تتمسك الشركات العملاقة للمعلوماتية، في شدة، بتطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية، ويرى كثيرون أن الأمر يعوق انتشار المعلومات والتشارك فيها، وأن الهدف الحقيقي للشركات الاحتكار... وحماية الأرباح. أتت التكنولوجيا الرقمية الحديثة بأدوات "متكاثرة"، يستطيع أي امرئ يتمتع بملكتها وأنّى وجد على وجه البسيطة، أن يصنع بها منتوجاً رقمياً وأن يستنبط منها أدوات مختلفة لأغراض مختلفة. وهنا يكمن الفرق بينها وبين الأدوات والمنتوجات المادية الاستهلاكية التي ما ان تبلى أو تنفد حتى نهرع الى طلب غيرها. أما المنتوجات الرقمية فلا تنفد ولا تبلى، بل "توأد وأداً" للتخلّص منها أو يُبنى عليها، فتذوب في بحر من وليداتها ومشتقاتها. وأصحابها فعلاً أشخاص تفيض من عقولهم أفكار "تتناتشها" شركات يعود اليها وحدها حق ملكيتها. الملكية الفكرية كسيف ذي حدّين، وقضاياها كما تطرح راهناً في مجالي انتاج السلع الرقمية كالبرامج والألعاب وباقي السلع غير المادية وتوزيعها، يذهب ضحيتها، أولاً وأخيراً، المطوّرون والمنتجون المحليون في الدول النامية. ففي حال عدم تطبيق قوانين الملكية الفكرية أو التساهل في تطبيقها في تلك الدول، يستحيل على المطوّرين والمنتجين المحليين ضبط قرصنة منتوجاتهم. وتذهب جهودهم هباءً في محاولاتهم مكافحة أعمال القرصنة، إما باللجوء الى عدالة مفرّغة من هذا المضمون وإما الى أدوات أو نُظم حماية - كال"دونغل" - تكون مكلفة وتعوق انتشار منتوجاتهم. أما إذا طُبّقت قوانين الملكية الفكرية بتشدد، فيصبح المطوّرون المحليون عاجزين عن منافسة المنتوجات المستوردة التي تقف وراءها شركات عالمية غزيرة الانتاج والتوزيع. ويسود الكلام على تشجيع الشركات العملاقة أن تستثمر في البلدان النامية، لكن الشركات تفيض بمنتوجات تستدعي جهداً كبيراً لتفصيلها على قياس المتطلبات المحلية، كبعض البرامج الجاهزة التي يتعذّر أحياناً على مستورديها جعلها تلبّي الحاجات المحلية على أكمل وجه. ولو صمّم البرامج كلياً ومن الصفر، مطوّر محلي لأتت أقرب الى تلبية الحاجة، مع التشديد على وجود برامج محلية راقية الى برامج محلية رديئة. وهذه هي حال البرامج الأجنبية أيضاً. كذلك، تتسبّب الاستثمارات الأجنبية، في مجال المنتوجات الرقمية، بنشوء طبقة من المواطنين لا فضل لهم على دورة الانتاج في بلادهم، إلاّ أنهم يقبضون أموالاً من شركات خارجية، على شكل رواتب عالية ربما، ويصرفونها ضمن الدورة المعيشية في الداخل. وأدهى من ذلك لو كانوا يساهمون في انتاج برامج كومبيوتر، مثلاً، لمصلحة شركات خارجية تنوي تسويقها في بلدهم. ويبدو أن الملكية الفكرية مثار جدل حتى في البلدان المتقدمة، خصوصاً مع تطور المعلوماتية والاتصالات وما يفرضه من أساليب عمل جديدة. لذلك، يرى البعض أن المشكلة باتت تكمن في القوانين الحالية للملكية الفكرية. فمع قيام الانترنت وما تدعو اليه من تحرر مطلق في أنماط التعامل التجاري، ازداد الطين بلة، وانهارت مقاييس ومعايير أمام الأمر الواقع المستجد، وانصاع له بعضها الآخر، فيما تشددت في وجهه جهات أخرى. وكان لمنطق انفتاح الانترنت على مختلف بيئات التشغيل بعض الأثر في صناعة النُظم والبرامج "المغلقة". فظهرت نُظم تشغيل مفتوحة المصدر، كنظام "لينوكس". وغصّت الشبكة بمختلف أنواع المواد المجانية والتجريبية برامج، أدوات، صور، موسيقى...، معظمها متاح لإعداد منتوجات تجارية عليها. في البداية، اعتبرت تلك المواد ضروباً من الترويج الرخيص، الى أن بدأت تشكل نمطاً تجارياً راسخاً، من خلال توضيبها مع خدمات وحاجات أخرى، ضمن زرم "تقديمات" أو عروض جاهزة للتداول. وبات من الممكن جمع خدمات وسلع لا علاقة للواحدة بالأخرى ضمن زرمة عرض معينة، لمجرد إحداث صدمة "إيجابية" لدى المستهلك من جرّاء "غرابة" توليفة الخدمات. إذاً، أخذت طريقة التعامل التجاري تتغيّر أكثر فأكثر، مذ حطّت الأنترنت رحالها. وبدا أثر هذه الأخيرة واضحاً في نزوع الأكلاف الى التدني. ولما كانت الأعمال تعوّل، ولو بنسب متفاوتة، على المعلومات، إحصاءات أو اتصالات أو اكتشاف موارد جديدة أو مورّدين جدد، كان لا بد من أن تزداد الفاعلية والانتاجية لدى الشركات الصانعة، كما البائعة على حد سواء. وما يصح للأعمال يصح أيضاً للمستهلك. فتدنّي الأكلاف يؤدي الى تدني الأسعار، أو هكذا ينبغي أن تدور الدائرة. وما ينطبق على السلع المادية ينطبق أيضاً على السلع الرقمية، كالأعمال الموسيقية والسينمائية المرتفعة الأسعار. وعندما وجدت تلك الأعمال وغيرها من أشكال الترفيه في الشبكة، باتت توزّع من خلالها بأكلاف زهيدة جداً أو حتى مجاناً. وهذا ما أدّى الى نشوء موقع مثل "نابستر" Napster الذي يتيح لملايين أجهزة الكومبيوتر المتصلة بشبكة "ويب" النفاذ الى المواد الموسيقية والغنائية المنتشرة في أرجاء الشبكة. وشكلت هذه الظاهرة نظام توزيع موازياً لقنوات التوزيع التقليدية، أثار حفيظة تلك القنوات. وقريباً جداً ستظهر تقنية لتخزين الأفلام السينمائية في الانترنت وتبادلها عبر أجهزة الكومبيوتر المتصلة بها. كل هذا سيغير الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها تداول المواد الترفيهية وصناعة المعلومات عموماً ومن دون أن يؤثر في الابداع الفني. فكثر من الفنانين المشهورين، وكذلك المغمورين، يعتبرون أن "قرصنة" أعمالهم في بلدان لن تحصل عليها إلا بهذه الطريقة، تشكّل نوعاً من الدعاية الآجلة الثمار، وان موقعاً، كموقع "نابستر" يحقق لهم ذلك. هذه النقطة بالذات تجعلنا نسأل هل للقرصنة التي يندد بها في حدة كبار صانعي البرامج، أي أثر في توسّع انتشار منتوجاتهم؟ وهل لهم دور في "القرصنة الدعائية ذات الأرباح المؤجلة"، ولو بمجرد غض الطرف عنها في البداية؟ وإلا كيف نفسّر ظاهرة الانتشار الواسع، في شمال أميركا خصوصاً، لما عرف بمتاجر "تقويم البرامج" Software Evaluation Stores، في مطلع التسعينات وحتى منتصفها، إلا أنها "قرصنة مشروعة ومنظّمة". في تلك المتاجر كان يحق للفرد اقتناء أي برنامج "أصلي" عبر "استئجاره" بسعر زهيد جداً 10 الى 25 دولاراً أو أكثر، بما يتناسب وسعره الاجمالي. فيثبّته في جهازه كاملاً ثم يردّه الى المتجر في اليوم التالي. وتبقى النسخة في الكومبيوتر لينجز الفرد بها أعماله. ويبقى له الحق في "استئجار" الإصدار الجديد للبرنامج نفسه عند طرحه في الأسواق. ثم خبت تلك الممارسات مع تدنّي أسعار البرامج. الدعاوى القانونية التي ترفعها الآن الشركات صاحبة الملكيات الفكرية، تذكّر بالمعارك التي خيضت ضد أقراص الليزر وشرائط الفيديو، لأنها تدمّر صناعة الموسيقى والأفلام، حتى باتت من المصادر الأساسية لجني الأرباح ومن خلال ممارساتها الحالية في شأن التشدد في تطبيق قوانين الملكية الفكرية و"جرجرة" كل من تطاوله يدها الى المحاكم، يبدو أن الشركات لا تبغي سوى المحافظة على النشاطات التي تدرّ عليها أرباحاً فورية. وهي لا تريد حتى النظر في إمكانات أخرى للتعامل، ك"فرض رسوم اشتراك دورية"، على حد قول جون غايج رئيس قسم الأبحاث لدى "صن مايكروسيستمز"، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "إنترناشونال هيرالد تريبيون". وبينما تحاول المصالح التجارية، من تلقائها وفي شكل "طبيعي"، مجاراة إيقاع تطور الانترنت، متخطية جمود عقلية الملكية الفكرية، وغير آبهة بالدعاوى التي رفعتها وسترفعها في سبيل تقييد السوق القائمة على الانترنت، يخلص غايج الى القول: "المقصود من قوانين حقوق الملكية وبراءة الاختراع أن تعود بالفوائد على أولئك الذين ابتدعوا الملكية الفكرية، أكانت سلعاً رقمية أم مادية. كذلك، توضع القوانين لتعود على المجتمع البشري بفوائد إنتاجه، فلا شيء يأتي من عدم. نحن أيضاً نقف اليوم على أكتاف الذين من قبلنا. ولهذا السبب يجب أن تكون ثمة حدود زمنية لحقوق ملكية آلة أو قطعة موسيقية أو أدبية، كي يتسنّى للآخرين أن يبنوا أو يضيفوا عليها". ويضيف: "إن حلقات أو تجمّعات الملكية الفكرية تنزع الى تجاهل المصلحة العامة وتركّز فقط على ربحها الفوري. إنها تحاول، في استمرار، وفي كل بلد، فرض قوانين صارمة تؤدّي في نهاية المطاف الى إلغاء الاستخدام العادل". والاستخدام العادل طريقة تعامل اخلاقية نموذجية تثمر تعاوناً بنّاء ضمن أطر القانون. وانتفاؤها يجبر المرء على اللجوء الى الاحتيال والالتفاف. وهذا جرم حتى لو كانت الغاية نبيلة. زكي محفوض [email protected]