لن يكون الرئيس الأميركي الخارج من أتون الانتخابات الأخيرة ضعيفاً ضرورة ولزاماً، أو أنه ان جد لديه عارض من وهن، فأسبابه قد لا تكون حتماً ناجمة عن طريقة انتخابه وشحّ ما ظفر به من غالبية من الأصوات، بل عن عوامل عديدة أخرى قد تعود الى مواصفاته كقائد وهمته في معالجة أمور البلاد والعالم، أو الى ما قد يرشح به الوضع السياسي من مصاعب على هذا القدر أو ذاك من الاستفحال أو من الاستعصاء خلال السنوات الأربع المقبلة والى مدى النجاح أو الاخفاق في مجابهتها. أما مسألة الأصوات وما يبدو عليها من تردد في إيلاء الفوز جلياً الى هذا الطرف أو ذاك فهي قد لا يتوقع لها ان تخلف أثراً أو إرباكاً متماديين، ما إن يحسم أمر احصائها، حيث من المرجح، بل ربما من المؤكد، أن يتعاطى البلد مع الرئيس الجديد على أنه ممتلك لشرعية الحكم، وأن هذه نافذة لا غبار عليها. ذلك ان الولاياتالمتحدة لا تختار رئيسها بالاقتراع العام والمباشر، ذلك الذي يقول رأياً شائعاً وقد لا يكون دقيقاً، بأنه إكسير الديموقراطية ومفتاحها الذهبي، حتى يكون لقلة الأصوات الشعبية وضيق هامشها العددي كبير تداعيات على منصب الرئاسة العليا وعلى قدرة الرئيس المقبل على الاضطلاع به والنهوض بأعبائه. فالناخب الأميركي، إن لم يتكاسل عن ارتياد صناديق الاقتراع وتلك سمة من سلوك لديه غالبة، لا ينتخب عندما يدلي بصوته رئيس البلاد، بل هو يختار من يفوضهم لأداء تلك المهمة، وهم أولئك "الناخبون الكبار"، ولهؤلاء القدرة، يمحضها النظام الساري ويخولها الدستور، على تحويل أرجحية من التصويت الشعبي ضئيلة حرجة الى غالبية صريحة مريحة ناجزة ومسلّم بها بصفاتها تلك... وحتى في صورة ما إذا تعذر تحقيق ذلك على أولئك "الناخبين الكبار"، فإن القانون قد توقع مثل ذلك المأزق، وتصور سبل تذليله والخروج منه، بإحالته الى البرلمان للحسم. والكلام هذا لا يجب أن يؤخذ على محمل انكار أن تكون الولاياتالمتحدة تعاني فعلاً من أزمة، أفصحت عنها انتخاباتها الأخيرة، والنتائج الملتبسة لتلك الانتخابات، على أجلى نحو. بل كل ما يراد قوله أن الأزمة تلك وان كانت ماثلة، إلا انها لا تزال في طورها السياسي البحت، ان صحت العبارة، لم تنل من المؤسسات، ومن فاعلية هذه الأخيرة في معالجتها، أي أن الأزمة إياها قابلة للتذليل بما تتيحه تلك المؤسسات، دون ما لجوء الى فعل من قبيل استثنائي، وأن السمة تلك هي، في نهاية المطاف، ما يميز نظاماً ما زالت آلياته تعمل بشكل "طبيعي"، ولم تصب بعطل يعقدها ويفتح في وجهها أبواب مجهول يعسر ضبط مفاعيله. أما عن الأزمة المذكورة، فمكمنها هي تلك الغلبة للوسط، وطغيانه على مناحي التعبير السياسي بما يجعل من الحسم والاختيار بين متنافسين متشابهي البرامج والدعوات يوجهانها الى جمهور بعيد التماثل أو ينزع اليه، أمرين صعبين بعيدي المنال، حتى أنه ربما تسنى القول أن المعضلة الأميركية في ذلك الصدد انما ميزتها الفارقة والأبرز هي الافراط في الاجماع لا انتفاؤه. واذا كان صحيحاً، على ما نبه بعض من نبهاء المحللين والكتاب، الى أن الأمر ذاك ليس بالجديد على الحياة السياسية الأميركية، وأن هذه الأخيرة كان الالتقاء في مواقع الوسط دوماً ديدنها، وأنه قد سبق لحالات انعدام حسم كالأخيرة أن ظهرت في انتخابات سابقة، بل أنه قد حدث أن مكّن "كبار الناخبين" من الفوز مرشحاً لم يحظ من المقترعين الشعبيين الا بما دون غالبية الأصوات. لكن أغلب الظن، مع الاقرار بكل ذلك، ان الحالة الراهنة، الناجمة عن الانتخاب الأخير قد تكون في بعض أوجهها على الأقل مستجدة غير مسبوقة. فما كان في تلك الوسطية، في ما مضى، تعمداً واتفاقاً وتواضعاً وتعاقداً وإجراء، هدفه مغالبة الأهواء والنوازع القصوى وتشتتها وتهديدها للحمة السياسية للبلاد، بدا، بمناسبة المواجهة الأخيرة بين جورج بوش الابن وآل غور، الى كل ذلك، انعكاساً لنصاب سوسيولوجي، مانع لكل تباين وتمايز، وان موقتاً، ومكبل للحياة السياسية، الى درجة العجز عن اختيار رئيس. غير ان القفز من كل ذلك الى استخلاص وجود أزمة دستورية أو أزمة مؤسسات تعاني منها الولاياتالمتحدة، على ما روج كلام كثير خلال الآونة الأخيرة، استناداً الى ما شهدته ولاية فلوريدا من احصاء للأصوات لا يكاد يُفرغ منه حتى يُصار الى اجرائه من جديد، ومما اعترى عملية التصويت في تلك الولاية من اختلال واضطراب وسقم تنظيم، قد لا يكون بالاستنتاج الدقيق. وقد بنى أصحاب ذلك الرأي قولهم على عوامل، بعضها قد يكون من قبيل العوارض، ولكنهم اعتبروه بالغ الفعل، شأن ما يقال عن استفحال "الثقافة القانونية"، في ذلك البلد الذي يوصف بأنه بلد المحامين، على نحو كثيراً ما ينزلق بالمحاججة الى مستنقع المماحكة العقيمة، في حين يوصف البعض الآخر من تلك العوامل بأنه جوهري، وهذا يتمثل في النظام الانتخابي الأميركي، وهذا صيغ قبل قرنين من الزمن، ويُزعم بأنه لم يتطور مع تقدم الديموقراطية ولم يواكب مسار تحديثها، والنقد، في هذا الصدد يستهدف خصوصاً "مؤسسة الناخبين الكبار"، تلك التي يُرى بأنها تزاول على خيارات الجمهور وصاية، منافية لمبدأ سيادة الجمهور، تلك التي يمثل الاقتراع العام والمباشر عنوانها وآيتها. ووجه الوهن في ذلك المأخذ أنه يستند الى وهم، من طبيعة ايديولوجية، أشيع حول الديموقراطية أو اشاعته هذه عن نفسها، لا الى حقيقة ممارستها. ذلك ان توخي الاقتراع العام والمباشر في تنصيب من يتولى السلطة السيادية العليا، هو في واقع أمره أسلوب من طبيعة استفتائية كثيراً ما سعت الديموقراطيات الراسخة الى تجنبه واتقائه، ومناصبته الحذر والريبة، اذ أنه يحمل في جوهره مخاطر الرعاعية والديماغوجية المؤسسة للاستبداد أو المسوغة والمغذية له. ولعل ذلك ما يفسر ان المبدأ المذكور، وان كان، من الناحية النظرية، لدى الديموقراطيات من مقوماتها الأكيدة، الا انها، من الناحية العملية والفعلية، تبدي بالغ الحرص على تقنينه وضبطه والتحكم فيه وعدم اتخاذه مطية الوصول الوحيدة، والامتيازية الى سدة الحكم. وهكذا، فإنه لا يكاد يوجد من بلد ديموقراطي غربي ينتخب رئيسه، الممتلك لناصية السلطة التنفيذية أو لبعضها، بواسطة الاقتراع العام والمباشر، سوى فرنسا، وفق نظام الجمهورية الخامسة ذلك الذي صاغه الجنرال ديغول في أواخر الخمسينات، وحامت حوله في الإبان شبهة "الديكتاتورية"، تلك التي بذل زعيم "فرنسا الحرة" بالغ الجهد في نفيها عنه وعن نظامه. واذا ما قارنا بين ذلك الاستثناء الفرنسي، وبين "القاعدة" المعمول بها في بقية الديموقراطيات، قد لا نجانب الصواب كثيراً، ان ذهبنا، انطلاقاً مما سبق، الى ان رئيس حكومة كليونيل جوسبان، صادر عن غالبية برلمانية، أي منتخب على نحو غير مباشر، قد يكون ممتلكاً لشرعية ديموقراطية أكبر من تلك التي من نصيب "شريكه" على رأس السلطة التنفيذية، جاك شيراك، ذلك الصادر "فقط" عن شرعية شعبية عامة ومباشرة. ذلك انه في ما عدا ذلك الاستثناء الفرنسي، وهذا له من الخلفيات التاريخية الخاصة ما لا سبيل الى الخوض فيه في هذا المجال، فإن بقية الديموقراطيات تستنكف، في الواقع، عن مبدأ الاقتراع العام والمباشر، وسيلة لاختيار الحاكم، ممثل السيادة أو المؤتمن عليها، حيث يكون ذلك المبدأ معمولاً به فقط على مستوى مختلف المراتب التمثيلية الوسيطة، من أقلها شأناً الى أرفعها مقاماً. وهكذا، فإن طوني بلير وخوسيه ماريا أثنار والمستشار غيرهارد شرودر وسواهم، لم ينتخبوا بالاقتراع الشعبي الا بوصفهم نواباً عن مناطقهم، في حين ان نواب أحزابهم، أو ائتلافاتهم الحزبية، هم من يوفر لهم الغالبية، ويمكنهم من تولي رئاسة حكوماتهم، وذلك حتى وأن أوحت شخصنة المعارك الانتخابية وحاجة الأحزاب الى من تأنس فيه القدرة على رفع رايتها، بغير ذلك بل انه يحدث ان يصل الى رئاسة الحكومة شخص، لم تخض المنافسة الانتخابية تحت لوائه، فقط لأن غالبيته البرلمانية تمكنه من ذلك، دون ان يُعتبر ذلك اخلالاً بقواعد الديموقراطية وبمعاييرها، وتلك مثلاً حال كل من رئيس حكومة ايطاليا الحالي جوليانو أماتو وسلفه المباشر ماسيمو داليما. وهكذا، فإن الديموقراطيات لا تضع مبادرة الحكم في يد الجمهور، وان تأسست على احترام ارادته والامتثال لها، بل هي تصرف تلك الارادة عبر قنوات التمثيل غير المباشر، لتصحيحها عندما تدعو الحاجة ولانتزاع كل صفة من تسويغ للاستبداد قد يتذرع بها، وهي لذلك غالباً ما تضع مراتب السيادة العليا، بعد تحييدها، في أشخاص أو في مؤسسات، يؤتمنون على تلك السيادة يمثلونها ولا يزاولونها، أقله في الظروف العادية، من رؤساء جمهوريات ليست لهم من سلطات، ينتخبهم النواب والشيوخ، أو من ملوك "يملكون ولا يحكمون"، يدينون بمكانتهم تلك الى وراثة سلالية لا يجد المواطنون في استمرارها غضاضة. وحتى ان بدت الرئاسة الأميركية مخالفة لتلك القاعدة، طالما ان من يتولاها يتمتع بسلطات تنفيذية فعلية، فإن تلك المخالفة تبقى نسبية، طالما ان من يتولى ذلك المنصب ينتخب من قبل "الناخبين الكبار"، ويخضع لرقابة الكونغرس والصحافة وما الى ذلك، كما أن الولايات، بحكامها ومجالسها البرلمانية وسواها، تحوز على هامش من صلاحيات واسع يدرأ عنها نفوذ السلطة الفيدرالية "المركزية". كل ذلك للقول، بالعودة الى موضوع الاقتراع الأميركي، أنه لولا وجود ذلك الجسم الانتخابي غير المباشر، ممثلاً في الناخبين الكبار، ثم في البرلمان، لتحولت الأزمة الانتخابية الأخيرة الى أزمة نظام طاحنة. ونحن لا نقول ذلك من باب الدفاع عن النظام السياسي الأميركي، فلا ذلك بالأمر الذي يعنينا ولا النظام ذاك في حاجة الى مرافعتنا، بل ان الهاجس الأساسي انما هو التوقف عند ذلك "التأليه" للجماهير، ذلك الذي انتقل عندنا من شعارات الايديولوجيات الثورية الى الخطاب المدعي الذود عن الديموقراطية، فأصبح بذلك كلام حق ديموقراطي كثيراً ما يراد به باطل استبدادي. ولعل في ذلك ما يفسر لماذا لا تخشى أنظمة الاستبداد المطبقة على منطقتنا انتخابات الاقتراع العام والمباشر، من تلك الطبيعة الاستفتائية، تجريها وتنال منها الغالبيات الساحقة، بالتزوير أو من دونه. * كاتب تونسي.