لكل شيء إذا ما تم نقصان: هذا ما قيل قديماً، وهذا ما يثبت دائماً، وهذا ما يبدو ان الأمور تسير إليه في ما خص موضوعة المحرقة في الفكر الغربي الراهن. فترقية موقعها الى مرتبة المقدس الذي لا تجوز إثارة الاسئلة من حوله، يبدو أنه سيقود الى عكس ما يراد له. فالهدف الذي يؤكد عليه "مركزيو - المحرقة" هو الإبقاء على ذاكرة حية تجاه هذه الجريمة الانسانية ووحشيتها التي شوهّت التاريخ الأوروبي الحديث: ذاكرة تعمل بشكل أساسي على إبقاء الضمير الأوروبي حساساً تجاه قضايا العنصرية وتحميه من التطرف وهو هدف سام بالتأكيد إذا افترضنا البراءة من ممارسات الابتزاز السياسي التي تنظمها المنظمات اليهودية العالمية. غير أن الذي يشاهد الآن هو ان المبالغة في استحضار شاهد المحرقة يومياً، إعلامياً، ومدرسياً، ومؤتمراتياً، وسياسياً... احتلت مقام الهدف ذاته بما ينطوي عليه من أهداف سياسية في المقام الأول، فيما أنزوت موضوعة العنصرية الى مقام ثانوي وهي الاطار العام الذي انتج النازية والفاشية واخواتهما وفرخ المحرقة وسواها من ممارسات. مقابل نزعة المركزة الغربية للمحرقة، هناك تهميش لها في الكتابات العربية وانحياز باتجاه كل ما من شأنه التشكيك بها، وهو تهميش غير عقلاني إذ أنه يقلل حقاً من أثرها ومفعولها في تشكيل التفكير السياسي والثقافي الغربي تجاه فكرة تأسيس اسرائيل، على ما أشار حازم صاغية أكثر من مرة. لكن في الوقت نفسه علينا أن لا نقسو على القراءات العربية ونزعتها التهميشية للمحرقة، وموضعة هذه القراءات في سياق السجال السياسي الذي اشعله تكّون اسرائيل في قلب العالم العربي، وهو المنطقة التي دفعت وحدها الأكلاف التي ترتبت على العنصرية الأوروبية تجاه اليهود. بمعنى آخر، ولتفادي الخروج عن فكرة المقالة الرئيسية، فإنه من غير الدقيق الاستشهاد بتطرف الكتابات العربية إزاء المحرقة واستنتاج وجود ميل عنصري ضد اليهود كجنس أو سيطرة قلة الحساسية تجاه المجازر التي تعرضوا لها. واستئنافاً لمطلع الكلام، ومع التأكيد ثانية على أن ليس المقصود هنا التقليل من بشاعة المحرقة و"علو كعبها" الاجرامي، فإن ما يهم هنا هو الاشارة الى توغل الاهتمام بالمحرقة كحدث على حساب الاهتمام بدلالاتها العنصرية. وضمن هذا الاطار هناك عدة تفصيلات جديرة بالتناول. أهمها الالتباس الذي يكرسه منهج "مركزة المحرقة" لجهة قلب النظرية وشاهدها. فالنظرية هنا هي العنصرية بكل صورها وبشاعاتها، والشاهد هنا هو المحرقة بكل تاريخها ووحشيتها. والالتباس يكمن في تعميق اعتبار المحرقة منظوراً أساسياً، ان لم لكن وحيداً، يُنظر من خلاله لمسار تطور العنصرية و"فكرها" في أوروبا والغرب عموماً، ويُنّظر من خلاله أيضاً لتصويب ذلك المسار ولجمه راهناً ومستقبلاً. انه بكلام آخر موضعة النتيجة المحرقة مكان السبب الفكر العنصري، والتفنن في إعادة عرض النتيجة مقابل الضمور في معالجة السبب. فمقابل ما تشهده أوروبا من تكرار حول ما حدث في المحرقة، بتركيز على التفاصيل على حساب الاطار العنصري الأوسع، هناك ضمور واضح في تأسيس وعي مضاد للعنصرية يخترق البنيات الثقافية للمجتمعات الغربية الى العمق، ويتجاوز النخب المثقفة أو السطح الظاهري للمجتمع. المحرقة، هنا، تتأسس ويعاد تأسيسها في عمق الادراك الفردي والمجتمعي، لكن من دون تأطيرها بشكل تعليمي ناجز ومن منظور فعّال يسترذل العنصرية بكل تجلياتها. وهنا تكون النتيجة خلق حساسية مشهودة ضد "اللاسامية" الموجهة ضد اليهود، لكن من دون ان تمتد تلك الحساسية وبنفس العمق والمقدار لتشمل "اللاساميات" الأخرى. هذا من ناحية المادة المكّونة لتيار المركزة، أما من ناحية النظر إليه من زاوية "زمنية" فثمة ما يمكن تسجيله أيضاً. فالعنصرية ضد اليهود والتي انتجت المحرقة توقفت وما عاد لها وجود يذكر. لكن ثمة عنصرية لاسامية من نوع آخر تطورت في رحم "عقدة الذنب" التي ولدتها المحرقة، وهي هذه المرة ضد الفلسطينيين واستمرت نصف قرن، وما زالت قائمة، ويشارك في قيادتها ابناء الناجين من المحرقة. ابعد من ذلك، هناك عنصريات تتفاقم مقابل انخفاض أو انعدام العنصرية ضد اليهود. ونظرة سريعة الى تقارير المنظمات المختصة بهذا المجال تكشف حجم الجني العنصري المتربص بالأجانب في أوروبا الغربية والولاياتالمتحدة. وبتحديد أكثر فإنه من الواضح ان حقبة التسعينات التي شهدت تعميق وتوسيع الدراية بالمحرقة ودلالاتها والتأكيد على مركزيتها، هي الحقبة ذاتها التي شهدت أسرع نمو لتيارات العنصرية مثلاً ضد العرب والمسلمين في فرنسا، والأتراك في المانيا، والمسلمين في أميركا، والغجر في شرق أوروبا.... وهذا يعني وجود ثمة ميلان فاضح لصالح "الشاهد التقليدي - المحرقة" على حساب "النظرية - العنصرية". وهكذا، نغدو أمام نتيجة تقول انه طالما كان "الشاهد" أو ابناء جنسه قد تحرروا من العنصرية فالضمير الغربي بخير. اما استمرار إشتغال "النظرية" في أكثر من مجال وضد "اجناس" أخرى فإن ذلك أمر لا يحتل ذات الموقع القلق في الضمير الغربي ولا يحرمه النوم. وهذا التفارق الكبير الحجم في الواقع المعاش كفيل بأن يطيّر النوم عن عيون الذين يهمهم مستقبل انساني صحي لانسانية معلولة بالعنصرية. على هذا فإن ما يتم تأسيسه من وعي تجاه المحرقة وفقط هو وعي متحيّز ومنقوص لا يعالج الجذر الأم وقد يتسبب في تعميق العنصرية مستقبلاً باتجاهين: الاتجاه الأول خاص بالأفراد الغربيين أنفسهم، والثاني خاص بالأقليات غير اليهودية المقيمة في الغرب. ما نعنيه بالأول هو امكانية حدوث "ردة" متطرفة وحادة من قبل الأجيال القادمة من الغربيين تجاه "تحريم" الخوض في أمر المحرقة وقدسية موقعها. ومثل هذه الردة ستتغذى على التقليد الغربي الكلاسيكي الثائر على كل ما هو مقدس وإخضاعه للتشريح والتشكيك والرفض. إذ أن ما يتميز به الفكر الغربي منذ مطلع عهد التنوير الأوروبي هو انقضاضه بشراسة على كل ما هو مقدس أو ما يحل في منزلة المقدس. ويتوازى مع ذلك نزعة التفكيك والبحث العميق واللامتردد في أية موضوعة قد تلبس لبوس "الحقيقة الثابتة". وعليه فإن تعريض موضوعة "المرحقة" الى مزيد من البحث اللامتردد، والذي لا يخضع ل"ارهاب" القوانين الفاشية السخيفة التي تحظر الاقتراب منها كما في فرنساوالمانيا وكما قد يحدث في بريطانيا، سيكون مفيداً إذ يقوّض "قدسية" المحرقة، ويقطع الطريق على ردة عنيفة قد تتولد في رحم "قدسيتها". والخشية هنا ان الردة على "مقدس" المحرقة قد تتصف بما تتصف به عادة الردات الأخرى: أي التطرف المعاكس وانفجار مكبوت الحنق، ونشوء تيار لا ينكر المحرقة فحسب، بل وينكر الجذور العنصرية التي ولدّتها وولدت ممارسات أخرى بكل ما يعنيه ذلك من تقوية للتوجهات العنصرية. أما الطريق الثاني الذي قد تتعمق عبره العنصرية جرّاء مركزة "المحرقة" وتقديمها على جذرها فيكمن في العمل على تأليب "ضحايا" العنصرية ضد بعضهم البعض، على مستوى الأقليات الموجودة في الغرب. فالمتحيز ضدهم من غير اليهود سيراكمون شعوراً عنصرياً على المستوى الأفقي ضد اليهود الذين يتمتعون بحماية وتميز خاصّين، بل انتقلوا ليصيروا جزءاً من النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة في المجتمعات التي اضطهدتهم سابقاً، وليس فقط من لحمة مواطنيها العاديين كما يطمح بقية "الضحايا" الراهنين. مثلاً نسبة تمثيل اليهود في المؤسسات الحاكمة في الولاياتالمتحدةوبريطانيا مقارنة بنسب تمثيل الأقليات الأخرى التي تضاعفهم عدداً. من هنا فإنه لا يمكن النظر الى "القوانين" التي تحتظر البحث العلمي في جوانب المحرقة من وجهات نظر مشككة فيها، إلا أنها قوانين فاشية وستالينية وصنو سخافة بعض قوانين ديكتاتوريات العالم الثالث. انها قوانين تعرّي حرية الفكر التي امتازت بها أوروبا، وتخالف أبجديات التنوير الأوروبي منذ بداياته. وإذا كان ثمة شاهد مفيد هنا فإنه المؤرخون الجدد في اسرائيل الذين هتكوا "المقدس" الصهيوني، بعكس مقدس المحرقة في أوروبا الذي لا يمكن الاقتراب منه. وبقاؤه هكذا، أي مقدس، فإنه سيظل يغري بالهتك، لكنه هتك يعني تقوية النظرية الأم - العنصرية! ولو كان البحث في المحرقة وتناولها بل وحتى التشكيك فيها لا يقابل بالثورة العمياء التي نشهدها ضد كل من "تسوّل" له نفسه الاقتراب منها، فإن ستار القدسية لن يرفع من حولها، وبالتالي فلن يكون هناك إغراء بهتكه ابتداء وهتك إدانة العنصرية انتهاء. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.