} هل كانت انتفاضة الأقصى، التي امتدت حلقاتها لتشمل معظم أرجاء العالم الإسلامي، "غضبة" جماهيرية وحسب إزاء الاستفزاز الذي أقدم عليه شارون بدخوله إلى ساحة المسجد الأقصى، في حراسة ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي. أم كانت الانتفاضة تعبيراً عن "الانفجار" الذي لا بد أن يلي الضغط على المشاعر والمعتقدات الدينية؟ حاول كثيرون تصوير هذه الانتفاضة على أنها رد فعل تجاه الاستهانة بالمقدسات الاسلامية، لأن المسجد الأقصى هو أحد أهم الرموز الدينية. هذا صحيح. ولكن يبقى من الصحيح، أيضاً، أن هذا الطرح على إطلاقه، يعني تحويل الإسلام - أعظم ثورة حضارية في التاريخ - إلى مجموعة من الرموز المرتبطة بأماكن محددة" ويعني، في الوقت نفسه، إهمال ذلك المضمون الضخم من الدلالات الحضارية، الذي عبر عنه "الانفجار" في ما سُمي "انتفاضة الأقصى". ولأن هذه الأخيرة، ألقت ب "المضمون الحضاري" الإسلامي، إلى دائرة الضوء. ولأنها أبرزت محورية "الدين" في الوجود الإنساني، للناس عموماً، وللعرب والمسلمين خصوصاً. لذا، يأتي هذا الحديث حول "الإسلام ومفهوم الدين"، كمحاولة أولى للبحث في هذا المفهوم، كما تشير إليه، وتدل عليه، وتؤكده، الآيات التي وردت فيها لفظة "دين"، ومشتقاتها، في كتاب الله العزيز. ولعل المدخل إلى هذه المحاولة، هو الاقتراب من لفظة "دين"، ودلالاتها، في اللسان العربي. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن كلمة "الدين"، جاءت من الأصل "دين"، وهو جنس من الانقياد. ف"الدين"، الحال، والطاعة، ومنها جاءت المدنية والمدينة. وسميت المدينة لأنها تقام فيها طاعة ذوي الأمر. ومن هذا الباب جاء "الدَّين"، لأن فيه طاعة المدين للدائن مقابل أخذ وعطاء. ووردت لفظة "دين"، ومشتقاتها، في كتاب الله العزيز، مئة مرة ومرة. فإذا لاحظنا أنه من بين هذه المرات، وردت كلمة "دَّين" بالفتح، في "ستة" مواضع فقط" بينما وردت كلمة "دِّين" بالكسر، في 95 موضعاً، دلَّنا هذا على المدى الذي تبلغه هذه الأخيرة، من حيث الدوران في اللغة عموماً، وفي كتاب الله خصوصاً. في ما يتعلق بكلمة "ديَّن" بالفتح، أي: الاقتراض والاستقراض، فقد وردت مرتين في سورة البقرة، وأربع مرات في آيتين متتاليتين من سورة النساء النساء: 11 - 12. أما في ما يختص بكلمة "دِّين" بالكسر، وهي مجال اهتمامنا هنا، فنظراً لهذا العدد الكبير من المواضع التي وردت فيها الكلمة، لذلك يمكننا الاقتراب من مفهومها، مفهوم "الدين"، كما تشير إليه، وتدل عليه، وتؤكده، مواضع ورود الكلمة، في السياق العام للآيات التي وردت فيها. وذلك عبر مجموعة من الخطوات المتتالية... ولعل أولى هذه الخطوات، وأهمها، هي تلك الخاصة باصطلاح "دين الحق"، وهو الاصطلاح الذي ورد في خمس من آيات الذكر الحكيم. يقول سبحانه وتعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" التوبة: 29 ويقول سبحانه: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين" النور: 25. هنا، يمكن ملاحظة الفصل الواضح بين "دين الحق" عن ما قبلها في الآية الاولى، وعن ما بعدها في الآية الثانية، من طريق "العطف"، وربما يقول قائل: إن حرف العطف "الواو" يشير إلى رابط بين المعطوف والمعطوف عليه. هذا صحيح. ولكن من الصحيح، ايضاً، أنه في اللسان العربي لا تعطف إلا المتغايرات، أو الخاص على العام، وكذلك لا تعطف إلا الصفات بعضها على بعض، أو الموصوفات بعضها على بعض، ومن ثم، ففي الآية الاولى التوبة:29 جاءت "لا يدينون دين الحق"، كشرط، ضمن شروط ثلاثة توجب تنفيذ أمر القتال: "قاتلوا" والشرطان الآخران: "لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، و"لا يحرمون ما حرم الله ورسوله"، اما في الآية الثانية النور:25 فجاء العطف في: "يوفيهم... ويعلمون..." لتأكيد الفصل بين "دينهم الحق"، وما بعدها. وهو فصل يشير الى أن "الحق" هو سمة "الدين" دينهم الحق، بدليل، التأكيد الذي يلي حرف العطف "ويعلمون أن الله هو الحق المبين". فإذا ما أخذنا في الاعتبار، السياق العام للآيات الثلاث، في قوله تعالى: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين" النور: 23،24،25، ولاحظنا، في الوقت نفسه، الربط المنطقي، "يوم تشهد عليهم... يومئذ يوفيهم الله... ويعلمون..." يتبدى بوضوح أن من بين الدلالات التي يشير اليها اصطلاح "دين الحق"، أنه دين "موضوعي" خارج الوعي الانساني، ولا يتوقف على درجة الايمان لاحظ أن "هم" في "دينهم الحق" تعود الى "الذين يرمون المحصنات" ولاحظ، أيضاً، أنه تعالى قال: "دينهم"، ولم يقل "جزاءهم". يقول سبحانه وتعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" التوبة:33، الصف:9، ويقول سبحانه: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً" الفتح: 28. هنا، يمكن ملاحظة ان عطف "دين الحق" على "الهدى"، وإن كان يشير الى وجود تجانس ما بينهما، حتى يتم عطفهما، فوجه التجانس بينهما أنهما مرسلان من الله سبحانه وتعالى، إلا أن ذلك العطف، في الوقت نفسه، يعني أن "الهدى" شيء "ودين الحق" شيء آخر، وأن الله تعالى وضع "الهدى" قبل "دين الحق" لتمييزه عنه، وعليه. فمن جهة، يتبدى بوضوح الفصل والتمييز، بين "الهدى" و"دين الحق"، إذا لاحظنا بعضاً من الآيات التي وردت فيها كلمة "الهدى" وقد قلنا بعضاً من الآيات، لأن "الهدى" كمفهوم وكمعنى وكدلالة، له حديث خاص به: يقول سبحانه وتعالى: "قل إن هدى الله هو الهدى وامرنا لنسلم لرب العالمين"الانعام: 71 ويقول سبحانه: "قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" البقرة:120 ويقول تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اؤلئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" البقرة: 159، ويقول: "إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين". القصص: 56. وهكذا فإن "الهدى" هدى الله، وأن "الهدى" مرتبط ومتجانس مع أمر "التسليم" لرب العالمين، وأن "الهدى" تم بيانه في الكتاب لاحظ ان حرف "الهاء" في قوله: "من بعد ما بيناه للناس في الكتاب"، تعود الى "الهدى"، ولعل ذلك يكون مناط تمييزه، "دين الحق". لذلك، قال الله تعالى: "آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" البقرة : 1، 2 وقال سبحانه: "ويرى الذين أوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد" سبأ:6. من جهة أخرى، يتبدى بوضوح أن "دين الحق" هو مناط الاظهار على "الدين كله" ففي قوله سبحانه وتعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" التوبة: 33، الصف: 9، الفتح: 28 فإن حرف "الهاء" في: "ليظهره" تعود الى "دين الحق" وإلا كانت الصيغة قد جاءت بصورة المثنى، أي: "ليظهرهما"، وكما جاء في لسان العرب: "الظاهر: خلاف الباطن، ظهر يظهر ظهوراً، فهو ظاهر وظهير. والظاهر: من اسماء الله عز وجل، وفي التنزيل العزيز: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن"، وظهر به وعليه يظهر: قوي. وفي التنزيل العزيز: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء"، أي: لم يبلغوا ان يطيقوا إتيان النساء"، وهكذا، فإن"دين الحق" من حيث كونه مناطاً بالاظهار على "الدين كله"، له من السمات ما يجعله "يظهر" على "الدين كله"، ويعلو فوقه. لعل من أهم هذه السمات، بل أهمها جميعاً، ان"دين الحق" هو اقوى اجزاء "الدين كله" اظهرها وأعلاها لاحظ أن الدين كله هو اسم جنس، أي يقع على القليل والكثير، وأنه جاء معرفاً، فعندما يأتي "الدين" معرفاً فإنه يأخذ المعنى نفسه، أما اذا جاء منكراً، "دين"، فيمكن أن يعني جزءاً منه، ولذلك جاءت "كله" في: "الدين كله" للإشارة الى ذلك. فإذا ما أخذنا في الاعتبار السياق العام للآية التي تكررت بنصها في سورتي "التوبة" و"الصف"، في قوله سبحانه: "يريدون ان يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" التوبة: 32، 33 وفي قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" الصف: 8، 9، يمكن ملاحظة ان ثمة علاقة ارتباطية، مؤكدة بالتكرار، بين "اتمام الله لنوره" و"ولو كره الكافرون"، وبين: "إظهاره لدين الحق" و"ولو كره المشركون"، وأن واحدة من مكونات هذه العلاقة هي "الرسالة" "هو الذي أرسل رسوله.." لذلك، قال سبحانه وتعالى: "إنا ارسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسأل عن اصحاب الجحيم" البقرة: 119، وقال سبحانه: "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً" الاسراء: 105. ولأن الله قد أرسل رسوله: "بالحق مبشراً ونذيراً"، ولأن ما أنزله الله على رسوله: "بالحق نزل" فإن "الذين أوتوا العلم"، هم من يرون ما أنزل الله "أنه الحق"، وأنه "يهدي الى صراط العزيز الحميد"، ذلك ما يمكن فهمه من قوله سبحانه: "ويرى الذين أوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد" سبأ: 6، ومن قوله تعالى: "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به.." الحج:54 وهنا، يتبدى بوضوح أن من بين الدلالات التي يشير إليها اصطلاح "دين الحق"، أنه: دين "ظاهر" على الدين كله، كأقوى اجزائه وأعلاها. وأنه من حيث كونه كذلك، أي: من حيث كونه مناط "الإظهار" لا بد أن يُعرف من طريق الاستدلال العقلي "العلم" لاحظ ما يشير اليه، ويؤكده استعمال تعبير: "الذين أوتوا العلم"، في قوله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين. والآن، هل يمكننا القول إننا قد قاربنا المقصود من اصطلاح "دين الحق" في كتاب الله العزيز؟ * كاتب مصري.