كتب الاستاذ وحيد عبدالمجيد، قبل ايام، مقالاً عنوانه "تجربة تشكِّك في سلامة مقولات نسوية" "الحياة" 19/10/2000، ينقد فيه السيرة السياسية لباندرانايكا، الزعيمة السيري لانكية التي تولت رئاسة حكومة بلادها، وكانت أول رئيسة وزراء "في العالم". وهو يلاحظ في هذا المقال ما يسميه "مفارقات" حكمها الطويل والمنقطع، فيقول إنها فشلت في ثلاثة مجالات: "اشتراكيتها" المتشدّدة التي "خربت" اقتصاد سيري لانكا، و"عنصريتها" الوحشية ضد أقلية التاميل، وإهمالها شؤون نساء بلادها إهمالاً تاماً. وهذا مع إشارته، من جهة أخرى، إلى أنها نجحت في سياستها الخارجية بأنها عرفت كيف تحافظ على علاقاتها الودّية مع جيرانها الأقوياء. ويهدف الاستاذ عبدالمجيد، بسرده النقدي لهذه السيرة السياسية، إلى مقارعة ومناقضة ما يسمّيه إحدى "الافتراضات النسوية"، والقائلة، بحسب ما كتب، "إن مشاركة المرأة في الحياة السياسية تمثّل بالضرورة نقلة إلى الأمام في مسيرة البشرية وتُعتبر حتماً خطوة نحو مزيد من تقدّم الإنسانية". فيقع منذ البدء في خطأ شائع يرتكبه عادة معظم الذين لا يبالون بتعريف مفرداتهم... حتى بينهم وبين أنفسهم. وقوام هذا الخطأ هو عدم التمييز بين "المشاركة السياسية" و"بلوغ مراكز القرار". فالأخير، أي "بلوغ مراكز القرار"، معروف وبائن، لا يحتاج إلى من يبحث عن مكانه، لكثرة ما له من مكَانة: إذ أنه يعني الوصول إلى قمة إحدى الهيئات الرسمية أو غير الرسمية، أو التحليق قريباً من هوامشها العديدة. وقد باتَ متعارفاً على أن هذه الهيئات هي رئاسة الدولة ومجلس الوزراء والوزارة والنيابة وسلك القضاة والديبلوماسيين، فضلاً عن مؤسسات كبرى اقتصادية، ثقافية... أو أحزاب، معارضة أو موالية... بحسب درجة طموح الراغب، أو الراغبة، في الپ"بلوغ" الى... أما المشاركة السياسية بعينها فهي تتضمن، فوق ما ذُكر من أُطر وهيئات، أشكالاً وتعبيرات جماعية تضجّ المجتمعات بها بالقدر الذي تتمتّع به من حيوية. وهي قد تبدأ بمجرد الاهتمام بالشأن السياسي، الواسع أُفقاً، عبر المتابعة والسؤال والنقاش، ولا تنتهي عند أنماط التنظيم المختلفة، والتي ليست الحزبية غير واحد منها. أما في المجتمعات الأقل حيوية، فإن هذه الأشكال غائبة عن ذهن من يُفترض بهم أن يتطرقوا إليها... مساهمين بذلك في طمسها من مهدها. فالسياسة عندهم هي تلك المشاهد العائمة جداً على السطح: إنها الزعامة. لهذا السبب بالضبط يخلط الاستاذ عبدالمجيد وغيره الكثيرون بين "المشاركة السياسية" و"بلوغ مراكز القرار". فمع أن وقفة لغوية سريعة لا تحبذ المزج بين "المشاركة" التي تحتاج إلى شخصين على الأقل، و"البلوغ" الذي لا يحتمل أكثر من شخص... غير أنهم لا يستطيعون التفكير بال"سياسة" إلا بصفتها "صنع القرار المركزي"، وهم بذلك معذورون. فهم يستمدون دلالاتهم من الواقع" والواقع المُتاح أمام ناظريهم لا يفصح إلا عن "سياسة" بمعناها "سلطة". والاستاذ عبدالمجيد بهذا الخلط غير الصحيح، يحق له أن يلاحظ ما يلاحظه: من أن النساء عندما يبلغنَ السلطة، يصرن مثل الرجال قسوةً وإهمالاً لقضايا النساء... إن لم يكن أكثر. فهن أقلية جديدة وصلت إلى المركز بالأنظمة والأعراف المتبعة، ويتطلب بقاؤهن احترام هذه الأنظمة والأعراف، بل المبالغة في هذا الاحترام، وإلا قضين على حاضرهن ومستقبلهن السياسيين. وهذا السلوك الأقليّ يشبه سلوك كل الأقليات التي لم تعتد ممارسة السياسة إلا في الهوامش. لذلك، فلو كان تصحيح هذا السلوك مرغوباً، صار المطلوب من السياسة أن تزج بالمزيد من هذه "الأقلية" النسائية في أحضانها لتصبح "طبيعة"، لا "أقلية" ولا "أكثرية"، لا أن تطردهن كما يوّد الاستاذ عبدالمجيد. والزجّ هذا، للتذكير، لا يعني بالضرورة الزج في القيادة أو رأس الهرم. ومع أنني من جهتي لستُ شديدة الحماس الآن لشعار "بلوغ النساء مراكز القرار"، فإنني أتابع نيابة عن الشيطان فأسجّل ما يلي: إن الأمثلة السلبية التي ناقشها الاستاذ عبدالمجيد، سيما المضمر منها، لا تحتاج إلى غير التأنيث: ولتوضيح هذه العبارة، أدعوه إلى تخيّل وجود طبيعي للنساء، أي مناصفة تزيد أو تنقص قليلاً، في مختلف السلالم المفضية إلى السلطة: كيف سيكون سلوك صاحبة الحظ أو الرغبة في الوصول إلى رأسها، أو إلى ما يدور حولها؟ هذا هو الاختبار الحقيقي للافتراض النسوي المزعوم. لكنه يفترض قلب المعادلة، والاهتمام بفكرة أن السياسة شأن الجميع، وليس فقط شأن بضع رابحات من الوارثات أو القاهرات للحواجز أو للأقدار. ساعتئذ، ومع الكثير من الوقت والتأمل بالأشكال الجديدة، وربما اختراعها، يحق للاستاذ عبدالمجيد، أو لمن يقاسمونه الرأي، الجزم بأن "لا فرق جوهرياً بين الرجل والمرأة في عالم السياسة"، لو أتت النتائج على المقدار نفسه من الفشل والبطش... أما النقطة الثانية الواردة في المقال، والمحتاجة إلى توقف فهي أنه بعدما لاحظ تعرض باندرانايكا لاضطهاد أُسري، نتيجة إلزامها البيتَ وشؤونه من قِبل زوجها، تابَعَ بأنه كان يجب أن يثنيها ذلك عن اضطهاد الاقلية التاميلية في سيري لانكا. وأما وأنه لم يحصل على ذلك، وخاضت باندرانايكا حرباً عنصرية ضدها، فهذا ما جعل الاستاذ عبدالمجيد يمتحن إحدى الصيغ البسيطة الرائجة وسط المظلومين، والقائلة ان الذي تعرض للتمييز لن يمارسه لو بلغ السلطة، طبعاً بشرط أن يكون من "البشر الأسوياء". وهو يتابع، واضعاً هذه الصيغة تحت مجهر المنطق الخالص، قائلاً "فإما أن التمييز ضد المرأة لا يرتب بالضرورة نفوراً من أي تمييز، وإما أنه لا يوجد تمييز ضدها في الأصل". والحال أن هذه الصيغة التفضيلية، "إما ... أو"، كانت أفضت بالكاتب لو احترم تسلسلها المنطقي، إلى ما استوقفه. إذ كان يفترض به القول "فإما ان التمييز ضد المرأة لا يرتب بالضرورة نفوراً من أي تمييز، وإما أنه يرتب". لكنه فضل القفز العالي فوق التسلسل، بغية الاسراع إلى الاستنتاج بأن باندرانايكا التي مارست تمييزاً عنصرياً، لم تعان من التمييز، وبالتالي فلا تمييز ضد النساء في الواقع وإلا لكانت باندرانايكا حاكمة مثالية، لا تشوبها أية شائبة. ومن هذه الفجوة المتعثرة والمعتمة، يخلص الاستاذ عبدالمجيد الى أن النساء، بما انهن يَظلمن عندما يحكمن، فهن غير مظلومات. بل ينتهي به الأمر إلى الدعوة إلى "نقد أهم الأسس التي يقوم البناء النظري لمقولة تمكين المرأة" عليها، بعدما عرض "الصورة القاتمة" التي وردت في التقرير الأخير للأمم المتحدة عن أوضاع المرأة في العالم، مثل التعرض للعنف وسوء المعاملة وزيادة معدلات الوفيات، خاصة لدى الأمهات وضعف المستوى التعليمي والثقافي، رابطاً بينهما ومستخلصا إحدى الحجج الرئيسية لمقاله، وهي: "فشل النساء الحاكمات في مساعدة النساء المحكومات"!