اهتمت الصحف كثيراً بالدعوى التي أقامها المؤرخ ديفيد ارفينغ ضد دبوراه لبشتات الاستاذة في إحدى الكليات الأميركية عما جاء من اتهامات ضده في كتابها Denying the Holocaust: The Growing Assault on Truth and Memory وضد ناشر كتابها "بنغوين". ولم يقتصر الاهتمام بهذه المحاكمة التي تقام في بريطانيا، على المملكة المتحدة، بل تجاوز إلى دول أخرى، إذ حصلت تغطية واسعة في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى. ويعود سبب الاهتمام إلى أن موضوع المحاكمة يتعلق بقضية طالما أثير النقاش والجدل عليها، وهي قضية المحرقة "الهولوكست" التي ما زال الباحثون والمؤرخون يعطونها نصيباً من البحث والدراسة، إضافة إلى أنها ذات أهمية خاصة لدى اليهود. فهي في نظرهم مسألة لا يجوز المساس بها بالنقد أو التشكيك بعدد ضحاياها. ولأهميتها عندهم كتبوا عنها مئات الكتب والدراسات في مختلف اللغات إلى جانب الأفلام التي انتجوها. وربما كان استعمال الكلمة العبرية "هوشاه" التي تعني الكارثة ب"أل" التعريف هو تعبير عن هذا الاهتمام، فهي تطلق على اليهود الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية. وأخذت هذه الكلمة تدخل القاموس الانكليزي. كما ان المنظمات اليهودية تقوم بكثير من النشاطات للضغظ على الدول لتشريع قوانين تجرم كل من يمس هذه القضية بالنقد أو التشكيك بأحداثها. وحققت هذه المنظمات نجاحاً مع بعض الدول مثل المانياوفرنسا. وهناك محاولات جادة لتشريع مثل هذا القانون في بريطانيا التي سيعلن رئيس وزرائها قريباً عن يوم خاص بالهولوكست 27 كانون الثاني/ يناير ويبدأ العمل به عام 2001. وتقوم هذه المنظمات بملاحقة من تعتقد بمشاركته في قتل اليهود أو المساعدة على ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، وحققت بعض النجاح في هذا المجال، إذ قدم عدد من هؤلاء إلى المحاكمة وأبعد آخرون من البلدان التي يقيمون فيها. وكان آخر هؤلاء كونراد كلجس الذي صدر قرار بإبعاده من بريطانيا قبل فترة قصيرة. وتدعو هذه المنظمات أيضاً إلى عقد مؤتمرات عالمية حول "الهولوكست". وعقد أكثر من مؤتمر في السابق، وسيعقد اثنان على الأقل في هذه السنة، أحدها في نهاية كانون الثاني الجاري في السويد، والآخر في هنغاريا في نيسان ابريل. وبدأت هذه المنظمات منذ سنين باقناع الدول بانشاء متاحف خاصة بالهولوكست، وهناك الآن عدد منها في أكثر من دولة، وسيقام متحف آخر في بريطانيا قريباً. والمؤلفة في كتابها المذكور تعرض لجوانب النقد والتشكيك في قضية "الهولوكست" منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى العصر الحاضر، وهي تسمي هؤلاء الناقدين Holocaust Deniers "منكرو الهولوكست". وهي عبارة تقول المؤلفة إنها هي التي صاغتها. وترى المؤلفة بأن السكوت على هؤلاء "المنكرين" لا يحتمل بعد الآن، إذ أن عددهم كثر وزاد تأثيرهم خلال العشرين السنة الماضية وأصبحوا حركة منظمة بعد أن كانوا في السابق مهمشين لا يعترف بهم أحد ولا يعتد بهم. وهي تذكر عدداً من الاشخاص اضافة إلى ديفيد ارفينغ مثل آرثر بوتز، وتذكر عدداً من المؤسسات التي تنشر نتاج هؤلاء مثل معهد المراجعة التاريخية. وقد انشئ هذا المعهد في السبعينات ونشر الكثير من الكتب والدراسات، خصوصاً ما يتعلق بالحرب العالمية الثانية، ومنها موضوع "الهولوكست". وتقول إن هؤلاء ينكرون موت ستة ملايين يهودي ويعتبرون ذلك خدعة ويشككون باستعمال غرف الغاز لقتل اليهود، وان الغالبية من الموتى اليهود ماتوا بسبب أعمال السخرة والأمراض وان تدمير المدن الألمانية من قبل الحلفاء مثل درسدن أسوأ مما قام به النازيون نحو اليهود. وتقول عن آرثر بوتز بأنه يتهم اليهود باستغلالهم تعاطف الغرب معهم بعد الحرب العالمية الثانية ليطردوا شعباً ويحلو محله وينشئوا دولتهم على أرضه. ويتهم اليهود بسرقة بلايين الماركات من المانيا وغيرها بادعاء التعويض عما لحق بهم في الحرب. وآرثر بوتز الذي تذكره المؤلفة، هو صاحب كتاب ظهر في السبعينات بعنوان The Hox of the Twentieth Century "خدعة القرن العشرين" وكان لهذا الكتاب شهرة واسعة وإقبال كبير من القراء. وتطالب المؤلفة بعدم السماح لهؤلاء بنشر هذه الأفكار من منطلق حرية التعبير - وهو ما يعتمد عليه هؤلاء المراجعون - إذ أن نشر هذه الأفكار، كما تقول، يهدد التفكير العقلاني للمجتمع الغربي، كما أن هذه الآراء تحول التاريخ إلى سياسة. وهي أيضاً تشكك في مؤهلاتهم كمؤرخين وتقول إن الذي يجمع بينهم ليس المراجعة التاريخية، وإنما الكره الصرف لليهود. فهم يصورون اليهود على أنهم جلادون وليسوا ضحايا. وتخصص المؤلفة صفحات عدة من كتابها عن ارفينغ وتقول عنه بأنه مزور للتاريخ وكاذب عليه، وانه يستعمل الأدلة للحصول على النتائج التي يريدها وهو ان كان يعرف الوقائع التاريخية إلا أنه يلويها حتى تتفق مع ايدلوجيته، لأن هدفه من كتاباته سياسي. كما انه بارع جداً في الحصول على المعلومات الأكيدة ثم وضعها بالطريقة التي تتفق مع ما يريد كما في كتابه "حرب تشرشل". وتقول إن الباحثين وصفوا كتاباته بأنها أقرب إلى الدراسات الاسطورية واللاهوتية منها إلى التاريخ. كما أنها تتهمه بخيانة الثقة عندما سمح له باستعمال مذكرات "غوبلز" في موسكو، حيث اخذ صورها إلى خارج روسيا من دون موافقة ومن المحتمل ان يكون دمر بعض هذه الصور. وتنسب له بأنه يقول إن هتلر أراد مساعدة اليهود وانه لم يكن يعرف بخطة الحل الأخير بالنسبة لليهود، وانه يرى بأن هس كان يجب ان يمنح جائزة نوبل لمحاولته ايقاف الحرب بين بريطانياوالمانيا. وان بريطانيا قامت بحرب نفسية عام 1942 بادعائها ان هتلر كان يقوم بقتل اليهود وغيرهم من "غير المرغوب فيهم" بالغاز. وتقول بأن ارفينغ يعتقد بأن هتلر على حق عندما قام بحجز اليهود في معسكرات، لأن حاييم وايزمن صرح عام 1939 بأن يهود العالم سيحاربون النازية. كما يعتقد بأن اليهود كانوا حمقى إذ لم يتخلوا عن فكرة غرف الغاز عندما كان عندهم متسع من الوقت، إذ ان ذلك سبب الكثير من روح العداء لهم، لاستغلالهم "خرافة" الهولوكست. وتقول إن الباحثين وصفوا ارفينغ بأنه من المعجبين بهتلر وأنه يضع صورته على طاولته وانه وصف زيارته لمنتجع هتلر بأنها تجربة روحية. وتذكر أيضاً بأن ارفينغ كان من المفروض ان يحضر مؤتمراً في السويد عام 1992 مخصص ضد الصهيونية وإسرائيل وللعداء للسامية، وكان من المفترض أن يحضر هذا المؤتمر ممثلون عن حماس وحزب الله ولويس فرخان وجماعات بيمات الروسية المعادية لليهود، والغي المؤتمر لاحقاً. وتقول عنه كذلك بأنه يتهم إسرائيل بأنها خدعت المانيا بالحصول على بلايين الماركات. كما انها تنتقد في كتابها صحيفة "الصنداي تايمز" لأنها تعاقدت مع ارفينغ على نشر مذكرات غوبلز "اذ ساعدت على إعادة الحياة لسمعته بعد ان كانت على وشك الاختفاء". كما انها تنتقد الذين راجعوا كتبه اذ لم يشيروا الى آرائه في تشكيكه ببعض جوانب الهولوكوست. وتذكر كذلك منعه من بعض الدول بسبب ارائه مثل استراليا ونيوزيلندا وايطاليا وألمانيا وكندا. رد ارفينغ ديفيد ارفينغ هو مؤرخ بريطاني مشهور كتب العديد من الكتب المعروفة التي تعتمد كمصادر، ومنها تلك التي تتعلق بالحرب العالمية الثانية مثل كتاب Hitler's War وكتاب Churchill's War وكتاب The Destruction of Dressdon وغيرها من الكتب. وهو في دعواه على دبوراه لبشتات وناشر كتابها يطالب بالتعويض عن الضرر المادي والنفسي الذي لحق به. وذكر في أقواله امام المحكمة بأنه كان يحصل على اكثر من مئة الف جنيه استرليني سنوياً من حقوق نشر كتبه ولكن هذا توقف بعد نشر دبوراه لبشتات كتابها المذكور الذي كان له صدى واسعاً في وسائل الاعلام واعطى صورة سيئة عنه. وأخذ الناشرون يديرون ظهورهم له ويخافون منه ويرفضون طباعة كتبه او اعادة طبعها. وكان من ذلك الغاء الناشر الاميركي للاتفاق الذي وقعه معه على نشر كتابه عن "غوبلز". دافع ارفينغ عن نفسه بكونه مؤرخاً جاداً ومعترفاً به وان له سمعة ككاتب باحث ومؤلف اصدر اكثر من ثلاثين كتاباً بدأها بكتابه "تدمير درسدن". وقال ان كتبه نشرت في اشهر دور النشر البريطانية والاميركية، كما انه نشر مقالاته في الصحف والمجلات المعروفة وفي عدة لغات منذ عام 1961. وانه لم يكن يقصد الكتابة عن الهولوكست، "ولكن الموضوع جاء عرضاً عندما ناقشت دعاية هتلر والقرارات التي اتخذها حيث اضطررت ان اكون ما يشبه الخبير في الهولوكست". ويرفض ارفينغ عبارة منكري الهولوكست التي صاغتها مؤلفة الكتاب واستعملتها اكثر من 300 مرة كما يقول، إذ يعتبر كلمة "منكرين" كلمة شريرة وكلمة هولوكست كلمة مضللة ومزعجة وخادعة، بل ومصطنعة وغير علمية ويجب الابتعاد عنها لم يستعمل ارفينغ هذه الكلمة في الطبعة الثانية من كتابه حرب هتلر. ويقول انه لا يمكن لأي انسان يملك كامل قواه العقلية ان ينكر المأساة التي حدثت في الحرب العالمية الثانية، "ولكننا نحن المؤرخين المنشقين" نرى بأن هناك بعض القضايا المتعلقة بهذه القضية هي موضع نقاش وجدل كما ان هناك بعض الجوانب المشكوك فيها ونحن نحاول ان نناقش الطرق والوسائل التي استعملت فيها. كما اننا نريد مناقشة حجمها وأحداثها والتفاصيل الاخرى المتعلقة بها". ان عبار "منكري الهولوكست" التي دخلت اللغة الانكليزية هي عبارة قاتلة لمن يهتم بها فهي كالسم الذي ليس له علاج كما انها تعادل في نتائجها تهمة التحرش بالصغار حيث يصبح المتهم مرفوضاً ومنبوذاً من المجتمع. "انني لست من المنكرين للهولوكست وأرفض ان اوصف بذلك لأنني قدمت الكثير من الوثائق للعلماء والمؤرخين والقراء وهي وثائق اكتشفتها بنفسي وترجمتها ثم نشرتها، وهي وثائق لم تكن معروفة للناس في السابق. كما انني نبهت الى جوانب عدة من الهولوكست. ولكنني انكر ان النازيين دمروا ملايين اليهود بالغاز وأرى ان معسكر اوشفتز كان معسكراً لعمال السخرة كما ان غرف الغاز في هذا المعسكر لم تكن حقيقية وانما بناها البولنديون بعد انتهاء الحرب بثلاث سنين واعترفوا بذلك عام 1995. وانه ليس هناك أدلة اكيدة على استعمال غرف الغاز في معسكرات مثل سوبيبور وتربلنكا وبلتش، ولكن آلاف اليهود كانوا قد قتلوا في شاحنات غاز في سوبيبور". وقال "انني مقتنع بأن المتهمة لم تقم بعملها هذا وحدها من اجل تدمير سمعتي والقضاء على شرعيتي كمؤرخ بل هي جزء من حملة عالمية ضدي وسأطلع المحكمة على وثائق تثبت ذلك عندما يحين الوقت". وهو يتهم بعض الجماعات اليهودية بملاحقته والتجسس عليه. ويقول انه لا ينسى كيف اقتيد في كندا من الطائرة مقيد اليدين "بصورة سيئة وحقيرة للغاية". وبعد سنة من البحث عن اسباب ذلك عثر على وثيقة في ارشيف الحكومة الكندية فيها تلفيق تهمة ضده حيث تذكر هذه الوثيقة ان ارفينغ يتسلم مبالغ من نازيين في جنوب افريقيا وان والد زوجته السابقة كان احد الضباط الكبار في جيش فرانكو. ويذكر انه تعرف على هذه الجماعة اليهودية التي قامت بذلك "وان مقرها في لندن ولا اريد الكشف عنها الآن". ويقول ان ما يقوم به هؤلاء نحوه يشبه عمل الغستابو النازي "وانني مضطر الى استعمال هذه الكلمة على قباحتها لأنني في خضم معركة قانونية شرسة". ثم اخبر المحكمة كيف انه بعد وفاة ابنته الكبرى في ايلول سبتمبر الماضي ان جماعة سمت نفسها باسم "برنامج الابادة النازية" ارسلت له وروداً بهذه المناسبة مع عبارات شماتة "ان كتاب المؤلفة خلق هذا النوع من الحقد الذي اعاني منه، انه شيء غير محتمل". ثم عرج في كلامه على القوانين التي شرعتها بعض الدول بما يتعلق بموضوع "الهولوكست" فقال انها قوانين تثير التساؤل والشكوك اذ انها اعتداء على حقوق الانسان والجماعة واعتداء على حق الكلام وحق الرأي. ففي المانيا يعتبر الشك في حجم الهولوكست او عدد الموتى او الطرق التي ماتوا فيها جريمة لا يحق للمتهم الدفاع عن نفسه فيها". وان لي اصدقاء في سجون المانيا سجنوا بسبب ذلك القانون. اما القانون الذي شرع في فرنسا عام 1991 فهو اسوأ من القانون الألماني اذ يجعل كل من يشكك في جرائم الحرب او بالجرائم ضد الانسانية التي حددتها محكمة نورنمبرغ مجرماً ويعاقب بالسجن او الغرامة او بكليهما، وان بعض اصدقائي هناك غرموا بل وكنت انا قد غرمت مبلغاً من المال بسبب مقابلة اجريت معي من قبل القوى الكبرى الأربع. هذه هي النقاط الرئيسية التي ذكرها "ارفينغ في اقواله ويبدو انه سيذكر اشياء اخرى خلال فترة المحاكمة التي ستستمر ثلاثة أشهر. ومع غض النظر عن مكسبها فإن أكثر من نتيجة ستترتب عليها، فهذه المحاكمة خصوصاً وانها ستكون لفترة ليست قصيرة - ستوسع من دائرة المهتمين بقضية الهولوكست وستتجاوز دائرة الباحثين والمؤرخين الى شرائح اخرى من المجتمع. وهذا سيزيد من الجدل حول الهولوكست بين الناس. وربما ايضاً ستشجع الباحثين الآخرين من الذين يوصفون بمنكري الهولوكست على اللجوء الى المحاكم دفاعاً عن انفسهم خصوصاً اذا كسب الدعوى ارفينغ. وبالنسبة الى ارفينغ فهو سيكسب مادياً في المستقبل وذلك باقبال الناس على قراءة كتبه وشرائها حتى اليهود منهم بدافع المعرفة او الفضول وسيكسب معنوياً بازدياد سمعته وشهرته ليس بين طلاب التاريخ والباحثين فيه بل بين الناس بصورة عامة، وربما ستكون هناك نتائج اخرى سيكشف عنها سير المحاكمة في الأسابيع المقبلة. * كاتب وجامعي عراقي.