في واحد من افصح مشاهد فيلم "نشيد الحجارة" للمخرج الفلسطيني ميشال خليفي، وهو مستعار من احدى وكالات الانباء الغربية في ذلك الحين، نشاهد مجموعة من الفتيان وهم يرشقون جنود الاحتلال الاسرائيلي المدججين باقسى انواع الاسلحة، بالحجارة. وفي لحظة من اللحظات يلاحظ فتى ان رفيقه يميل الى شيء من التقاعس، فينهره قائلاً بصوت كالهمس: "اضرب... اضرب، ان كاميرات الأجانب تصوّرنا". ينتمي المشهد الى الاشهر الأولى من انتفاضة نهاية سنوات الثمانين، تلك الانتفاضة التي كان لها من العفوية والقوة ما اعاد الى الفلسطينيين املهم بالخروج من الدرب المسدودة بعد المذابح التي تعرضوا لها في لبنان وخلال الغزو الاسرائيلي لجنوبه. يومها كان رماة الحجارة الفلسطينيون، تحت قيادة "ابو جهاد" يعرفون ان انتفاضتهم لا ترمي الى تحقيق اهداف طوباوية او مستحيلة الوصول، بل الى مخاطبة الرأي العام العالمي وتنبيهه الى ان في صراع الشرق الاوسط، جلادين وضحايا، وان الشعب الفلسطيني هو الذي يقدم الضحايا من ابنائه. في ذلك الحين لم تكن هناك فضائيات عربية. وبالكاد كانت محطات التلفزة العربية الأرضية والمحلية قادرة على الحصول على مشاهد تعرضها. وبذلك تمكنت الانتفاضة من الافلات من عدد كبير من الافخاخ التي كان يمكن إعلاماً عربياً يميل دائماً الى تضخيم الأمور في لعبة مزايدات لا تنتهي، ان ينصبها لثورة شعب كان يحاول، فقط، ان يقول انه موجود وان إبعاد قياداته عن اراضيه لا يعني انتهاء ايمانه بحقه. اليوم بعد اكثر من عقد من السنين، تبدو الأمور مختلفة. فالفضائيات العربية موجودة وبوفرة. موجودة الى درجة التخمة، تصور وتعرض وتواكب واحياناً تحرض ميدانياً. وفي الوقت نفسه تستدعي المحللين والمراقبين والمسؤولين تستفتيهم وتستمتزج آراءهم وتحاورهم. من ناحية منطقية كان يمكن مثل هذا ان يكون مفيداً للانتفاضة الجديدة وان يدعمها ويساندها. وهو يفعل الى حد كبير، خصوصاً حين يلتفت الى الجانب الانساني، فيجمع التبرعات او يثير نخوة الشعوب الشقيقة او يكشف المآسي. إلا ان المشكلة تكمن اليوم في ان هذه الفضائيات نفسها تصل الى حدود مبالغة لا تحتمل في اداء وظيفتها. تصل الى حدود الخديعة، حين تغالي في الحديث عن الانتصارات الميدانية، في وقت تغفل الانتصارات الحقيقية: السياسية وعلى صعيد اكتساب الرأي العام العالمي، وهو ما تقل درجته هذه المرة كثيراً عما كان حدث إبان الانتفاضة الاولى، لاسباب ليس هنا مجال تحليلها كلها. وينسحب هذا الكلام على خطابات الضيوف الذين يؤتى بمعظمهم من صفوف متحمسين لا يعيرون انتباهاً، ربما، الى ان عقلانية معينة تفرض عليهم كلاماً اقل "ظفراوية" واكثير تعمقاً. لأن كل واحد يأتي هنا للمزايدة على من سبقه، لمجرد ان من سبقه يريد ان يزايد على تلك المشاهد التي تتفنن تلفزاتنا في تصويرها، وبعضها يسيء حقاً الى القضية، وإن كان يرى انه يدافع عنها. وهكذا يختلط الحابل بالنابل، ويصبح من الأمور السائدة ان تعرض الفضائيات تظاهرة مصرية فيها لافتات تحيي "هتلر"، لأنه احرق "الجراثيم"! مثل هذه المشاهد إذ تتكاثر من دون اي تحليل او ضابط، ينتهي بها الأمر الى ان تسيء الى الانتفاضة ككل، والى اهدافها وقدرتها على مخاطبة الرأي العام العالمي. فإذا كان الشارع، وهو في حال غليان نابع من حزن ومرارة وغضب، يجد الف مبرر ومبرر لتصرفات تفتقر الى الحد الأدنى من العقلانية. واذا كانت الجموع، بالتالي، في حالات الهيجان تصل الى مسافة بعيدة جداً من اي حس سليم، من المؤكد ان على الفضائيات في تصويرها وتعليقها واختيار المتحدثين عبر شاشاتها مخاطبين الرأي العام المحلي او الرأي العام العالمي، عليها ان تكون اكثر انتقائية. لأن المسألة هنا ليست في من يسبق من، ومن يزايد على من، بل مسألة من هو الأقدر على التواكب مع الحدث، وعقلنته - حتى على رغمه احياناً -. وذلك بكل بساطة لأن "الحرب" التي نعيشها، وربما سنعيش ما هو امرّ منها وأشد قسوة وعنفاً، هي، وسط قرية العالم الصغيرة التي نعيش فيها، ووسط فورة الاعلام، في عالم صار كله اعلاماً، صار كله مجتمع استعراض، بحسب تعبير شهير للراحل غي ديبور، حرب تلفزيون ايضاً. ولعلنا ببعض الذكاء والعقلانية نكون قادرين على ربح هذه الحرب التي قد تكون الوحيدة الممكن الانتصار فيها. وما انتفاضة آخر الثمانينات سوى الدليل الاذكى إلى هذا.