تطرح صورة "المعهد القومي للبحوث الفلكية" نموذجاً للجهد العلمي الذي ترعاه دولة عالمثالثية، فيزدهر مع قوة سلطتها ويعاني تناقضاتها ووهنها ويبدو المعهد... كأنه في مرحلة انتقالية! لمع اسم المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيائية وحظي باهتمام غالبية المصريين بعد 89 عاماً من انشائه. فهو شهد النور في العام 1903، لكنه لم يصل الى القاعدة العريضة من المواطنين الا مع زلزال تشرين الأول أكتوبر 1992، الذي زلزل كيان مصر البنياني والاجتماعي والنفسي. وعلى رغم ان "الزلازل" جزء من اختصاصات المعهد، الا ان كثيرين يلقبونه ب"معهد الزلازل"، والأرجح ان نشاطات المعهد الأخرى واهتماماته غير معروفة لدى الغالبية. التقت "الحياة" رئيس المعهد الدكتور علي عبدالعظيم تعيلب وبادرته بسؤال: "لماذا لا يظهر اسم المعهد في الاعلام المصري إلا مع الظواهر الطبيعية المقلقة: زلازل، هزات أرضية، كسوف؟"، فأجاب: "المهم ان يعلم المصريون عن المعاهد البحثية المختلفة ونوعية عملها. لكن الاعلام، ويا للأسف، لا يهتم بالمعهد الا في حال حدوث ظاهرة فلكية أو جيوفيزيائية في حاجة الى تفسير". وقبل أكثر من عام، سلطت وسائل الاعلام الضوء على المعهد، حين أعلنت ظاهرة الكسوف الجزئي للشمس التي شهدتها مصر. وفي تلك المناسبة اتهم تعيلب الاعلام بالإثارة وتخويف الجماهير: "قيل وقتها ان ظاهرة الكسوف ستتسبب بأضرار على الجلد والعيون، فإذا كانت كمية الشمس المستقطبة 80 في المئة فقط، أين الضرر؟ يحدث إذا كانت النسبة مئة في المئة. حاولنا أن ننقل الحقائق الى الجمهور، لكننا فوجئنا بأن الجميع يتحدث عن الظاهرة، مثل أطباء العيون والأمراض الجلدية، وغيرهما". وأضاف "ليتنا نترك الظواهر الطبيعية لأهل الاختصاص". ويشير تعيلب الى واقعة مشابهة حين نشرت صحف عدة عن التنبوء بحدوث زلزال يدمر مصر، الثامنة مساء 12 تشرين الأول أكتوبر الماضي، ثم أخروه الى الحادية عشرة ليلاً. وخرج المصريون الى الشوارع. وتضاربت الآراء والمواقف. "تفاقمت الاشاعة في شكل دعانا الى بث بيان في الاذاعة والتلفزيون يؤكد استحالة التنبوء بحدوث زلازل، فهدأه الرأي العام". وتعود "الحياة" الى تاريخ المعهد الذي يعد أقدم المعاهد والمراكز البحثية وهو أكبر تجمع علمي مصري مختص في أبحاث الفلك والشمس وتتبع الأقمار الاصطناعية والزلازل وتحركات القشرة الأرضية ورصد المجالات المغناطيسية والكهربائية للأرض. ويقول تعيلب ان نشاط المعهد، على رغم تأسيسه رسمياً في العام 1903، يعود الى العام 1898، وقد اختلفت تسميته وتبعيته على مر تلك السنوات. عرف في البداية باسم "الرصد خانة" ثم "مرصد حلوان". وكان هو وهيئة المساحة العامة وهيئة المساحة الجيولوجية تحت مسمى "مصلحة الطبيعيان" التي كانت تتبع وزارة الأشغال العمومية، ثم آلت الى جامعة القاهرة حتى العام 1960، ثم أكاديمية البحث العلمي ثم تغيّر اسمه الى "معهد الأرصاد الفلكية والجيوفيزيائية"، وتبع وزارة البحث العلمي. وأخيراً، أصبح "المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيائية"، ويتبع وزارة الدولة لشؤون البحث العلمي. ترأس المعهد في بداية انشائه، وكانت مصر تحت الاستعمار البريطاني، خمسة من الاختصاصيين البريطانيين. وفي العام 1934. آلت رئاسته الى الدكتور محمد رضا بدور فكان أول مصري يقوده. ووقع الاختيار على مصر بحكم صفاء الجو فيها نحو 300 يوم من أيام العام. ويوضح تعيلب ان الرصد الفلكي في مصر بدأ أثناء الحملة الفرنسية، حين أنشأ علماؤها مرصداً فلكياً في حي بولاق في القاهرة، ومنه الى حي العباسية تحت ادارة محمود باشا الفلكي إبان حكم محمد علي باشا. إلا ان دخول القطار حي العباسية اثر في العمل في داخل المعهد، فانتقل الى ربوة حلوان، ومرة أخرى، طوقته المصانع التي انتشرت بسرعة البرق في حلوان، فحاصر التلوث المعهد، ما اضطره الى "الهرب" الى منطقة القطامية المتاخمة للقاهرة حيث أنشئ المنظار الفلكي الأكبر في المنطقة العربية، وافتتح في العام 1964. تقسم تخصصات المعهد أربعة أقسام علمية اضافة الى معامل تشمل دراسة تحركات القشرة الأرضية وانشاء الشبكة القومية للزلازل وتطويرها وصيانتها، وهو مشروع قومي ضخم كلف المعهد اياه في العام 1993. ويوضح تعيلب ان العمل أوشك الانتهاء في تلك الشبكة التي تتكون من مركز رئيسي في حلوان، اضافة الى خمسة مراكز فرعية في برج العرب والغردقة ومرسى علم والخارجة وأسوان. وتتبع تلك المراكز 60 محطة زلازل حقلية موزعة في أنحاء مصر، فيها أجهزة عدة لقياس موجات الزلازل وله دور في خدمة المجتمع، يوضحه تعيلب: "في مجال الفلك تحسب ظهور الأهِلّة، ومواقيت الصلاة، والشفق وهي مجالات نتعاون فيها مع دار الافتاء، ونقيس نسب التلوث الجوي، والطاقة الشمسية الساقطة على الأرض، والاستخدام الأمثل لتوليد الطاقة منها. وهناك خدمة أخرى يقدمها المعهد الى النيابات، هي حساب الوقت الأمثل لارتكاب الجرائم، ودرجة الضوء ونوعه حين ارتكاب الجريمة، ووضع الجاني والمجنى عليه. ويدرس المعهد المواقع غلمثلى لإقامة المنشآت ومقاومتها للزلازل، وكذلك المواقع لمحطات الكهرباء وأنابيب النفط ومناطق الآثار والمياه الجوفية وتأثيرها فيها، والممرات المغناطيسية للمطارات". وعلى رغم تبعية المعهد للبحث العلمي، تأتي موازنته مباشرة من وزارة المال، بعد مناقشتها في كل من الوزارة ومجلس الشعب. وعلى رغم تأكيدات تعيلب أن موازنة البحث العلمي عموماً في ازدياد، وان المعهد لا يواجه مشكلات مالية، الا ان الأزمات التي تواجهه مادية في معظمها. ويقول تعيلب ان الدولة تمول مشاريع قومية مثل الشبكة القومية للزلازل، وان للمعهد صندوقاً لدعم الأبحاث مادياً يتيح فرص اقامة المشاريع وتقديم الخدمات الاستشارية الى القطاعين العام والخاص في مقابل مادي. وتمس مشكلات المعهد، في رأي رئيسه، الباحثين الشباب. فالمناخ المطلوب توافره ليجري الباحث بحثه، كما ينبغي، يكون أحياناً مفقوداً. "هناك من لا مسكن له، ورواتب البحث العلمي متواضعة، لا تتيح للباحث الشاب أن يتزوج، ويكوّن أسرة، ويعمل في جو نفسي مستقر". ويعمل في المعهد خريجو اختصاصات العلوم وأقسام الفلك والجيولوجيا والرياضة والطبيعة والجيوديزيا المساحة والميكانيك والالكترونيات والاتصالات. وتجدر الاشارة الى ان طلب سوق العمل على خريجي التخصصين الأخيرين كبير جداً، خصوصاً في الشركات الاستثمارية الكبرى التي تدفع لهم رواتب مجزية. وعن سبيل التعاون والتبادل مع الجهات العلمية. يشير تعيلب الى ان المعهد بدأ بتوجيه اهتمامه الى الدول العربية ليتعاون معها وينقل خبراته اليها. ويرتبط المعهد كذلك بعلاقات وثيقة مع جهات علمية عدة في اليابان وأميركا وعدد من الدول الأوروبية. وزار مصر قبل أيام وفد أميركي من اختصاصيي الزلازل وتفقد محطة الزلازل في أسوان. وفي حال وقوع زلازل في دول مجاورة، يبادر المعهد بإرسال بيانات شاملة عن الزلزال وموقعه ودرجته، اضافة الى ايفاد اختصاصيين مصريين، كما حدث لدى وقوع زلزال نويبع في العام 1995، وقد ضرب كلاً من الأردن والسعودية، وكذلك زلزال تركيا الأخير 1999 إذ توجه فريق مصري مجهز بالآلات والمعدات الى المنطقة، وأعد تقريراً سُلّم الى مرصد كونكلي في اسطنبول. سيرة وجيزة يعتبر عبدالعظيم تعيلب من أوائل الحاصلين على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم في مجال طبيعة الأرض في مصر، عام 1977، من معهد طبيعة الأرض في مدينة بوتسدام الألمانية. - حصل على وسام الامتياز من الطبقة الأولى عام 1995، وجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الجيولوجية عام 1988 عن دوره في انشاء تخصص دراسات تحركات القشرة الأرضية في مصر. - شغل مناصب عدة في المعهد. ويتولى منصب رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية منذ كانون الأول ديسمبر 1999، ويترأس الشبكة القومية للزلازل والتقليل من المخاطر. وهو أيضاً مدير مركز الزلازل الاقليمي في اسوان. - مثّل مصر لدى الرابطة الدولية للجيوديسيا، احدى روابط الاتحاد الدولي للطبيعة الأرضية ومقاييس الأرض. - عضو اللجنة الدولية لتشوهات القشرة الأرضية.