إذا خرج بيل كلينتون من البيت الأبيض قبل ان يحرز اتفاقاً فلسطينياً - اسرائيلياً، فإن ذلك سيشكل خسائر كبيرة وتاريخية لاسرائيل في سعيها الى تسوية لمصلحتها مع الفلسطينيين. وحده كلينتون يستطيع ان ينجز اتفاقاً يكرس الاحتلال مع بعض الاجراءات التجميلية. لماذا؟ لأنه مقتنع اقتناعاً عقائدياً ايديولوجياً بوجهة النظر الاسرائيلية وبكل خلفياتها العقائدية وحتى بخرافاتها. هذا لا يعني ان جورج بوش وادارته سينسفان قواعد التفاوض، ويتخليان عن الانحياز للحليف الاسرائيلي، ولكن يُعتقد انهما سينظران الى مصلحة اسرائيل من زاوية مختلفة، ويُفترض ان لا يتركا اسرائيل تقود سياسة اميركا في الشرق الأوسط كما كانت الحال طوال عهد كلينتون. وتفادياً لأي احراجات سريعة ووشيكة، في بداية عهد بوش، ستبقي الإدارة الجديدة على تشجيعها الضمني لكلينتون في سعيه الى اتفاق. عندئذ سيستطيع بوش التصرف بمزيد من الارتياح، متحرراً من ضغط الاحداث، بل ستستطيع ادارته ان تبلور نوعاً من الانحياز "المعتدل" أو "المتنور" باعتبار ان المصالح الاميركية تتطلب - بعد انهاء الصراع - تحسين صورة اميركا في العالم العربي والاسلامي. على رغم ثوابت الانحياز في السياسة الاميركية، فإن اسرائيل لن تجد رئيساً مثل كلينتون يقوم بدور المفاوض والوسيط، بدور الطرف والوسيط في آن. ولن تجد رئيساً مثل كلينتون يأخذ مقترحاتها ويتبناها حرفياً ويطرحها على انها مقترحات اميركية، وهو فعل ذلك في مختلف المراحل وعلى كل المسارات. ولن تجد رئيساً مثله مستعداً لتبني كل الهراء الذي يقدمه الاسرائيليون على انه حقوق لهم في القدس والحرم الشريف. ولن تجد رئيساً مثله يستهلك كل هذا الوقت لانجاز اتفاقات يعرف مسبقاً ان حلفاءه لن ينفذوها على رغم انه كافح بدأب لتحصيل مصالحهم. اكثر من ذلك، سيسجل الاسرائيليون ان كلينتون هو الرئيس الذي محا من السياسة الخارجية للولايات المتحدة كل أثر لمواقف اميركية مبدئية مستندة الى القوانين الدولية وقرارات الشرعية الدولية تتعلق بالحقوق الفلسطينية، وكرّس مرجعية وحيدة للتفاوض تستند الى ما يطرحه الاسرائيليون وحدهم. وقد ذهب كلينتون أبعد من الاسرائيليين في تفسيرهم "اتفاق اوسلو" وفقاً لرؤيتهم، وآمن بأن المطلوب في الشرق الأوسط ليس "السلام" وانما تحقيق مصالح اسرائيل أولاً وأخيراً. وعندما قال وردد مساعدوه ان "عملية السلام" باتت في صلب الاستراتيجية الاميركية، لم يكن يخادع، لأن هذه الاستراتيجية تعني في الشرق الأوسط تحديداً تحصين أمن اسرائيل وتعزيز مصالحها والإبقاء على وظيفتها الاساسية - كحليف استراتيجي - وهي افساد استقرار المنطقة وابقاء التوترات فيها. في ضوء هذه الخلفية يُفهم الفشل في كامب ديفيد، كما يفهم التعثر في الوصول الى اتفاق في ربع الساعة الأخير من ولاية كلينتون. فهذه هي اللحظة التي يفتر ض ان تثمر فيها علاقة التحالف الاستراتيجي بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، وإلا فإنها كانت وستكون مجرد وهم. فأميركا مهتمة بإنهاء الصراع وليست مهتمة بمضمون الاتفاق على انهاء هذا الصراع. ولو كانت مهتمة لما موّلت طوال عقود عملية الاستيطان وتوسيعه، ولما انتظرت الى اليوم لفتح ملف اللاجئين. فهي كاسرائيل اعتبرته مغلقاً ولا عودة اليه، ولما سمحت لحليفتها بالتمادي في ضم القدسالمحتلة وسرقة أرض متنازع عليها وضمها أيضاً الى المدينة. عندما يقول كلينتون ان الطرفين "أقرب مما مضى" الى اتفاق، فإنه هنا أيضاً لا يخدع الا من يرغبون في الانخداع. فعلى رغم ان الظروف لا تبدو ناضجة لإنجاز اتفاق الآن، بل لا تبدو ناضجة اطلاقاً للتوقيع على نص يقول ان الصراع انتهى، سيتمسك الرئيس الاميركي حتى آخر لحظة بتحقيق مصلحة اسرائيل حتى لو كلف ذلك "اتفاقاً" يؤجج الصراع أكثر مما ينهيه