من المفيد أن نبدأ بإلقاء نظرة خاطفة على ملامح صورة العرب والمسلمين في أذهان الأوروبيين المسيحيين قبل بدء الحروب الصليبية وأثناءها، وذلك بسبب تشابه الكثير من هذه الملامح مع ملامح الصورة في عصرنا هذا. لقد فرضت صورة النبي والإسلام نفسها على الغرب أول ما فرضت في ظل حروب دينية طاحنة: حروب الفتوحات الإسلامية، فحروب الثغور، فالحروب الصليبية، وذلك في عصر كانت تسود أوروبا فيه الجهالة والخرافات. وكان رد الفعل الأول إزاء هذا الخطر السياسي والديني، وفي سبيل تعزيز ثقة المسيحيين بأنفسهم، شن حملة عارمة الغضب، مفعمة بالأكاذيب والتشويه المتعمد، على النبي والدين الجديد، وهي حملة لعب فيها رجال الكنيسة دوراً رئيسياً. فالإسلام عندهم مجرد صوة مشوّهة من المسيحية، بل هو ديانة وثنية قوامها العنف ودعامتها السيف، ووسيلته إلى الانتشار هي إتاحة الفرصة أمام أتباعه لإشباع شهواتهم الجنسية في هذه الدنيا وفي الآخرة. وما محمد إلا نبي كاذب شهواني، ما كان غرضه من خروجه بهذا الدين إلا تحقيق مطامحه الشخصية. وانعكس هذا الموقف في "الكوميديا الإلهية" لدانتي الذي أحلّ نبي الإسلام أدنى درك في الجحيم، في فقرة تجاهلها مترجم الكوميديا الى العربية حرصاً عل مشاعر قرائه! وكان من السهل على الأوروبيين قبول هذه الصورة ما دام الاتصال بينهم وبين عالم الإسلام مقصوراً على الحرب. أما وقد بدأت الحروب الصليبية، وأقام الأوروبيون الممالك في الشام، ودخلوا في علاقات تجارية وثقافية وفي محاورات وجدال مع أهله من المسلمين، واطلعوا على حضارتهم وعلومهم وآدابهم، وتعلّم البعض منهم لغتهم، فقد أضحى من الصعب خداعهم بمثل ما كان القساوسة يرددونه من افتراءات على الإسلام وعلى العرب والمسلمين. وأزعج هؤلاء القساوسة وغيرهم أن يروا العائدين من الشرق يمتدحون لأهلهم ومعارفهم بعض جوانب الحضارة الإسلامية والخُلق الإسلامي، ويبدون الإعجاب بعلوم المسلمين وثقافتهم، ويتحدثون بما اطلعوا عليه من حياة النبي في كتبهم ومن خلال أحاديثهم. فكان من الضروري لإذكاء عداوة المسيحيين للإسلام ونبيه وقد باتوا الآن أقل جهلاً بهما انتهاج نهج آخر هو أكثر "علمية" هذه المرة، وأكثر إلتزاماً بالحقائق. وبالتالي فإن المسلمين مدينون إلى حد كبير للحروب الصليبية بتصحيح بعض المفاهيم الأوروبية عن الإسلام. بدأ هذا الاتجاه الجديد في الربع الثاني من القرن الثاني عشر، حين قرر بطرس الموقر رئيس الدير الشهير في كلوني في فرنسا، تشكيل لجنة لنشر سلسلة من المؤلفات العلمية الرصينة عن الإسلام، بهدف مواجهة تحدياته الفكرية والرد على دعواه، واهتمت هذه اللجنة بنشر ترجمة للقرآن، وسيرة النبي، وكتبٍ عن تعاليم الإسلام، وأخرى عن تاريخ أممه، وكان الأساس في كل هذه المؤلفات كتب المسلمين أنفسهم، لا وحي الخيال ودواعي الحقد، وإن كان المرء ليستشعر ازاءها دوما روحاً عدائية قوية، ومزيجا من مشاعر الإعجاب والخوف، ورغبة في تشويه صورة الإسلام ونبيه في أذهان المثقفين خصوصاً. وأعطى هذا النمط من الاهتمام بالإسلام في أوروبا دفعة قوية أخرى، ظهور قوة العثمانيين، وتوغل جيوشهم في هذه القارة توغلاً خطيراً. * ثمار الإحساس بالنقص كان لشعور أوروبا الغربية بلاد الفرنجة بالنقص عند مواجهتها للحضارة الإسلامية إبان الحروب الصليبية جوانب متعددة. فالتكنولوجيا الإسلامية كانت متقدمة عن التكنولوجيا الأوروبية في كثير من الميادين. وكان أثرياء المسلمين أكثر استمتاعا بالكماليات وأساليب الحياة الرغدة من أثرياء الأوروبيين. ولم يقتصر دور الحروب الصليبية في الشام وصلات الأوروبيين بمسلمي الأندلس على تعريف أوروبا الغربية بالكثير من المنتجات المادية والاكتشافات التكنولوجية في ديار الإسلام، ولا على إثارة اهتمام الإوروبيين بالعلوم الفلسفية، بل إن الفرنجة أقلقهم ما لمسوه إبان تلك الحروب من احساس المسلمين الثابت الذي لا يتزعزع بتفوقهم وفضلهم على غيرهم، فدفعهم الإحساس بالنقص الى التحوّل إلى ميداني العقيدة والتاريخ في سعيهم لإثبات وجودهم، والتعويض عن عقدة النقص في مواجهة الحضارة المتفوقة. وكان سبيلهم إلى ذلك ذا شقين: الأول: سعيهم إلى اقناع المسيحيين الآخرين بأنهم في حروبهم ضد المسلمين إنما يحاربون من أجل نصرة النور والدين الحق على قوى الظلام، وأنه حتى ان كان المسلمين أقوياء فإن المسيحية هي خير من الإسلام وأجدر بالغلبة والسيادة. والثاني: تهوينهم المتعمد من شأن أثر العرب والمسلمين في حضارتهم الأوروبية وهو تهوين لا نزال نلحظه في كتابات المؤرخين الغربيين غير المنصفين إلى يومنا هذا، ومبالغتهم في بيان أفضال التراث اليوناني والروماني على هذه الحضارة. فكان أن نتج عن الحروب الصليبية في نهاية الأمر إقبال نهم من الأوروبيين على دراسة التراث الأدبي والفني والفلسفي والعلمي للإغريق والرومان، والتظاهر بالاستخفاف بالإنجازات الإسلامية والعربية في تلك الميادين. وبالتالي فإن الأوروبيين مدينون إلى حد كبير للحروب الصليبية ببزوغ عصر النهضة. نخلص من هذه اللمحة الخاطفة إلى نتائج عدة: أولا: أن فهم الأوروبيين الغربيين والاميركيين الذين ورثوا عنهم هذا الفهم للعرب والمسلمين، تحكمه منذ مئات السنين، وإلى اليوم، مجموعة من الكليشيهات، أو الأفكار المبتذلة، التي عفى عليها الزمن، والتي آن الأوان لتعديلها وإحلال المفاهيم السليمة مكانها. ثانيا: أن هذا الفهم ينعكس بالضرورة على الصورة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية عن المسلمين والعرب. ثالثا: أن بزوغ ملامح تلك الصورة في ظل علاقات هي في المقام الأول علاقات عداوة وصراع حربي، صبغ خلفية الصورة بلون قاتم ثابت من العداء الدفين، والخوف الكامن، خصوصاً وقد دام التفوق العسكري الإسلامي على الغرب قرابة ألف عام، وكان الخطر دائما من جيران على الأبواب. رابعاً: إن ضعف الصلات الحضارية من ثقافية وتجارية إلى آخره، وضآلة مدى اطلاع أحد الطرفين، أو كليهما، على أساليب عيش الطرف الآخر وانجازاته ومعتقداته يهيّئان الطريق لإنتشار الكليشيهات الزائفة، والصورة الكاذبة المغرضة للآخر، في حين يبدد نمو الاتصال من جدوى الكذب والافتراء. خامساً: إن الصورة التي تخلقها وتنشرها وسائل الإعلام في جانب، غالباً أو دائماً ما تخدم مصالح القائمين على أمر تلك الوسائل وتحقق غاياتهم البعيدة إزاء الجانب الآخر، عن طريق تكييف نظرة رعاياها ومشاعرهم تجاه ذلك الجانب. سادساً: أنه ما دام ثمة توازن في القوى بين شعبين أو حضارتين يدفع كلا من الطرفين إلى الاعتراف بقوة الآخر، وإلى أخذه بعين الاعتبار والاهتمام، فإن الكليشيهات هنا إن نشأت فهي في العادة كليشيهات تنم عن الاحترام والتقدير، حتى مع الاعتراف باختلاف الطرف الآخر سواء في القيم أو الدين أو أسلوب العيش. فهنا نجد الإقرار بالجوانب الايجابية ومزايا أساليب الحياة لدى الآخرين، ونواحي القوة في معتقداتهم وقيمهم، من أمثلة ذلك ما نجده في كتب الأوروبيين في العصر الوسيط من اشادة بحضارة مسلمي الأندلس، ومن مديح لصلاح الدين الايوبي أو الظاهر بيبرس، وفي كتب المؤرخين المسلمين في العصر نفسه من إعجاب بشخصية فردريك الثاني امبراطور الدولة الرومانية المقدسة، أو ببلاطه في صقلية. غير أن كل هذا يتغير متى ما اختل التوازن في القوى وأصبح ثمة طرف أقوى بكثير من الطرف الآخر، سواء من الناحية العسكرية أو الحضارية أو الاقتصادية. وهو بالضبط ما حدث منذ تآكل قوة العثمانيين المسلمين وهزيمة جيشهم على أبواب فيينا في القرن السابع عشر، ومنذ وقوع غالبية الأقطار العربية في براثن الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحت الهيمنة الاميركية في أواخر قرننا هذا. فهناك يصبح الطرف الثاني موضع احتقار الأول، وتضحى نظرة الأول اليه ليست فقط باعتباره مختلفاً، ولكن أيضا باعتباره ضعيفاً ومتخلفاً، ولا مستقبل أمامه إلا إن هو تعلّم من الأول فتبنى مفاهيمه وقيمه واسلوب عيشه ومظاهر حضارته. وهنا تنشأ لدى الطرف القوي حاجة إلى الحفاظ على ذلك الوضع من اختلال التوازن، لا بالوسائل العسكرية فحسب فهي وسائل مكلفة سواء بشرياً أو مادياً، وإنما ايضا عن طريق قيام وسائل الإعلام بالنشر المتعمد لمجموعة من الأفكار والكليشيهات الخاصة بأوجه الاختلاف بين الطرفين، وتصويرها على انها ثابتة لا تتغير، وذلك من أجل اثبات حقه في استمرار هيمنته، وغرس الشك لدى الآخر في ذاته وفي قدرته على التصدي بنجاح لمقاومة الطرف الأول الذي ينتمي إلى جنس أرقى، وحضارة أعلى. حينئذ يهم الطرف الأقوى أن يشيع لدى الجميع، هنا وهناك، فكرة أنه الطرف المتحضر، وأن عليه عبء نشر الحضارة في الأقطار الهمجية المتأخرة، ومسؤولية إلحاق هذه الأقطار بركب الحضارة والمدنية، ولو في ذيل الركب، وأغلب الظن أنه ربما كان من الأهداف الرئيسية لإنتاج مسلسلات تلفزيونية اميركية مثل "دالاس" و"الجريء والجميلة" وغيرهما، وعرضها في دول العالم الثالث، إطلاع شعوبنا المتخلفة على ما تتمتع به الشعوب المتحضرة من رخاء وثراء ونعيم عيش، وهو ما لن نحققه ولو بعد ألف عام، "ما لم تبدأ شعوب العالم الثالث من الآن بإبداء الرغبة والاستعداد لاقتفاء أثرنا نحن، وإطاعتنا طاعة كاملة، والامتثال لأوامر ونواهي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، والتصرف على النحو الذي نمليه نحن عليهم في ثرواتهم التي وجدناها نحن في صحاريهم التي تتبعهم اسمياً. فعن طريق الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وما شابهها إذن يمكن تبليغ هذه الرسالة بصورة غير مباشرة، ولكنها أكثر فاعلية وأبلغ تأثيراً، بالنظر إلى أنها تتسلل إلى العقل الباطن من دون أن تلقى مقاومة أو اعتراضاً، فيصعب التصدي لها أو تحديها. ولا يكتفي الغرب بإبراز الجوانب "الإيجابية" من حضارته هو، وإنما يُعنى أيضاً بإبراز الجوانب "السلبية في المجتمعات التي يهيمن عليها، وذلك من أجل استئصال أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير قد يشعر به المهيمنون من جراء استغلالهم أو استعمارهم لأقطار أخرى تأمل الصورة التي تنجم لدى جمهور المشاهدين لأفلام طرزان عن الفارق بين الأفارقة السود الذين لا يصلحون إلا لحمل أمتعة الرحالة البيض، وبين طرزان الأبيض الشجاع المغامر واسع الحيلة. فهو يصوّر شعوب تلك الأقطار على أنها في حاجة دائمة إلى مساعدة الغرب وتوجيهاته بالنظر الى عجزها عن مساعدة نفسها، ويحاول أن يوجد لدى تلك الشعوب استعداداً لقبول كل ما يقرر الغرب أنه مفيد لها وله. وعلى سبيل المثال: صحيح أنه لا يزال في العالم العربي حمير وجمال، ونخيل ورمال، وخيام وبدو، غير أن هناك اليوم أشياء أخرى كثيرة غير هذا، وأنماطاً من الناس غير الإرهابيين الإسلاميين. ولذا فإن الشركات السينمائية تكثر من إنتاج الأفلام التاريخية أو المستقاة من قصص الكتاب المقدس، حتى ترسخ في أذهان المشاهدين من الأوروبيين والاميركيين هذه الصورة القديمة عن الشرق الأوسط. فإن تناولت الأفلام مواضيع حديثة، فهي عادة أفلام بوليسية أو أفلام مغامرات تُظهر أهل المنطقة بالصورة البدائية نفسها تقريباً. ولا يلاحظ المتفرجون عندنا إلا نادراً أن هذه الأفلام تقدم عامدة خدمة كبيرة لمصالح ذوي النفوذ في الغرب، بخلقها مفاهيم وكليشيهات عن مدى تخلف أهالي الأقطار الأخرى. مثل هذه السياسة من موجهي وسائل الإعلام في الدول الغربية تنطوي على نظرة ضيقة وخطرة على تلك الدول في المدى البعيد، وهي شبيهة بمقولة لويس الخامس عشر: "بعدي الطوفان". ذلك أن ثمة خطراً من أن تضحى الدول الصناعية الغنية حبيسة ثم ضحية لمفهومها عن مصالحها، ولكليشيهاتها عن العالم الثالث. وعن نفسها، وهي الكليشيهات التي تخلقها أجهزة الإعلام فيها. فكل ما يشغل بالها في الوقت الراهن هو كيفية الاستفادة المادية الآن وفي المستقبل القريب، ثم "بعدي الطوفان" كما قلت. تأمّل مبيعاتها من السلاح مثلاً إلى الدول النامية، أو أنظر إلى أفلامها وبرامجها التلفزيونية التي تخلق الرغبات والتطلعات لدى شعوب فقيرة لن يمكنها أبداً إشباعها أو تحققها، اللهم إلا حكّامها وطبقة جدّ محدودة من الأثرياء فيها. هي تسعى إلى أن تقلّدها هذه الشعوب لأنها تعلم أن التقليد بطبيعته يرسخ الإحساس بالنقص، والشعور بعدم المساواة، غير أن إعلامها وأفلامها تقول لأفراد تلك الشعوب: "عليكم بالعمل على اقتناء ما لدينا مهما كانت كلفة ذلك عليكم وعلى مجتمعاتكم، وإلا بقيتم على تخلفكم". ولا شك في أن هذه الرسالة رسالة خطرة. فتزايد الرغبات وتنامي التطلعات لدى الشعوب الفقيرة - من دون القدرة على إشباعها - يهددان أمن الدول الغربية. وإدراك هذه الدول لهذا الخطر سيدفعها إلى أن تحرص بل وقد بدأت تحرص من الآن على بناء أسوار عالية حول مجتمعاتها الصناعية المتقدمة حتى لا يتسلل اليها الفقراء والإرهابيون وسائر الخطرين على أمنها من دول العالم الثالث. بدأت تضع العقبات في سبيل حصولهم على تأشيرات دخول إليها، أو على تصاريح بالإقامة أو العمل فيها، ورفعت أسعار تذاكر السفر على أقطارها. وسيأتي الوقت الذي لن تسمح فيه بالدخول إليها إلا لعدد محدود جداً منهم، وذلك في أوقات الرخاء حين تكون في حاجة إلى أيد عاملة رخيصة تقوم بالأعمال الوضيعة التي يأبى مواطنوها أداءها، أو إلى أطفال تتبناهم حين يقل عدد السكان في هذا القطر من أقطارهم أو ذاك. غير أن هذه الأسوار لا شك في أنها تُخترق متى عظم الضغط عليها من الخارج. وسيزداد الضغط عليها كلما ازدادت الشعوب الفقيرة المتخلفة فقراً وتخلفاً. وهنا يكمن الخطر على الدول الغربية الغنية، ولن يتحقق تصحيح الوضع إلا إذا تغيرت طبيعة نظرتها الراهنة الى علاقاتها بالعالم الثالث تغيراً جذرياً. وسيكون أحد السبل لتغيير طبيعة تلك النظرة، تغيير الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام فيها لشعوب العالم الثالث، ومنها الشعب العربي. إن وسائل الإعلام في الغرب - خصوصاً في الولاياتالمتحدة - هي المكلفة من قبل السادة المستفيدين من تجارة السلاح باكتشاف العدو إثر العدو لنمط الحياة الغربي. أو كما قال ألبرت اينشتاين العام 1950: "إن أصحاب السلطة الحقيقية في الولاياتالمتحدة لا نية لديهم أن ينهوا الحرب الباردة أبداً". فإن انقضى خطر الاتحاد السوفياتي والشيوعية فهناك اليابان، أو العرب، أو الإسلام. والظاهر أن المواطن الاميركي العادي لديه حاجة نفسية ملحة إلى أن تطلعه جهة عليا على هوية عدوه الجديد، واقتناع عميق الجذور بأن لا بد أن ثمة عدواً له يتربص به، قد يكون سببه احساس بأن العالم الجائع خارج بلاده يحسده على ارتفاع مستوى معيشته. فوسائل الإعلام الغربية الآن لا تكف عن تصوير خطر الأصوليين الإسلاميين الداهم، لا على بلادهم هم فحسب، بل وعلى الحضارة والبشرية جمعاء. والاعتماد الكامل في هذا التصوير هو على فريقين من الناس اعتبرهما أقل العناصر قدرة على فهم حقيقة الأوضاع، وأعني الصحافيين المولعين بالتهويل، والأكاديميين من أساتذة الجامعات المغرمين بتضخيم ما يكتشفونه من حقائق صغيرة. غير أنني أكاد أجزم أن المستهدف من هذه الحملة الإعلامية الغربية ليس الأصوليين الإسلاميين والإرهابيين، وإنما هو الإسلام ذاته، عكس ما ادعاه الرئيس بيل كلينتون في 20 آب اغسطس 1998 في تبريره للقصف الاميركي لأفغانستان والسودان، ثم كرره بعد ذلك بأيام في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولإيضاح ذلك أمضي فأذكر أن التعاليم المسيحية مثلاً ما كانت - بأية حال من الأحوال - لتقف عقبة في سبيل مبادئ الحرية والديموقراطية، وما كان من الصعب عليها، وهي التي قضت منذ البداية بالمساواة بين البشر أمام الله، أن تقضي بالمساواة بينهم أمام القانون. غير أن الذي حدث في بعض العصور هو أن الكنيسة التي نصبت نفسها قيّمة على هذا الدين، رأت من صالحها الدنيوي أن تتحالف مع القوى المعادية للديموقراطية والحرية والمساواة، وأعني الملكية والإقطاع، لترسيخ المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإذا هي تُعادي المساواة التي قضى بها السيد المسيح، وتساند مظاهر التفرقة بين الطبقات وبين الأفراد، وتربط نفسها برباط وثيق مع الرجعية. هذا الرباط الوثيق هو الذي سهّل في ما بعد على الفلاسفة والليبراليين وداعاة الحرية والديموقراطية ممن خلطوا بين الدين المسيحي وكنيسة ذلك العصر أن يزلزلوا من دعائم الدين نفسه، خصوصاً أن ذلك الخلط كان قائما في أذهان المتدينين أنفسهم. أما الإسلام فلم يعرف منذ نشأته إلى يومنا هذا كنيسة. ورغم أن علماءه وهم الذين لم تقترب سلطتهم أبداً من سلطة رجال الدين في المسيحية كثيراً ما ساندوا الخلفاء والسلاطين والولاة في بغيهم، والاتجاهات الرجعية في فسادها، فإن تأثير تلك المساندة كان محدوداً دائماً، متذبذباً في الكثير من الأحيان، بحيث كان من الصعب أو المحال أن يرتبط موقفهم الرجعي بحقيقة الدين. وهذه هي علّة فشل من سوّلت له نفسه من المفكرين والليبراليين في العالم الإسلامي مهاجمة الإسلام بدعوى رجعية مبادئه. واليوم نجد أنفسنا ازاء محاولة منظمة قوية من جانب وسائل الإعلام في العالم الغربي لخلخلة دعائم الإسلام كدين، بدعوى عدم لياقته لمسايرة مقتضيات النظام العالمي الجديد، وبدعوى أنه، في عالم اليوم، يمثل مفرخة للإرهاب والإرهابيين. وإذ لمس هؤلاء القائمون على توجيه وسائل الإعلام تلك الاستحالة التي تحدثت لتوّي عنها في الربط بين الإسلام وبين السلطة "الكنسية" غير القائمة أصلاً فيه من أجل توجيه ضربة قاصمة إليه كتلك التي استغلت مفاسد الكنيسة الكاثوليكية في زمن ما لزعزعة الدين المسيحي، فقد لجأوا إلى وسيلتين رئيسيتين: الأولى، العمل على نشر أساليب العيش والعادات الاستهلاكية الشائعة في الغرب بين الشعوب الإسلامية، خصوصاً الشباب فيها، وغرس الاعتقاد بتفوق أنماط الحضارة الغربية، إذ أن من شأن تأثير الطبقات الأغنى المتفرنجة وشريحة الشباب أن يخلخل القيم والمفاهيم الإسلامية، وركائز الدين نفسه. غير أن هذه الوسيلة تتطلب حتى تؤتي ثمارها زمناً هو أطول من أن تحتمله الدول الغربية في عالم سريع الإيقاع، ويهمه الوصول إلى نتائج فورية. ولذا فإننا نراها انتقلت في الآونة الأخيرة إلى الوسيلة الثانية الشبيهة بتلك التي تبناها فلاسفة القرن الثامن عشر وليبراليو القرن التاسع عشر في أوروبا في هجومهم على المسيحية، ألا وهي الربط أولاً بين الإسلام وبين جهات تصوّرها وسائل الإعلام الغربية حتى وإن لم تكن كنسية على أنها القائمة على أمر الإسلام، ثم تسديد الضربات الموجهة إلى الجماعات الإرهابية، مع التظاهر دائما بأن الإسلام ليس هو الهدف، وإنما الهدف هو تلك الجهات الهمجية الإرهابية الوحشية التي لا شك عندهم "أن الإسلام منها بريء". * كاتب مصري