يعد الخط العربي باجماع الباحثين والنقاد أبرز الفنون البصرية عند العرب والمسلمين وهو عامل توحيد بصري بين فنون أقوام ذات أصول مختلفة ما أهله لأن يكون عامل توحيد ثقافي بين كل الشعوب المسلمة. والخط له في ذلك وظيفة جمالية ووظيفة نصية معاً، غير أن الخط ومنذ بداية احتكاك العالم العربي والاسلامي بالعالم الغربي تراجع أمام الطابعات الحديثة والحروفالفونت السابقة الصب وبرامج الخط الجاهزة حتى أصبح وجوده أمراً قد لا يكون له معنى أمام زحف الآلة المتسارع. لكن الباعث على الدهشة المشوبة بالحسرة هو قلة الدراسات والأبحاث المتداولة التي تتناول الخط بالدراسات المعمقة. ان فناً رفيعاً كالخط العربي وهو يمثل قمة الفنون عند العرب والمسلمين لجدير بالاهتمام الذي يستحقه ليس من قبل الخطاطين فقط بل من قبل كل المهتمين بالتراث العربي والاسلامي. وعلى رغم وجود بعض الفعاليات الخاصة بالخط العربي كالمعارض الا أنها أشبه ما تكون بالجزر العائمة وسط بحر من اللامبالاة تجاه مصير الخط العربي حاضراً ومستقبلاً. ان ايفاء الخط العربي حقه من الاهتمام يتجاوز بكثير مجرد اقامة المعارض والقاء المحاضرات الموسمية الطابع الى بناء مؤسسات خاصة تُعنى بشأن هذا الفن النبيل وترسخ مفاهيمه في المؤسسات التعليمية التي تعنى بشؤون الخط. يجب أولاً قبل تفعيل الاهتمام بالخط العربي الاقتناع بقيمته كارث حضاري، واذا كانت الشعوب تعتز بتراثها وتحافظ عليه فانه لمن البديهي الاهتمام بالخط وهو يتسنم مكانة رفيعة من مساحة الثقافة العربية والاسلامية عموماً. وفي هذا السياق نود طرح الاسئلة الآتية: تُرى هل الخط العربي مجرد تراث؟ ألا يوجد فيه عبر تاريخه الطويل المتراكم لأكثر من 1400 سنة بل وأكثر من ذلك بكثير، حسب ما ورد في الاكتشافات الحديثة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، أكثر مما هو خط جميل فحسب؟ ألا تكمن فيه تعابير فنية تتجاوز كونه فناً للكتابة الجميلة فحسب. تعابير يمكن الاستناد عليها لاعادة استكشاف مكنون الخط العربي للانطلاق به نحو آفاق جديدة في الكتابة والرسم والعمارة؟. وفي خضم الاجابة عن مثل هذه الاسئلة أتت الحروفية كمدرسة تبنت الحرف العربي كأساس لحركة فنية تشكيلية واعدة سرعان ما اكتسبت زخماً جعلها تتصدر مدارس الفن التشكيلي لفترة من الزمن، وكسائر الحركات الفنية نالت هذه الحركة نصيباً من النجاح وجانبها الصواب أحياناً أخرى. واختلف فنانو هذه الحركة في تعاملهم مع الحرف العربي فمنهم من عامل الموجة ككل وكأنها تصادم لحروف ومنهم من كان خجولاً في تعامله مع الحرف. ومنهم من التزم بالحرف العربي الكلاسيكي ومنهم من حرره من قوالبه الكلاسيكية. وفي مختلف الاتجاهات الفرعية لهذه الحركة بقي الحرف كعنصر بصري هو الأساس الذي يستند عليه العمل الفني. أما النص الذي يحتوي عليه الحرف إن وجد فقلما يتم التعامل معه بالأهمية نفسها التي يتم التعامل بها مع الحرف كعنصر بصري. ونتيجة لذلك أصبحت الحروفية في الدول العربية كأنها الترياق الذي يعيد الى العمل التشكيلي الحديث هويته وأصبح الحرف العربي بمثابة الجسر الذي يربط العمل التشكيلي الحديث بالتراث. هكذا عملت الحروفية على ردم الهوة بين الفن الحديث والفنون البصرية التقليدية في الدول العربية والاسلامية كالزخارف الجدارية والمنمنمات وفنون الكتب والسجاد، وفي كل هذه الفنون كان الخط حاضراً باستمرار. وعلى رغم ما قد يوجه للحروفية من نقد في تعاطيها مع أشكال الحداثة في الفنون التشكيلية، فان مجرد الاشارة الى الخط العربي عبر حروفه عطاء مميز للحروفية. والحروفية على رغم سحرها وبريقها بقيت حبيسة اللوحة الجدارية، وربما ليس من الانصاف تحميلها أكثر من ذلك فهي بطبيعتها محكومة بثنائية الفن التشكيلي عموماً على الأقل في بدايات تعامل الفنانين العرب مع هذا النوع الوافد من الفنون الا أنه يتحتم علينا التساؤل عما اذا كان في مقدور الخط العربي متمثلاً في الحروفية، ان يتجاوز البعد الثنائي للحروفية العربية. والسؤال: ألا يمكن للخط العربي أن يكون منطلقاً رئيسياً لاسباغ قيم حضارية جديدة في العمارة تتجاوز مجرد كونه عبارات تكتب على الحوائط؟ أليس في امكان الخط العربي أن يكون مصدراً جديداً للهوية المعمارية تواجه به حال الاغتراب العمراني الذي تعيشه معظم المدن والحواضر العربية والاسلامية اليوم؟ ويتبادر الى الذهن سؤال آخر يرتبط بما سبق هو: كيف يمكن نقل ماهو جمالي الخط الى ماهو وظيفيالعمارة؟ يتضح السؤال اذا ما عرف أن الخط العربي هو أصلاً ذو وظيفة أساسية ومحددة الا وهي التواصل بالكتابة من قبل الخطاط والقراءة من قبل المتلقي. فالخط العربي هو نص مقروء كتب بشكل جميل، بل إن وظيفة الخط هي أساس وجوده وهي التي سمحت له بالازدهار عبر العصور. فالقراءة والكتابة تمثلان البعد الوظيفي منه بينما تمثل أشكال الحروف وتناسبها، وتشابكها ببعض البعد الجمالي للخط ومتى ما تم تحقيق هذين الشرطين: أصبح النص مقروءاً ومتى ما كتب بشكل جميل أصبح خطاً جميلاً وصار هناك ما يمكن تسميته بالتجانس بين ماهو وظيفي مقروء وما هو ممتع بالبصر. وبطبيعة الحال بعض نصوص الخط العربي ليست مقروءة لذلك فهي مجرد زخرفة قد لا يتحقق فيها شرط التجانس فلا يحس القارئ معها بذلك الايقاع الذي يحس به عند قراءته لنص مقروء. واذا نظرنا الى العمارة فانها وظيفة وشكل أيضاً ومتى ما تمت المواءمة بين الوظيفة والشكل أصبح لدينا عمارة. ومن دون هذا التجانس أو الهارموني بين ما هو جمالي ووظيفي لن يكون هناك عمارة. بل سيكون هناك مبان. وشتان بين هذا وذاك. وعلى رغم قدم الشعار الذي طرح في بداية نشوء العمارة الحديثة وهو: "الشكل يتبع الوظيفة" ورغم تباين الآراء حوله مازال عالقاً في الأذهان والعلاقة بين الشكل والوظيفة في غاية الوضوح في العمارة. ما يغني عن الاسترسال في الحديث عنها، الا أنها في الخط ليست كذلك. الى جماليات التعبير الأدبي والبلاغة التي تحملها نصوص الخط العربي يبقى السر في جمال الخط العربي يبعث السؤال عن الأسس التي يستند عليها، وبالامكان هنا اعادة جماليات شكل الخط العربي، الى مستويات ثلاثة : مستوى تأتي فيه الحروف فرادى كعناصر مستقلة وقد تعددت أشكالها. وفي المستوى الثاني تأتي عملية دمج هذه العناصر الحروف ببعض في الكلمة الواحدة. ويتم في المستوى الثالث دمج كلمات عدة في عبارة واحدة أو أكثر. وهذه المستويات الثلاثة تراتبية تبدأ من العنصر الواحد مروراً بمجموعة قليلة من العناصر التي تشكل الكلمة وتنتهي بعدد كبير من الحروف والكلمات التي تشكل العبارة المراد قراءتها. ونظراً لتعدد انماط الخط العربي فان محصلة البعد الجمالي له في هذه المستويات تكاد الا تنتهي. وهذا أحد مكامن التنوع في جماليات الخط العربي، فالحرف الواحد تتعدد أشكاله بتعدد أنماط الخطوط. وعلى رغم محافظة الحرف على وظيفته لكي يبقى مقروءاً الا أنه في كل نمط يتخذ شكلاً مختلفاً، بل قد يتخذ أكثر من شكل ضمن النمط الواحد. هذا فيما يخص الحرف الواحد. واذا أخذ في الاعتبار وجود أكثر من ثلاثين نمطاً قلماً كلاسيكياً وثمانية وعشرين حرفاً للأبجدية العربية أدركنا مدى الثراء البصري اللامحدود الذي يزخر به الخط العربي. وكل عمل فني محكوم بوسيلة انتاجه ويعتبر التأثير أو الانطباع البصري عنصراً أساسياً في تكوين الخط العربي وانتاجه. ولأن المستويات الثلاثة تلك تراتبية فإن هذه الانطباعات تراتبية أيضاً. ومن مكامن الجمال في الخط العربي كذلك قابلية حروفه وعناصره وطواعيتها لأن تتحور كايقاعات تنسجم مع طراز الخط. ونتيجة لذلك أصبح الخط العربي كما تجسد كثير من اللوحات الجدارية في العمائر العربية والاسلامية وكأنه عملية توليف أو تكوين بصري لهذه العناصر والحروف بأسلوب معين هو نوع الخط. فهو في الخط الكوفي مثلاً خط يابس وقد يكون مورقاً فيصبح انطباعاً أو تكويناً منحنياً. وقد يكون ضخماً أو دقيقاً أو مظفراً. ونظراً للصفة العمودية والهندسية للخط الكوفي صار أكثر الأقلام العربية ملاءمة للكتابة الحديثة التي تعتمد على الآلة، كما أنه القلم المعول عليه ربط الخط بالعمارة نظراً لكون هذه الأخيرة تعتمد على الأسطح العمودية أكثر مما تعتمد على الأسطح المنحنية، أما قلم الثلث سيد الخطوط وأصعبها كتابة فيعطي انطباعات وتكوينات بصرية ذات أشكال منحنية دائماً ويبرز ذلك بوضوح عند نهايات الحروف وعند دمجها ببعض. ويعتبر الخط الديواني من أكثر الخطوط التي تعطي تكوينات منحنية ومستقيمة في الوقت نفسه نظراً لطواعية حروفه للمد والثني فوق السطر وتحته ولإمالة حروفه بدرجات لا توجد في الخطوط الأخرى. ويعتبر خط التعليق هو الآخر من أعذب الخطوط وأدقها تكويناً بسبب النهايات المدببة لحروفه مما يجعل الحرف وكذلك الجملة الواحدة عبارة عن ايقاع حركي يتضخم في الوسط ثم ما يلبث أن يصغر حتى يتلاشى في نهاية الحرف أو الجملة. كما تغيب السنون الزخرفيه في هذا القلم مما يساعد على انسيابيته . أما خط النسخ فهو يعتمد على أشكال الحروف أكثر من اعتماده على تداخلاتها نظراً لكونه خطاً وظيفياً أكثر منه زخرفياً كما هو الحال عليه في الأقلام السالف ذكرها، ولذلك فإن التكوينات والانطباعات البصرية في هذا القلم تبقى في مستوى عناصره وحروفه أكثر مما هي عليه في مستوى الكلمات والعبارات المكتوبة بهذا القلم. وبالامكان تصور تكوينات وانطباعات أخرى خاصة بالخطوط والأقلام الأخرى كالمغربي والأندلسي والطومار وغيرها. واذا كان هذا هو حال الخط فان الانطباع هو احدى القوى المولدة للعمارة وبالامكان تعريف العمارة على أنها تكوين إما فراغي أو حجمي يعتمد على الأسطح أو العناصر أو ما هو مجرد ايقاع متكرر لواحد من هذه الأشياء. كما أن العمارة والخط يشتركان في التزام كل منهما بقواعد التناسب وهي قواعد بعيدة عن الجمود لكنها في الوقت نفسه تتحكم في اعطاء العمل سواء كان خطاً أو عمارة نسبه الجميلة التي لو زاد أو نقص عنها لأصابه العيب والتشوه. وهناك أيضاً سبب آخر يجعل من الخط عامل استلهام في العمارة. وربما كانت العمارة العربية أو الاسلامية من أكثر العمارات التاريخية استخداماً للخط وبالتالي فإن اعادة العلاقة بين الاثنين تعيد الى العمارة أحد أهم مقوماتها على الاطلاق. والأمر يختلف في عمائر كثير من الثقافات الأخرى التي اعتمدت على أساليب فنية أخرى وبالتالي فان انصراف هذه العمائر عن الخط في العصر الحديث له ما يبرره اذ أن الخط لم يكن حاضراً بقوة في عمائرها، وبالتالي فإن الاعتماد على الخط في توليد قيم معمارية جديدة في عمائر الدول العربية والاسلامية ليس شيئاً مستحدثاً بل انه يمثل استمرارية تاريخية وثقافية في آن. وسيعمل بلا شك على ايجاد رابط يوحد بين عمائر تلك الدول. وربما كان ذلك منطلقاً لايجاد نمط جديد من العمارة فيها بحكم الارث الثقافي المشترك. ان تحويل التعابير الفنية في الخط الى عمارة يستوجب تطويع الخط ليلائم استخداماً آخر له مختلف كلية عن وظيفته الأصلية. وهنا تحديداً يأتي دور تجريد الخط العربي الى خطوط ومساحات وعناصر معمارية ثنائية وثلاثية البعد ليصبح العمل المعماري واقعاً وقابلية الخط للتجريد كامنة في مسماه. فالخط العربي على رغم كونه وسيلة كتابة الا أنه في نهاية الأمر خط العمارة أياً كان حجمها تبدأ برسم خط. وبالتالي فالعلاقة ما بين الأثنين تبدو بديهية. واذا كان الخط الكوفي الأوفر حظاً كونه خطُ عموديٌ أكثر من غيره ما يجعله أكثر ملاءمة لمواد البناء وللتقنية الحديثة التي تتخذ من الخطوط المتعامدة أساساً لها، الا أن الخطوط الأخرى لها نصيب أيضاً في عملية النقل هذه وهذا ما يعود بنا مرة أخرى الى موضوع الايحاءات البصرية المصاحبة لعملية الخطوط والبناء كوسيلة مشتركة في عملية النقل هذه. فليس المهم هنا النقل المباشر للحرف الواحد أو مجموعة من الحروف الى عمل معماري ولكن المهم هو نقل التكوين والايحاءات البصرية المصاحبة للخط الى العمارة. ولعل الخطاطين هم أكثر الناس احساساً بذلك اذ أن كتابة عبارة خطية هي في الأساس عملية نقلها الى عناصر ومساحات باستخدام الحروف والتمكن من عملية توليد هذه الايحاءات والايقاعات البصرية سيصبح بالامكان توليد فراغات واشكال ذات ايقاعات متجانسة. وهذا يعطي لمحة لما يمكن أن تكون عليه العمارة فيما لو حاولت بجدية استغلال الطاقات الكامنة التي يختزلها الخط العربي في ثناياه ليس كمادة بصرية جميلة فقط ولكن كمولد لكافة القيم المعمارية من فراغ وكتل وأسطح وأحجام. ونسمع بين حين وآخر أصوات تنادي بوضع ضوابط وقوانين للحد من التشوه الذي تبدو عليه المدن العربية اليوم. وفي العمارة كما في الفن الحل لا يكون في وضع الضوابط والقوانين. وان كانت هذه في حاجة ماسة الى اعادة النظر لكن الحل الأنجع هو في طريقة تناول المختصين مهندسي البناء والمستثمرين والقائمين على صناعة البناء عموماً للعمارة وتذوق العامة لها. اننا في أمس الحاجة الى بلورة مفاهيم جديدة في التعليم والممارسة بمستوى التحدي الذي تواجه به العمارة في مطلع الألفية الثالثة. ومن دون ذلك ستظل العمارة العربية والاسلامية بلا هوية وسيستمر طرح الأسئلة القديمة من جديد. * أكاديمي سعودي، جامعة الملك فيصل كلية العمارة والتخطيط.