتب: "إذا سرّحنا رائد الطرف كناقد بصير في هذه البلاد الشرقية للنظر اذا كانت تجري بموجبها، لتحققنا حينئذ مصيرنا، ولعلمنا ان الحال الذي يحول إليه أمرنا، اذا داومنا على هذا المسير، وسرنا على هذه الوتيرة، لا يقوم إلا الاضمحلال". فهل يتناغم هذا الكلام مع بيتي الشعر اللذين ذُيلت بهما ترويسة الصفحة الأولى من الصحيفة، وهما: بهذا الشعار تبدت رموز على العلم والعدل والعز دلت وقد حقق الله هذه الرموز بأيام عبدالحميد وحلّت طبعاً لا. لذلك يمكن تفسير التناقض كالآتي: لا بد من مدح السلطان كشرط رئيسي لمن يرغب في اصدار مطبوعة. والدليل ان الذين مدحوا السلطان رغماً عنهم، ونصّار منهم، انتقدوه بقسوة عندما أصبح خارج قصر يلدز منذ صيف 1908.ويفاجئ نصار القراء بموضوع افتتاحية العدد الصادر في 4 شباط فبراير 1902. فعندما يقرأون الافتتاحية المعنونة "أحسن واسطة للتقدم" يتبادر الى أذهانهم ان الكاتب يتناول الحرية والعدالة والديموقراطية والتعليم. ولكنهم سرعان ما يواجهون بمثل العبارة الآتية: "ان بيت قصيد هذه العجالة هو الرياضة. وهو لعمري موضوع جدير بالبحث، خليق بالاعتبار، حري بالالتفات، لما له من النتائج الحسنة والفوائد العظيمة في الهيئة الاجتماعية". ولما كان "تقدم القوى العقلية" نتيجة لتقوية "الاعضاء الجسدية"، لذلك "ترى هذا الفن متقناً كل الاتقان عند الامم الأوروبية والشعوب الغربية". ونُشرت، في العدد نفسه، "كلمة شكر" للطالب الشيخ أمين تقي الدين وجهها الى سلفه الشاعر ورئيس تحرير صحيفة "الحظ" سليم عازار الذي دشن وظيفته بالقول ان مقدرته "على القيام مقام الكاتب القديم، فذلك مما لا تطمح النفس اليه". ولكن كلمة الشكر انقلبت الى ذم عندما رد تقي الدين على عبارة عازار معتبراً إياها "من قبيل المدح في معرض الذم". وهذا نقد ندر ان صدر مثيله لدى الشاعر تقي الدين. وكان لصاحب صحيفة "الكنانة" فؤاد سالم قرص في عرس "الحديقة" ايضاً. فتحت العنوان الماراتوني: "من له آذان للسمع فليسمع، ومن له عقل للفهم فليفهم، ومن له ضمير يشعر فليشعر"، قال للفاسدين من بني قومه: "أوجد الله فيكم ضميراً يشعر وقلباً يتأثر ودماً يسري في العروق. وجد القلب فيكم فلا تستبدلوا الشجاعة منه بالجبانة، وُجد الضمير فيكم لا ليستحثكم على الخمول والدناءة، وُجد الدم فيكم لا ليولد فيكم البرودة، فلا تعبثوا بما أُعطيتموه". ذلك ان عيشة الانسان، لا براتب يستوفيه، ولا ببطن يمليه... بل ان يكون عزيزاً وشجاعاً وكبير النفس، لا يخاف وعيداً ولا يخشى تهديداً ولا يراعي في سبيل الحق لا زيداً ولا عمراً ولا بكراً ولا عُبيداً". وبعنوان "خطرات أفكار" توّج نصار افتتاحية العدد الصادر في 22 نيسان ابريل 1902 شن فيها هجوماً على الأثرياء الذين ينشرون المقالات والدراسات في الصحف ويؤلفون الكتب على رغم ان موهبتهم لا تتعدى حدود ثرواتهم الطائلة، "ولا يخفى على القارئ اللبيب ما للمال هنا من اليد الطولى، فيه يصبح الرجل فيلسوفاً وعالماً خطيراً ويحسب نفسه ان له في هذا الفن الباع الطويل العريض، أو انه المجلّي في حلبة القريض". ولم تخل "الحديقة" من الاعلانات. ولعل أطرفها، ما أعلنه أمين تقي الدين عن رواية "المرأة الاسبانيولية" في العدد السادس من العام 1902، ولم ينس أن يذّيله بتوقيعه. ومما قاله "لمحبي مطالعة الروايات الغرامية" ان رواية "المرأة الاسبانيولية" طبعت "على ورق جيد بحرف جميل" وسبكت "بقالب عربي تتكسر البلاغة على جوانبه". أما ثمن النسخة الواحدة فأربعة غروش، وهي "قيمة زهيدة بالنسبة الى ما حوته من الفوائد الجمة والمعاني الرقيقة". كذلك، كان للاخبار حصة في صفحات "الحديقة". وبالطبع، كانت الأولوية لأخبار الأساتذة والطلاب والجمعيات والاحتفالات التي لها علاقة مباشرة بالكلية السورية الانجيلية. ولكن المفارقة في تغطية الاخبار ان قلم نصار الناقد في الافتتاحيات يتحول هنا الى مادح. وعلى سبيل المثال، كتب في العدد المزدوج 8 و9 الصادر في نهاية العام الدراسي 1902 عن احتفال "الجمعية العلمية العربية" واصفاً بعض الخطباء على النحو الآتي: "ولما أزفت ساعة التكلم انتصب حضرة الاستاذ العالم العامل جبر أفندي ضومط متكلماً مرحباً... ثم عقبه حضرة الخطيب المفوه نجيب أفندي مصوّر فتلا خطاباً في "الليل" فسمعنا منه كلمات رقت وراقت، فأجاد وأفاد... ثم تباحث كل من الكتبة النجباء الأفندية فريد مسوح ومراد صليبي وابراهيم كحيل وجميل أبو حاطوم فأفاضوا في موضوعهم وأسهبوا إسهاباً لم يملّ مع ايجاز لم ينحل، وأرونا من الكلام سحراً حلالاً ومن البراهين ما يفحم المعاند". وفي اعتبار ان أصحاب ورؤساء تحرير الصحف اليومية المطبوعة في بيروت آنذاك كانت تتبع النهج نفسه، فيمكن منح نصار الأسباب التخفيفية، أو البراءة في محكمة النقد، وهو الطالب الذي يصدر صحيفة خطية مرة كل اسبوعين، ويقتدي، في تحرير صفحاتها، بنهج من اعتبرهم الاساتذة الرواد. * كاتب لبناني.