مرت الذكرى السابعة لوفاة الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود من دون اهتمام يذكر في عالمنا العربي. ولو كانت الذكرى مضت على فيلسوف غربي لشهدت عشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والندوات والمقالات. وفيلسوفنا لا يقل قيمة عن أي فيلسوف غربي معاصر لو كنتم تعلمون. وكالعادة فنحن نهتم بالأحياء، إذ حصل الدكتور زكي نجيب محمود في حياته من مصر على جائزتي الدولة التشجيعية عام 1959، والتقديرية عام 1975، وحصل من الإمارات العربية على جائزة سلطان العويس عام 1991، أما بعد وفاته فصمتُ القبور. يبدو أن فيلسوفنا نفسه كان يعرف ما سيحدث له ويشخص السبب في الوقت ذاته، عندما كتب في كتابه "مجتمع جديد أو الكارثة": "نعم، لقد لبثت أكتب للناس منذ أمد بعيد، كتابة كنت أشعر دائماً أنها إذا انتهت إلى الأسماع مرة، فقد ذهبت مع الريح مئة مرة. ولعل الذي كان ينقصها لكي تسمع هو عملية "التسويق"، التي لا أحسن منها شيئاً". ولد زكي نجيب محمود في قرية ميت الخولي عبد اللّه، التابعة لمدينة فارسكور في محافظة دمياط في شمال مصر، في الأول من شباط فبراير سنة 1905. كانت أسرته تنتمي إلى الطبقة الوسطى، فيها شيء من المحافظة في معايير الأخلاق التقليدية، وتعنى بأبنائها وبناتها إلى حد الإسراف، فلم يكن يسمح له وهو طفل باللعب في الشوارع. وفي التاسعة انتقل أبوه إلى السودان، وكان ذلك شائعاً بين المصريين والسودانيين، فأقاموا في مدينة الخرطوم، حيث أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي. وعاد إلى القاهرة وعمره إحدى وعشرون سنة، أي انه قضى في الخرطوم اثنتي عشرة سنة متصلة. التحق بمدرسة المعلمين العليا في القاهرة وعمل مدرساً بعد تخرجه عام 1930، على عادة الكثير من "الأفندية" في ذلك العصر. تخصص في دراسة الفلسفة، ونال الدكتوراه من جامعة لندن عام 1947. عاد إلى مصر في العام ذاته وانتقل للتدريس في قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة القاهرة، لكنه تزوج ممن أصبحت استاذة الفلسفة في جامعة عين شمس، منيرة حلمي، وظل يدرس الفلسفة في جامعة القاهرة طيلة حياته بعد ذلك، ما عدا بضع سنوات قضاها مسافراً ومحاضراً في غير مصر، وقضى بعضها الآخر في ما وصفه بپ"غضبة قلمية نثرتُ بعض شواظها في كتب ومجلات وصحف، والحق أن شيطاناً كان وسوس لي عندئذ بأن مثلي لم يعد له مكان لا محاضراً ولا كاتباً، وحاول ذلك الشيطان الخبيث أن يدس في نفسي شعوراً مضللاً، هو الشعور بأنني أديت واجبي، وقلتُ كلمتي، ولم يبق إلا أن أترك الميدان وأمشي"، لكن أمراً حدث كان على غير هواه أول الأمر، وكان كذلك على غير هوى طائفة من الأصدقاء الألداء في أول الأمر وآخره، فعاد إلى المحاضرة والكتابة ليستأنف كلمته لحسن حظنا. درّس زكي نجيب محمود في جامعتي كولومبياوواشنطن كأستاذ زائر عامي 1953 و1954. وواصل الإقامة في الولاياتالمتحدة الاميركية، حيث عمل مستشاراً ثقافياً في سفارة مصر في واشنطن عام 1955. وفي 1964 ذهب إلى بيروت معاراً لجامعة بيروت العربية بضعة أشهر. كان التطلع إلى مجتمع أفضل هو الأساس الذي انطلق منه زكي نجيب محمود في كتاباته الفكرية، فأصدر سنة 1939 كتاباً يتحدث فيه عن "اليوتوبيات الفاضلة" نسبة إلى عالم خيالي سماه "أرض الأحلام". لكن اسمه ارتبط في ما بعد بالفلسفة الوضعية المنطقية. أطلّ على قراء عديدين من خلال الصحافة التي بدأ العمل فيها وهو طالب قبل أن يعمل بالتدريس بعد تخرجه، فلقد كان للصحافة في عينيه بريق. وبدأ تدريبه على العمل في الصحافة في جريدة "السياسة" التي كانت لسان حال حزب الأحرار الدستوريين وكان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل. ثم أصبح زكي نجيب محمود نفسه رئيساً للتحرير وذلك في مجلة "الثقافة" التي رأس تحريرها عام 1948، ومجلة "الفكر المعاصر" التي رأس تحريرها عام 1965، وكانت تصدرها وزارة الثقافة المصرية، ثم واصل عطاءه الصحافي من خلال مقالاته الأسبوعية في جريدة "الأهرام" التي ظل يكتبها لسنوات، وجمعها في أكثر من كتاب له، حتى توفي في 7 أيلول سبتمبر 1993. وزُرته في شقته في مدينة الجيزة قبيل وفاته بصحبة وزير الثقافة المصري فاروق حسني، فوجدته نموذجاً آسراً في التواضع والرقة والهدوء، وكذلك زوجته، ولم تكن له أية مطالب خاصة على الإطلاق، وهكذا استمر طيلة حياته. كتب عن نفسه: "الحق أني لم أكن أتخيل أنني معروف لأحد، على رغم كثرة ما كتبتُ لأن شيئاً في نفسي يوهمني دائماً بأنني إنما أكتب لغير قارىء". وأعتقد أنه ردّ كتابةً على مشروع "السياسة الثقافية" الذي شاركتُ في صياغته في بداية تولي فاروق حسني وزارة الثقافة في مصر عام 1988، وكان الوزير حسني أرسله اليه ليتعرف على رأيه فيه. كان يتوقع الموت عام 1990، وعبّر عن ذلك في كتابه "حصاد السنين": "يقال عن البجعة أنها إذ دنت من ختام حياتها سمعت لها أنات منغومة تطرب لها آذان البشر". لكنه مات بعد ذلك بثلاث سنوات متجاوزاً الثمانية والثمانين. وأرَّخ لسيرته الذاتية في ثلاثة كتب هي: "قصة عقل"، و"قصة نفس" و"حصاد السنين"، كما تجد أحاديث متفرقة عن نفسه في كتب أخرى له. في ذكراه نراجع هنا بعض علامات لامعة في شخصيته وفي فكره ومن فكره: 1- ترتكز فلسفة زكي نجيب محمود على ثلاثة مبادئ أساسية: أ- إيمانه بفردية الإنسان المتميزة ووجوب المحافظة على تلك الفردية فيه. والفردية عند فيلسوفنا لا تنحصر في الفرد ذاته كما توحي الكلمة، بل هي تتحدد بمجموعة العلاقات التي تربطه بغيره من الأفراد، والتي تضع الذات في إطار جمعي. فالفيلسوف دعا إلى فردية عاقلة مسؤولة. ب- إيمانه بضرورة أن يكون للعقل الإنساني أولوية مطلقة. لذلك فنحن أحوج ما نكون إلى استحضار وتذكر وتأمل زكي نجيب محمود في عالمنا العربي الذي يغيب عنه العقل في معظم أوقاته. وهو يجمع بين الإيمان بالفرد والإيمان بالعقل في الإيمان بفرد عاقل مسؤول عما يفعله ويحاسب عليه. ج- ثم إيمانه بالعلم. العلم الذي يشكل الفارق بين الأمم المتخلفة والمتقدمة. والعلم الذي نادى بأن يكون مذهباً سياسياً. 2- وهو ضد ثنائية العقل في مواجهة العاطفة. ويرى أنهما ضروريان معاً لكل إنسان يريد لنفسه حياة تحقق فطرته السليمة. "فالعلم عقل، والإيمان عاطفة، وبالعقل والعاطفة معاً يحيا الإنسان السوي السليم". ومع ذلك فلقد فرّق في حياته الفكرية عامداً بين قلبه وعقله، بين رغباته ومبادئه، وحاول أن يكون مترفعاً عن الهوى، وهي محاولة صعبة على النفس البشرية أيّما صعوبة. عندما يكتب للناس يكتب بعقله، وعندما تواجهه مشكلة يعمل على حلها بعقله. لكنه عندما يريد أن يستريح يلجأ إلى قلبه، ويسعد بقراءة الشعر العربي القديم. ليس شعر "العقل" الذي يمثله المتنبي أو أبو العلاء المعري. وإنما شعراء الجاهلية في بداوتهم. وعندما يحلم فيلسوفنا يقظة أو مناماً فإن "نسبة ضخمة من هذه الأحلام تنقلني إلى كهوف في الجبل أو أكواخ صغيرة بسيطة في وديان صامتة، أو في سهول لا تعرف لها حدوداً". لقد نادى في كتاباته كلها بعدم الخلط بين أفكار العقل وأمور القلب، "فلكل منهما طريق وطريقة، وهي تفرقة أرادها لنا البارىء حين صوّرنا عقلاً ووجداناً، ولم يرد لأي من الجانبين أن يستقل وحده بالزمام". وهكذا ظلّ فيلسوفنا في صراع دائم "كلما رأيتني أستريح بقلبي لشيءٍ، وأدعو بعقلي إلى شيءٍ آخر". ولهذا لم تعرف نفسه الطمأنينة "وحتى لو حاولت أن تصطنع الطمأنينة فإنما تفعل ذلك يأساً من بلوغ الأمل، إنها نفسٌ طالما أرادت وطالما حطّمت الظروف إرادتها". ومن هذا البُعد البعيد بين ما صحّ به العزم وبين ما سمح به الدهر، كان هذا القلق المضطرب الذي يهد في تلك النفس كيانها... إنها تخاف الهزيمة أمام الملأ فتنطوي داخل جدرانها. هكذا يعترف الفيلسوف بدخيلة نفسه في نبل جميل. 3- ونلاحظ في اسلوب الكتابة بروز ثلاث ظواهر، تعود في الأغلب إلى تكوين زكي نجيب محمود كمعلم، وربما اكتسبها من التدريس، فلقد احترف التعليم خلال أعوام قاربت النصف قرن، لكن ليس كل الأساتذة يفعلون فعله المفيد، والمؤكد أنها من رغبته أن يكون مفهوماً لدى القراء، وربما مؤثراً فيهم، على العكس من كثير ممن يكتبون عندنا في الفلسفة أو يدعونها: أ- التبسيط والاستعانة كثيراً بالأمثلة التوضيحية، وتلك ميزة كبرى، فهو - مثلاً - عندما يتحدث عن ثنائية العقل والعاطفة في الإنسان، وكثيراً ما تحدث فيها، يمثلها بالدار كثيرة الغرف والتي لا نرى منها إلا غرفة واحدة نمارس فيها كل حياتنا في البيت. وتكون هذه الغرفة للعقل أو للعاطفة طبقاً لما يغلب على الواحد منها. بينما في الدار ذاتها غرف أخرى لا ندخلها. ب- أنه يكثر من الأسئلة في الشرح، ليؤدي بالقارئ إلى إجابات محددة، وبالتالي يصل إلى هدفه عن طريق وضع هذه الأسئلة، وهو أحياناً يضع الإجابة في السؤال، وهو أسلوب أكثر تأثيراً في القارئ إذا أجاد الكاتب استخدامه. من ذلك تساؤله: "فلماذا حرص المستعمر أيام سيطرته على أن تضيق دائرة التعليم العلمي في أقل حيز مستطاع، لتظل السيادة عندنا لثقافة الكلام؟". ج- التكرار والإطناب، فهو يعود إلى شرح الفكرة أو الرأي نفسه غير مرة بألفاظ شتى وبأساليب مختلفة وفي مناسبات كثيرة، وخصوصاً ما يتعلق بموضوعه الأثير وهو العقل. وربما يعود ذلك إلى أن كثيراً من كتبه، وبخاصة الأخيرة، هي تجميع لمقالات نشرها منفصلة في الصحف، وخصوصاً مقالاته في جريدة "الأهرام". مثال على ذلك مقالته "السياسة بنظرة ساذجة" المنشورة في كتابه "مجتمع جديد أو الكارثة". فهو عندما يتحدث عن الواقع الاجتماعي يصفه بأنه "ليس من الأشباح الهائمة في ضوء القمر"، وربما شعر بأن هذه العبارة تحتاج إلى توضيح، فيضيف "بل هو أنت وهم وهن"، ويبدو أنه شعر أن التوضيح ليس كافياً فيستطرد "الواقع الاجتماعي هو اسماعيل وإبراهيم وزينب وفاطمة". 4- تمتع زكي نجيب محمود في حياته بمتعة القناعة "كنز لا يفنى". وهي قناعة تولدت من قلة الرغبات في زبد الدنيا. وكان ميالاً بطبعه إلى الزهد، وكان يؤثر البساطة لنفسه في حياته الخاصة، فلم يكن للرغبة سلطان عليه، وحمى نفسه من النفاق، واعتمد فقط على عمله. يقول: "لقد عرفت في حياتي الثقافية الطويلة كباراً عندما كنت صغيراً، وصغاراً بعد أن تقدمت بي السنون، فشاء لي اللّه في كلتا الحالتين أن أكون أنا الضحية لنفع غيري". ومع ذلك فهو لم يدع الناس إلى حذو حذوه، لأن "تصوف الزاهد لا يقيم المصانع ولا يشق الفضاء بقاذفات القنابل ليمحق الأعداء". ويعود ذلك إلى أنه يفرق في كيانه بين جانب "الفرد" وجانب "المواطن". وعندما يقوم بالتدريس أو يكتب للناس فهو يعبر عن جانب المواطن الذي عليه أن ينظر إلى الأهداف القومية لوطنه ويبحث عما يحققها من وسائل نصل إليها بالعقل. 5- من هذا المدخل المنتهي، نفهم طقس الكتابة عند زكي نجيب محمود. فلم يكن من عادته أن يكتب وهو في طريق السفر. بل يستعد للكتابة بجلسة يحيط فيها شيء من قداسة العبادة، لأنه لا يكتب لمجرد أن ينثر مداداً على الورق، ولا ينطق ليتحول اللفظ إلى هواء. 6- وهو ليس فيلسوفاً نظرياً وحسب، بل هو يربط كل شيء بالفائدة التي قد يأتي بها للواقع وللمجتمع أو الناس. هكذا فعل عندما اختاره زملاؤه العام 1963 أميناً للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد في مصر آنذاك، وذلك في لجنة العشرين الممثلة لهيئة التدريس في كلية الآداب في جامعة القاهرة. فأعدّ مذكرة لعرضها على اللجنة في أول اجتماع لها، اقترح فيها ما ظنّه أفضل طريق للعمل، وهو أن تكون كلية الآداب نفسها هدفاً للجنة لتعمل على الارتقاء بها، من اجل توجيه البحوث العلمية لتنفع الناس، وخدمة الطلاب في حل مشاكلهم... إلخ. لكنه فوجئ بأن مذكرته ليست من السياسة في شيء، وأن السياسة تعني في الاتحاد الاشتراكي "توعية الجماهير". فهم زكي نجيب محمود للسياسة تأثر بما عرفه، كما قال، عن سقراط الذي يمزج السياسة بالأخلاق. فكما تهدف الأخلاق الى تحقيق السعادة للفرد في المجتمع، فإن السياسة لا تريد أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وهذا الخير العام هو حاصل جمع الخير لدى كل فرد. ولذلك فالمؤكد أنه كان يمارس عملاً سياسياً عندما آل على نفسه أن يزيل الأمية عن كل فتاة تعمل لديهم في البيت، لأنه كان يعتبر عاراً على أسرته أن يجهل فرد من أفرادها القراءة والكتابة. فالسياسة من وجهة نظره يجب ألا تستهدف فقط رفع المستوى الاقتصادي، ولكنها يجب أيضاً أن تعمل على احترام القانون، ومراعاة الحقوق، وحماية حياة الأسرة والقيم الثقافية والروح القومية، وهي بمثابة ما يسمى في البحوث العلمية ب"المتغير المستقل"، بينما الاقتصاد هو "المتغير التابع". ويرى زكي نجيب محمود أن الاقتصاد لا يلد للإنسان خصائصه المثلى. وهو هنا، وهو الفيلسوف الوضعي، يبدو على طرف نقيض من الفلسفة المادية التي ترى في الاقتصاد محركاً للحياة وللناس وللتاريخ. علماً بأنه كتب مؤكداً أنه مؤمن بالاشتراكية منذ كان فتى يهتز القلم بين أصابعه، ومن شاء فليراجع مقالات تعد بالعشرات كتبها في صورة الأدب الرمزي منذ أواخر الثلاثينات وعلى امتداد الاربعينات من القرن العشرين. 7- ينتمي زكي نجيب محمود إلى المذهب "التجريبي"، على العكس ممن ينتمون إلى النظرة "المثالية" في الفلسفة. أي أنه يحاول أن يجاوز ميدان التخصص النظري إلى مجال التطبيق العملي. والمذهب التجريبي قد لا يكون في واقع الأمر مذهباً. أي أنه لا ينحصر بجمود في إطار مبادئ لا فكاك منها. وكان فيلسوفاً يرى أن من أخطر مزالق الفكر أن يقيد نفسه في حدود إطار مذهبي تقييداً يجعله يرجع في كل أموره إلى مبادئ مذهب معين. فما وجده متفقاً مع تلك المبادئ قبله، وما لم يتفق معها رفضه. فتيار الحياة، كما قال، أغزر جداً من أن يلم به مذهب واحد محدد بعدد قليل من المبادئ والقواعد. ولذلك فالمذهب التجريبي هو في الواقع أقرب إلى المنهج منه إلى المذهب. وهو هنا متأثر بالإمام الغزالي في كتابه "ميزان العمل" عندما حذر من المذهبية ونصح سائله "جانب الالتفات إلى المذاهب، واطلب الحق بطريق النظر". ورأى زكي نجيب محمود أن الأسماء التي يطلقونها على المذاهب السياسية "هي من غموض المعنى وإبهام المعالم، بحيث أعجب ممن يستخدمونها في جرأة وبساطة". 8- الإيمان بالمنطق. والمنطق عند فيلسوفنا قرين التفكير العقلي المنهجي، قائم على التحليل العلمي، وتسلسل الأفكار. لا يستسلم لترديد الأقوال المنتشرة أو المتعارف عليها لمجرد شهرتها. بل اعتاد أن يمعن النظر في كل ما يحيط به وما تصل إليه حواسه. فزكي نجيب محمود حر في انتقاءاته، كما هو حر في آرائه، وهو لا يرجع فيها إلا لمرجعين اثنين: ما يستند إلى العقل، وما يحقق خيراً للناس وللواقع. وبالتالي فهو يرى أن علم السياسة هو "علم تغيير الواقع الاجتماعي"، والواقع هو الناس، ولكي يتغير الواقع لا بد أن يتغير الناس. مثال على "منطق" الفيلسوف. ومنطقه دائماً هو المشكلة التي أمامه وكيف تحل مهما اختلفت الطرق. 9- ولذلك فمن الطبيعي أن يكتسب فيلسوفنا دقة الترتيب في حياته الخاصة فحسده عليها كثيرون. أوراقه في معظم الحالات موضوعة بنظام معلوم في أدراجها، ومكتبته متوسطة الحجم، لا لأنه ليس قارئاً، ولكن لأنه منذ مدة طويلة أدرك كيف تضيق البيوت بخزائن الكتب أو بأكداسها، فحاول جهده أن يضع الحوائل حتى لا تتسرب الكتب إلى عقر داره إلا بالحد الأدنى، معتمداً في قراءاته على المكتبات العامة ما أمكن ذلك. وعلى رغم كل هذا الحرص تكدست مكتبته وتجاور صفان من الكتب على كل رف ثم توضع فوق الصفين كتب أخرى، وتختلط صنوفها ولغاتها. وكان من عادته أن لا يحتفظ بالرسائل ولا بالصور الفوتوغرافية. فكان يمزقها أولاً بأول إلا ما كان يظن أن الأمر قد يقتضي العودة إليها. ولقد فعلتُ مثله في ما يتعلق بالكتب، فأقوم بإهداء ما لا حاجة لي به إلى مكتبات عامة أو أشخاص يستحقونها، ولا احتفظ إلا بما آراه أنه أهم أو نادر أو مُهدى. وأعود إلى دار الكتب المصرية في ما لا يوجد لديّ. * كاتب مصري. رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق المصرية.