عندما نتحدث عن الالوان نقول يعجبنا هذا اللون أو لا يعجبنا. ولاننا لا نتشابه، فسوف نختلف عن بعضنا بعضاً في فهمنا للالوان واحساسنا بها ولكن أكثرنا قد يشترك في اختيار اللون نفسه لمناسباتنا المشتركة. فكل النساء يخترن الابيض لليلة الزفاف وأغلب الرجال يختارون الاسود في هذا اليوم! وأغلب النساء يلبسن الاسود في المناسبات الحزينة وقد يكون لونهن المفضل للسهرات. وجميعنا ربما يختار وردة حمراء ليمنحها لمن يحب في مناسبة ما، والكثيرات منا يفضلن اخفاء اللون الأبيض من الشعر بأي لون آخر قد يكون مناسباً. وقد نفضل لونا على آخر لمجرد كونه الموضة السائدة. هكذا نختلف أو نتفق في اختيار لون أو نبذه ولكننا لا نختلف في ان الالوان احدى صور الجمال في عالمنا. ولكن ماذا سيحصل لو تصورنا العالم من دون ألوان أو من دون أصباغ؟ فبأي لون سيكون؟ ماذا سنفعل، وكيف ستكون الحياة؟ ويا ترى ماذا سيفعل الرسامون؟ ماذا ستفعل المرأة من دون مساحيق التجميل؟ وهل تستطيع أن تخفي عدد سنين العمر بعد ذلك؟ ربما سنكون أقرب الى الحقيقة! والأسئلة كثيرة. ولكن لن تكون الحياة جميلة من دون الألوان. وقد يكون العالم مخيفا وكل شيء فيه سيكون مختلفاً. لا اريد أن أبعث في نفوسكم الرعب وليست لي الرغبة في العودة الى زمن الابيض والاسود. ولأكن أكثر رفقاً بنفسي وبكم وبالعالم اجمع واسمحوا لي ان أفترض غياب اللون الأحمر فقط! سأعود وأتساءل : بماذا سيستبدل العشاق وردتهم ؟وماذا سيفعل مصارعو الثيران في اسبانيا؟ وبأي لون ستكون اشارة الخطر؟ و بماذا سيصف الشعراء والمغنون وجنات الجميلات وشفاههن؟ الأحمر لون لا تخلو منه خزانة امرأة. الاحمر لون جذاب مثير للانتباه، مليء بالحيوية ونجده بتدريجات عدة ومنه ما يسمى بالأحمر القرمزي. ولهذا القرمزي حكاية طريفة أو بالأحرى لظهور الصبغة القرمزية حكاية. في القرن السادس عشر كان يعيش في امريكا الوسطى والجنوبية وتحديدا في "المكسيك" و "بيرو" جماعة بشرية تسمى بشعب الأنكا والأزتيك. كانوا يعيشون على تربية أفواج من الحيوانات الصغيرة ذات لون اسود وأحمر ومغطاة بزغب يشبه القطن ولها ستة ارجل وحجمها بحجم رأس عود الثقاب. وتعتاش هذه الحيوانات على نبات الصبار الشوكي. يأخذ القرويون قطعانهم الى مراعي الصبّار صيفاً وفي الشتاء يضعونها داخل بيوتهم حفاظاً عليها من البرد. هذا ما اعتادوا عليه وتوارثوه لسنين طويلة. ان ما ينتجه هذا الحيوان لم يكن طعاماً ولا لباساً بل صبغة حمراء مبهرة. هؤلاء القرويون يزرعون أرضهم بالصبار اساساً لتربية هذا الحيوان الضئيل أو هذه الحشرة الصغيرة والتي تسمى كوشونيل أو حشرة القرمز Cochineal. وكانت صبغتها تساوي ثروة أكثر من الذهب. وكانت هذه الحشرة في عام 1600 ثاني أهم الصادرات المكسيكية بعد الفضة. في القرن السادس عشر وعند اجتياح الأسبان لتلك المناطق من العالم أخذوا في طريق عودتهم هذا الأحمر الطبيعي الى أوروبا حيث "لون" مجرى التاريخ، إن صح التعبير. ومنذ فجر التاريخ المكتوب نعلم ان أجسام الحشرات استخدمت كاصباغ وأحبار. الأمثلة على ذلك كثيرة كالأعمال الفنية الكلاسيكية الهندية التي استخدمت فيها الوان كانت خلاصة من اجسام الحشرات. الأوربيون أيضاً جمعوا حشرة من وباء يصيب اشجار البلوط يسمونها أيضاً قرمز Kermes تجفف ثم توضع في الماء كي تتحلل وتعطي اللون الاحمر الذي بإمكاننا ان نرى آثاره في رسوم الكهوف من بقايا العصر الحجري في فرنسا، ويقال ان هذه الحشرة استخدمت ايضاً في المومياءات المصرية القديمة لكن اللون الذي تعطيه كان فاتحاً وباهتاً. لذا فأن ما أثار استغراب واعجاب قائد الجيوش الأسبانية هو اللون الاحمر الصارخ والمبهر للدروع الجلدية الذي يلبسها المقاتلون هناك وكذلك اللون الاحمر القاني للرداء القطني الذي يلبسه الحاكم. كان لهذا اللون الاحمر الثريّ دلالة لدى شعوب تلك المنطقة كدلالة اللون الأزرق الارجواني الملكي بالنسبة للاوربيين. عندما سيطر الاسبان على المدينة التي تسمى اليوم "مكسيكوسيتي" وجدوا أكياساً مليئة بصبغة حمراء عرفوا انها ضرائب يدفعها الاهالي الى حاكم المدينة، فأخذوها وأرسلوها الى اسبانيا كغنائم وكغرائب من العالم الجديد. وعلى الفور انتشرت في أوروبا وحققت نجاحاً باهراً بسبب لونها الحاد الناري والمشرق مما دفع الاوروبيين للتخطيط لكيفية الاستفادة من هذه الصبغة الخام. في عام 1630 سقطت خطأً بضع قطرات حامضية على كمية من هذه الصبغة المحفوظة في علبة من القصدير لدى رجل هولندي، فحدث ان تحللت العلبة وتفاعلت المادة الناتجة من التحلل مع الصبغة فنتج عن ذلك صبغةً أكثف وأكثر تماسكاً. وعند استخدامها كانت تدوم فترة اطول واللون الناتج من هذا التفاعل كان هو اللون الاحمر القرمزي الذي نعرفه اليوم والذي أصبح استخدامه هوساً وجنوناً لدى كثيرين، فأصبح لون رداء رجال الكنيسة الكاثوليكية واستخدمه الفنانون البارعون مثل "مايكل انجلو" حيث أعطى رسومهم لوناً نابضاً متوهجاً. وأصبح اللون القرمزي آنذاك لون الملوك والحاشية وأُغرمت به النساء الارستقراطيات فاستخدمنه في عباءاتهن ومعاطفهن. وبسبب غلاء وندرة حشرة القرمز فأن الملابس القرمزية أصبحت مرتبطة بالسلطة والثراء. وبدءاً من عام 1645 صبغت سترة العديد من الافواج العسكرية البريطانية بهذا اللون وبذلك اصبح اللون القرمزي مرادفاً للقوة البريطانية. ثم اتخذ لوناً للزي الرسمي للحرس البريطاني. عمل البريطانيون كتجار وسطاء لبيع هذه الصبغة الى التجار الاميركيين فارضين عليهم ضرائب عالية جداً مما دفع التجار الاميركيين الى التمرد ورفض دفع تلك الضرائب عندما استطاعوا ان يشتروا الصبغة الخام مباشرة من اسبانيا أو المكسيك، وبذلك فان هذه الحشرة اضافة للشاي هي احدى اسباب اشعال فتيل ثورة الاستقلال التي حصلت في امريكا. دخل القرمز الطبيعي في تلوين الاطعمة مثل "الكيك" والشراب وكذلك الادوية قبل اكتشاف التلوين الصناعي. ومن أهم استخداماته كونه عنصراً رئيسياً في مستحضرات التجميل المسماة "روج" Rouge. بقي الاوروبيون ولفترة طويلة يعتقدون ان هذه الصبغة مستخرجة من نوع من الثمار يشبه الزعرور أو من الاوراق وربما من الحبوب بخاصة ان الاسبان حفظوا سرّ أصل هذه الصبغة وكانوا يسمون الحشرة Grana وهي أقرب الى كلمة حبة باللغة الإنكليزية Grain حيث كان شكل الحشرة المجففة يشبه حبة القمح. ولكن بعد عام 1700 اكتشف أحد العلماء الهولنديين ان هذه الصبغة لم تكن متأتية من مصدر نباتي عندما لاحظ وجود ارجل في المادة الخام. في محاولة منهم للمحافظة على احتكارهم لهذا المنتوج استطاع بعض الاسبان القادمين من حقول الصبار الشوكي نقل هذه الحشرة. بعد ذلك قام مغامرون من هولنداوفرنسا بالتسلل وتهريب الصبار مع الحشرات التي تعتاش عليه، وقاموا بتربيتها بكميات كبيرة وفي عشرات المدن في شمال افريقيا وفي مناطق البحر المتوسط وفي البحر الكاريبي وحتى في الجزر والمناطق الحارة مثل هاييتي وجزر الكناري التي حولت اراضيها المزروعة بالكروم بعد تسويتها الى مزارع للصبار وكان ذلك بين عامي 1831-1874. واستطاعت هذه الجزر في العام 1868 ان تصدر حوالى 420 بليون حشرة. ومع ذلك ففي منتصف عام 1800 اكتشفت أول صبغة مصنعة بواسطة عالم انكليزي وهو يعمل في مطبخه. بعد ذلك بدأت تحصل الكثير من المتغيرات في مجال تصنيع الالوان ولم تستطع مصانع صبغة القرمز الطبيعية مواكبة المتغيرات السريعة فسرعان ما انهارت. مع ذلك فان هذه الحشرة ما زالت تربى في الكثير من الدول حول العالم، على رغم ان الطلب عليها اصبح أقل بكثير مما كان عليه في الماضي، لانها ما زالت تدخل في تركيبة بعض مواد العلاج الطبية وفي تلوين الصور والرسوم الفنية. ففي ايران مثلاً يدخل القرمزي ايضاً في صناعة السجاد العجمي المعروف بندرته. كما ان بعض شركات التجميل ما زالت تستخدمه في مساحيق التجميل واحمر الشفاه. من الاسباب التي جعلت الطلب على هذه الصبغة يقل أيضاً هو كون موطنها الاصلي بيرو منطقة محفوفة بالمخاطر بسبب اعمال العصيان وحرب العصابات التي تحصل فيها، لذا فان جمع الحشرة كان عادةً يتم ليلاً، وتلك عملية لا تخلو من المخاطر. وعلى رغم كل ذلك فان القرمزي بامكانه ان يستعيد مكانته ومجده مجدداً اذا ما تركت معامل تصنيع الاطعمة الاصباغ الصناعية.