لا توجد مدينة بين مدن العالم في التاريخ القديم والحديث، تنفرد بمكانة خاصة مثل مدينة القدس الشريف، وذلك لما لها من ثروة روحية عظيمة. فهي ملتقى الديانات السماوية الثلاث. وهي لذلك تجتذب اليها اهتمام المسلمين والمسيحيين واليهود. غير انها بالنسبة للعرب تشكّل إضافة الى بعدها الديني اولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين ومعراج النبي ص الى السماء اهمية سياسية قومية، هي امتداد للقضية الفلسطينية عامة في كافة ابعادها الدينية والسياسية. اذ كانت القدس، طوال القرون التي تمتعت فيها بالسيادة العربية، تستقبل الجميع بكل تسامح، وتتيح لهم ممارسة شعائرهم الدينية بأوسع حرية. وقد طلبت القدس كذلك حتى كان تاريخ احتلالها وفلسطين جميعاً من قبل الانكليز عقب الحرب العالمية الاولى، وظهور وعد بلفور المشؤوم في 15 ايار مايو 1917. فبدأ اليهود ينفذون الخطة التي اعدت مع الدوائر الاستعمارية، لقيام الكيان الصهيوني فوق التراب الفلسطيني. وبدأوا يثيرون الاضطرابات والفتن. وبدأت تظهر المنظمات الصهيونية المتطرفة التي تعبث بالأمن وتعتدي على الآمنين. الأقصى سنة 1929 وتعتبر حادثة القدس في آب اغسطس 1929، من الحوادث العسكرية الغاشمة التي قام بها اليهود المتطرفون لافساد الحياة الآمنة في المدينة والشروع في تهويدها المبكر. ويتحدث اميل الغوري احد القياديين الفلسطينيين الذين عملوا في "الهيئة العربية العليا" التي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني في مذكراته فيقول: "خرجت جماهير المسلمين بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في القدس يوم 23 آب 1929، بمظاهرة ضخمة انطلقت الى ساحة البراق والأحياء المجاورة له. وأذكر ان عدداً من الخطباء العرب، كان بينهم المرحوم الشيخ حسن ابو السعود، ألقوا كلمات في المتظاهرين حثوهم فيها على الهدوء وضبط النفس. وفيما كانت هذه الخطب تكاد تؤتى أكلها، وتحقق الغرض منها، بلغ العرب ان مظاهرة يهودية كبيرة مسلحة انطلقت نحو المدينة القديمة - القدس - في طريقها الى ساحة البراق. فهبّ شبابهم - اي العرب - لصد العدوان اليهودي. فوقع اصطدام عنيف بين العرب واليهود، وقف خلاله الانكليز الى جانبهم اليهود. ولكن العرب استطاعوا ان يتغلبوا على المعتدين وان يردوهم على اعقابهم خاسرين". وقد تبين ان ما حصل في القدس سنة 1929، كان مجرد رد فعل على مظاهرة مسلحة يهودية - انكليزية، خططت للاعتداء على الأقصى الشريف وعلى الأماكن المقدسة وعلى جموع المصلين المسلمين فيه، بقصد ارهابهم واجلائهم عن اماكن عبادتهم، ومن اجل تهويدها. وفي عام 1947، حملت الأممالمتحدة على إقرار تقسيم فلسطين وتدويل القدس، وتحت شعار "التدويل" استولت اسرائىل على قسم من المدينة، وتحت شعار "التوحيد"، قامت بضم ما تبقى من القدس في حزيران يونيو 1967، وقد شرعت لتنفيذ تهويد المدينة وسلب تراثها الديني والحضاري، وحمل سكانها العرب على الهجرة قسراً من داخلها. واذ يطرح التدويل من جديد كحل ممكن في مواجهة نزعة التوسع الاسرائىلي، غير ان هذا الحل يغفل او يتغافل عن ان القدس مدينة عربية، وان الاهتمام الديني بالمدينة لا يغفل عروبتها. ولا شك ان الحفاظ على المدينة المقدسة وآثارها الدينية يقتضي استمرار عروبتهما. والقدس العربية، ليست القدس القديمة التي يضمها السور، بل تشمل جميع المدينة القائمة اليوم بشطريها القديم والجديد، وما يجاورها من قرى عربية. سحور الأطفال المقدسيين ويذكر أحد الباحثين ان الاطفال المقدسيين، كانوا يتحمسون لصيام رمضان كثيراً، وكانت حماستهم للسحور شديدة للغاية، اذ كان الاستيقاظ ليلاً لتناول وجبة السحور، يشكل متعة ومغامرة واحساساً عظيماً بالتغيير واختراقاً لروتين الحياة اليومية، كذلك كان موعد الافطار يشكل برهة عظيمة من الانتظار، خصوصاً وهو يرتبط بطلقة المدفع الرمضاني في القدس. وكانت مواعيد الافطار والامساك بحسب المدفع. او بحسب ما يسمع من المؤذن في الجامع، او بحسب إنارة المئذنة بالأشرطة الكهربائية عندما يحين موعد الافطار. وكان مسحر القدس او "المسحراتي" المقدسي يجول بعد منتصف الليل في شوارع القدس العتيقة معلناً حلول موعد السحور، وكان لصوته الشجي هذا متعة إضافية بالنسبة للأطفال اذ كانوا يترقبون مروره من نوافذ منازلهم الصغيرة، يستأنسون في وحشة الليل، بصوته وصوت طبلته التي توقع نبض ليالي رمضان بايقاعها النغمي الجميل. المسحراتي الثائر وفي مطلع الثلاثينات، كان الشيخ ادهم المقدسي هو مسحراتي حارات القدس القديمة، وقد تعوَّد المقدسيون على مروره المنتظم في حارات القدس، ضارباً بطبلته ومردداً نشيد السحور/ القوما، ومردداً كلماته المعتادة التي أخذت نغماً مميزاً، يتناسب مع إيقاع الطبلة الذي كان يشق سكون الليل بعذوبة لا ينساها المقدسيون مهما بعدوا ومهما مرّت عليهم من محن وصروف. وكان الشيخ أدهم رحمه، يقوم الى جانب دوره "المسحراتي"، بدور ثوري وطني، كان يتجلى في مواجهة العصابات الصهيونية، إذ كان ينقل الرسائل بين القيادات الوطنية الفلسطينية أثناء ثورة 1936 - 1939، وكذلك بين القيادات في الداخل وبعض القيادات التي هربت من بطش الإنكليز، الى دمشق وبيروت وبغداد، مستفيداً من قدرته على تغيير صوته وسحنته وهيئته، إذ يلبس في كل حالٍ لبوسها. المائدة - ذاكرة رمضان وكان إعلان موعد الإفطار، كما إعلان موعد الإمساك عن الطعام في السحور يبلّغ للناس بواسطة مدفع قديم عرف بمدفع رمضان، وكان هذا المدفع منصوباً في مقبرة "باب الساهرة"، أحد أبواب القدس القديمة. وهو مدفع تركي قديم، يقوم على خدمته جندي تركي عجوز يسمى "طوبجي". وكان يحشوه بالخرق والبارود على مرأى من أطفال القدس، فيعجبون لذلك، وعندما يحين موعد الإفطار، يطلقه طلقة واحدة، ترج لها أنحاء القدس، فيعلو صوت الآذان: "الله اكبر الله أكبر"، فيقبل الصائمون على الطعام بعد الابتهال والدعاء. وقبيل موعد الإفطار بساعة على الأقل، كانت العائلات والأسر المقدسيّة، ترسل الأولاد إلى السوق القديمة لشراء بعض المأكولات الرمضانية، فهناك طبق الحمص بطحينة المزيّن، الذي يشترونه من المحمصاني، إذ يذهب الأطفال إليه ومعهم الليمون الحامض والثوم وأحياناً "الطحينة". ويعودون بأطباق الحمص، مزينة بالبهارات الحمراء وحبّات الحمص والفول والفلفل الأخضر. وهناك أيضاً أشْربة رمضان التي كان يعدّها أهل السوق في القدس مثل "الخروب" و"العرق سوس" أو "السوس" و"التمر هندي". وقد اشتهر بها في الثلاثينات، محل الحاج "رشيد قليبو" في مدخل باب العامود، أو بوّابة دمشق، كما تعرف في المراجع القديمة. ويذكر بعض الكتّاب، أن الحاج رشيد، كان يظهر براعة في عرض بضاعته، مما يجعل الناس تقبل على شرائها، فهو يصف زجاجات العرقسوس والخروب المعرقة من شدة برودتها فوق ألواح الثلج، أو في أوعية كبيرة مليئة بالثلج المكسر، فتبدو منعشة رطبة لذيذة، ولم يكن يعرضها إلاّ قبيل الإفطار بساعة فقط، حتى تظلّ طازجة. ويذكر المسنّون المقدسيون، أنه على رغم وجود العسكر البريطاني، وعلى رغم وجود عدد كبير من اليهود في الأسواق، فإنه من النادر أن نجد من يجرؤ على الجهر بإفطاره. حتى أن بعض العائلات من النصارى، والتي كانت تسكن بين المسلمين، إنما كانت تمتنع عن تناول الطعام أو الشراب في الأماكن العامة احتراماً منهم لمشاعر إخوتهم من المسلمين في شهر الصوم. سهرات القدس وفي الثلاثينات، عرفت مدينة القدس القديمة، عدداً من المقاهي الشعبية، أشهرها مقهى الباسطي، ومقهى زعترة، ومقهى منى، ومقهى صيام في مدخل باب العامود - بوابة دمشق. وقد عرفت هذه المقاهي شخصية "الحكواتي" وشخصية الشاعر الشعبي وفن الفرجة المعروف باسم "خيال الظل". وكان الحكواتي في مقاهي القدس يحكي على أسماع الحاضرين، قصة الزير سالم وتغريبة بني هلال، ومغامرات عنترة، وذلك بأسلوب شيّق للغاية، وبصورة تمثيليّة، تسهم في العرض المسرحي البسيط الذي كان يقدّمه من على كرسيّه الذي وضع فوق طاولة، ليشرف على جميع الحاضرين. فكان يلهب الجمهور حماسةً ويجعلهم يتعصبون لهذا الموقف أو ذاك. كذلك فإن بعض المقاهي كانت تقدم "فن الفرجة" المعروف باسم "خيال الظلّ". فكانت تسدل قطعة كبيرة من القماش الأبيض، وتسلط من خلفها قوة من النور لتلقي ظلال الدمى الورقية على الشاشة البسيطة. وكان يقوم بتحريك هذه الدمى شخصان، يحاولان تقليد صوتي كراكوز وعواظ اللذين يناقشان مشكلاتهما العائلية كظلم الزوجة أو غيرها. وتستمر السهرة الى ساعات متأخرة من الليل. وكانت مسرحية خيال الظل تعرض في مقهى علوان، وفي مقهى الباشورة وفي مقهى باب المغاربة. أسواق القدس وابتداءً من منتصف شهر شعبان، كانت دفقة قوية من النشاط والحيويّة تدبّ في شوارع القدس. وكان باعة الحلوى ينشطون، ويعرضون الكنافة والمشبّك والعجين والقشطة، إضافة الى خبز رمضان وأنواع التمور، وذلك على بسطات صغيرة في الشوارع الضيقة والمزدحمة بالمارة. وكان أبناء القرى المجاورة للقدس: بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وأبو ديس وشعفاط وبيت أكسا وغيرها، ينزلون الى أسواق المدينة لشراء حاجاتهم من مأكولات وأشربة وحلويات ومواد غذائية مختلفة كانت تعرف ب"قوتة رمضان". وهذا ما كان يجعل من القدس مركزاً تجارياً الى جانب مركزها الديني المعروف تاريخياً. وكان أبناء هذه القرى المحيطة بالقدس، يصحبون صغارهم معهم، لكي يشتروا لهم ما يحتاجون من ملابس ولوازم أخرى لعيد رمضان. وهذا ما كان يتيح للعائلات المقدسيّة أن تختلط ببعضها، فتكون فرصة لتعارف الصغار والكبار مع بعضهم، كذلك كانت نساء القدس يختلطن بالنساء القرويات بأثوابهن المزركشة الجميلة، وهن يتجولن في الأسواق لشراء الأقمشة والحرير لخياطة ثياب جديدة، أو لترتيب الفساتين والثياب القديمة، بحيث تصبح صالحة لهن. وكانت ساحة الحرم الشريف المترامية الأطراف والتي تغصّ عادة بالمصلين في أيام رمضان والأعياد والجمع، تصبح أيضاً مكاناً للقاء أهل القدس والوافدين إليها من القرى المجاورة. وقد ظلّت الساحة الخارجية الملاصقة لسور الحرم الشريف، قرب باب حطة، مكاناً للاحتفالات الشعبية. وفي الأيام الأخيرة من رمضان، نجد الحياة تدبّ في هذه الساحة، إذ يبدأ أصحاب المراجيح بنصب مراجيحهم والتهيئة لألعاب الأولاد الاحتفالية بالعيد، والتي تدوم لأكثر من عشرة أيام. وكان باعة الحلوى والمخلل والسندويشات وأصحاب الدراجات، يستفيدون جميعاً من هذا التجمع الاحتفالي الشعبي للأطفال في القدس. أما أسواق الخياطين والإسكافيين والحلاقين، فكانت تشهد إقبالاً عظيماً وتظل ساهرة طيلة الليل في الأيام الثلاثة الأخيرة من رمضان، وذلك استعداداً لقدوم عيدالفطر السعيد. المسجد الأقصى كان المسجد الأقصى يغص بالوافدين إليه في رمضان طلباً للتعبد والصلاة على أرضه أو تحت قبة الصخرة. فتنتشر هناك الحلقات الدينيّة التي يقيمها عدد من أصحاب المقامات الدينية وأصحاب الطرق الصوفيّة ورجال الدين، فتكون حلقات الوعظ والمناقشة في أمور الدين والدنيا. ونظراً لظهور نشاطات الحركة الصهيونية في الثلاثينات، وازدياد أعمال المتطرفين اليهود، وعدم استقرار الأوضاع السياسية بالمطلق، فقد كانت هذه الحلقات الرمضانية ذات الوجه الديني، متنفساً لتزويد المواطنين بشحنات وطنيّة، ضدّ الانتداب البريطاني، وضدّ الحركة الصهيونية التي أتت معه - ولعله من إحدى الحلقات المسجدية في الأقصى الشريف، كان قد خرج الشيخ الشهير عزالدين القسّام، وغيره من رجال الدين الثوريين في فلسطين، في تلك الفترة من الثلاثينات. كذلك عرفت الحلقات المسجدية في الأقصى دروس الإقراء والتجويد. وكانت هذه الحلقات تعقد في رمضان بين صلاتي الظهر والعصر، وكان هناك مقرؤون مقدسيون ومقرؤون مصريون. إذ كانت مصر ترسل ثلاثة مقرئين في كل موسم رمضاني، وذلك من أجل ترتيل آيات الله البينات في الأقصى الشريف. وذكر المؤرخون بعضاً منهم مثل: المقرئ الشيخ صديق المنشاوي، وأيضاً الشيخ مصطفى اسماعيل والشيخ محمد عبدالباسط عبدالصمد. أما صلاة التراويح، فكانت تستمر من بعد صلاة العشاء في الأقصى الشريف، حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان المؤمنون يواصلون التعبد بخشوع وابتهال الى صلاة الفجر. ويذكر الباحثون أنه كان يأتي الى القدس الشريف في العشر الأواخر من رمضان شخصيات إسلامية من دول بعيدة وذلك من أجل قضائها بجوار الأقصى المبارك. كذلك كان يفعل عدد كبير من قناصل الدول الإسلامية في فلسطين المجاهدة، ونخصّ بالذكر منهم الصادق المجدّدي الأفغاني، والذي كان قنصلاً لأفغانستان في فلسطين، فقد كان يواظب على الاعتكاف في الأقصى الشريف في العشرة الأواخر من أيام رمضان المبارك. تراجيديا الاحتلال كل شيء تغير في القدس بعد عام الاحتلال سنة 1948، ذلك أن الكيان الصهيوني الاستعماري الذي أخذ شيئاً فشيئاً يستبدّ بالفلسطينيين وعواطفهم ومشاعرهم الدينيّة، طغى أيضاً على تقاليدهم وعاداتهم الشعبية والعفوية، فعمل على خنقها أو كاد، فجعلها وهي ترزح تحت نير الاحتلال، تئن من وطأة الظلم وعسف الحكم وسلطة القهر وسلطانه. وهكذا كانت ملامح رمضان القديمة والتي مرّت معنا، تأخذ في الاختفاء يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، في ظل تزايد الأعمال العدوانية على أهل فلسطين عموماً وعلى أهل القدس خصوصاً. فالبهجة التي كان يبعثها قدوم رمضان، بدأت تخفّ تدريجياً. فقد أثقلت الناس هموم القهر والشعور بالهزيمة والإحباط. وتفرّق شمل العائلات الفلسطينية داخل القدس وخارجها. وسافر الأحبة صغاراً وكباراً الى شتى أنحاء الأرض، ولم يعد هناك من مائدة رمضانية يجتمعون حولها كما كان يحدث في القدس قبل الاحتلال. وبدأت عائلات كثيرة تعاني الفقر نتيجة فقدان موارد رزقها، أو بسبب سفر ربّ العائلة سعياً وراء الرزق في بلدان اخرى، ولم يعد بإمكانه أن يجتمع مع عائلته بعد الاحتلال. أما ساحات القدس وحاراتها في رمضان، فقد أخلاها الأطفال الصغار بسبب خوفهم من موجات العنصرية والأعمال العدوانية وحال القلق النفسي واليأس الطبيعي، مما شكّل عندهم موجة انكماش عن الماضي والاختباء بعيون فارغة إلاّ من الأمل بتغير الحال وعودة الناس وزوال الاحتلال، وتعتبر ثورة الانتفاضة عند أطفال فلسطين اليوم خير دليل على كبتهم التاريخي. كذلك اختفى "كراكوز وعواظ" وأحلّت المدنية الحديثة محله الراديو ثم التلفزيون. وندرت الندوات الدينية والحلقات المسجدية، وفقد "المسحراتي" الكثير من رونقه والكثير من حماسته، والشيء العظيم من حرية حركته، وبدأت حلقات الذكر التي كانت تقام في الأقصى الشريف، تقلص عددها، حتى كادت تتلاشى. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.