على كثرة الدراسات التي ظهرت في لغات عدة لمناقشة ازمة مصر الاجتماعية والسياسية في الفترة من العام 1878 وحتى العام 1882، الا ان تلك المرحلة تظل مثيرة للاهتمام خصوصاً عند اجراء محاولة لتقييم الدور الفاعل الذي لعبه الزعيم المصري احمد عرابي فيها. واخيراً صدرت في القاهرة ترجمة مهمة لدراسة اعدها المؤرخ الالماني الكسندر شولش عن تلك الفترة حملت عنوان "مصر للمصريين"* عرّبها المؤرخ المصري رؤوف عباس عن الترجمة الانكليزية التي صدرت العام 1980. والدراسة في الاصل اطروحة للدكتوراة قدمت الى جامعة "هايدلبرغ" الالمانية قبل اكثر من ربع قرن، لكنها تكتسب اهمية كبيرة لكونها تمثل رؤية مؤرخ اوروبي الى حقبة مهمة من تاريخ مصر من مختلف الزوايا الاجتماعية والسياسية اعتماداً على مصادر قلما تتوافر لمؤرخ واحد، فالى جانب المصادر والمراجع العربية التي يشهد المعرب بدقة المؤلف في استخدامها والاستفادة منها، اتيح للمؤلف الاطلاع على المصادر البريطانية والفرنسية والالمانية والنمسوية فاستطاع ان يضفي على بحثه ابعاداً مهمة. واتبع المؤلف في الدراسة منهجاً فريداً في معالجته للاحداث التي مهدت للثورة المصرية العام 1881- 1882 من بداية الاحساس بوطأة التدخل الاجنبي في شؤون مصر وحتى بداية الاحتلال الفعلي، محللاً الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي لمصر والذي ادى الى ما يعرف في الادبيات التاريخية ب"الثورة العرابية" التي يرى المؤلف عدم مصداقية هذا الوصف عليها وينظر اليها باعتبارها نتاجاً لتطور الحركة السياسية المضادة للتدخل الاجنبي حيث انتقل زمام المبادرة الى ايدي العسكريين، وحجته في ذلك يكشف عنها في المقدمة التي وضعها للطبعة العربية. يؤكد المؤلف ان مصطلح "الثورة" يستخدم في مصر على نحو فضفاض يختلف عنه في المفهوم الاوروبي الذي يعني بالثورة احداث تحول كامل للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد بصورة اساسية، لذلك كله يؤكد الكتاب على الظواهر الاصلاحية للثورة العرابية اكثر من تأكيده على الظواهر الثورية. وفي المقدمة التمهيدية يقدم الكتاب وصفاً تقليدياً للاساس الايديولوجي والبناء الاجتماعي الاقتصادي لمصر عند وقوع الازمة التي يتعرض لها بالتحليل، مشيراً الى ان الاغلبية غير المصرية التي كانت تتكون منها الطبقة الحاكمة في مصر في عصر اسماعيل رأت انه من الضروري ابقاء الفلاحين بعيداً عن السلطة حماية لمصالحهم ومن ثم لم يكن شعار "مصر للمصريين" الذي ارتفع خلال تلك الفترة موجهاً نحو التدخل الاجنبي فحسب بل كان يهدف الى الحصول على نصيب متكافئ من السلطة للمصريين مع الصفوة التركية المسيطرة. ويشدد على ان العمد والذوات في مصر لم يكونوا حلفاء للطبقة الحاكمة كما ظن بعض الباحثين وانما كانوا، بحسب رؤية شولش، خصوماً لهم. وهو هنا يختلف مع الرؤية التي روج لها كل من عبدالرحمن الرافعي وانور عبد الملك وابراهيم ابو لغد والتي تؤكد على ان الارستقراطية المصرية حاولت في سبعينات القرن الماضي او في السنوات الاخيرة منها على الاقل ان تضع حدوداً لحكم اسماعيل الاستبدادي. اما المؤلف فيقول انها رؤية لا اساس لها من الصحة حيث لم يكن للاتراك الجراكسة الذين يشكلون هذه الطبقة اهتمام شخصي بمجلس شورى النواب الذي ظهر على عهد اسماعيل لانه لم يكن يمثل مصالحهم ابداً. اما الفصل الاول فيناقش ما يسميه المؤلف التدخل الاجنبي وبداية عملية تداعي النظام، وهي عملية بدأت مع الازمة المالية التي عاشتها مصر بداية من عصر سعيد وتفاقمت في عصر اسماعيل، وهي ازمة كانت النتيجة الفورية لها احداث اضطراب سياسي في البلاد وادخالها في عملية اعادة التكييف سياسياً واجتماعياً مع الاوضاع الجديدة التي اوجدت ذريعة واضحة للاحتلال البريطاني لمصر العام 1882. ويحمل الفصل الثاني عنواناً دالاً وهو "عام الجيش" حيث يبحث المؤلف عن الكيفية التي اقيم بها نظام سياسي جديد في مصر اقامته الفئات الاجتماعية الوطنية. ويناقش الكتاب مختلف التطورات التي مر بها الجيش المصري في ظل وزارة رياض باشا الذي كانت سياسته الاساسية موجهة ضد مصالح الجيش عموماً والضباط "الفلاحين" بصفة خاصة في الفترة السابقة على احداث مظاهرة سبتمبر 1881 الشهيرة التي قادها الضباط والتي حققت انتصاراً جزئياًَ تمثل في اسقاط وزارة رياض باشا. وابتداء من ربيع 1882 يرصد الكتاب عمليات تشكيل نظام سياسي واجتماعي جديد في ظل وجود خديوي ضعيف على رأس النظام القديم. ومع ظهور مجلس النظام وزارة المستقل استقلالاً عملياً عن الخديوي بدأت عمليات التغيير، ومن خلال هذا المجلس حصل اعيان الريف على لائحة اساسية لمجلس النواب اعطتهم حقوقاً جديدة لرقابة السلطة التنفيذية وكلمة اقوى في مجال التشريع خصوصاً في ما يتعلق بالضرائب واعطاء الامتيازات وبذلك تمكن المصريون من كسر احتكار الاتراك الجراكسة للسلطة. ويؤكد المؤلف ان تلك التغييرات لم تكن من عمل افكار جمال الدين الافغاني "الاب الشرعي للثورة" كما يسميه عبدالرحمن الرافعي، كما لم تكن نتاجاً لدعوة المثقفين المتأثرين بأوروبا من اجل اقامة نظام سياسي جديد لانهم كانوا عاجزين حتى تلك الفترة عن تكوين "جماهير ثورية" لأفتقادهم وسائل الصلة بتلك الجماهير، فالصحافة كانت تخضع للرقابة كما كان عدد من يستطيعون القراءة قليلاً جداً. ويناقش الفصل الثالث مؤامرة الضباط الجراكسة التي نجحت في تصفية كل نجاحات عرابي وصحبه، وبعد رصد دقيق للتطورات التي جعلت مصر تعيش حالة حرب اصبح الخيار خلالها بين توفيق وعرابي، يطرح المؤلف سؤالاً يمثل لب رؤيته الى الاحداث وهو: هل كانت هناك ثورة قادها احمد عرابي؟ وفي حسم لافت يؤكد ان عرابي لم يكن قائداً ثورياً، لكنه كان في كل التطورات التي عاشها مدفوعاً بالظروف والاحداث، فهو لم يناضل من اجل السلطة ولم يكن له مصلحة في ان يفرض على البلاد نظاماً سياسياً بعينه. وبمعنى اخر أسند اليه الدور الذي لعبه ولم يسع هو الى نيل هذا الدور، كما لم يكن مثيراً للفتنة، انما كان يعتبر نفسه ممثلاً للمصالح الشرعية واباً للوطن الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الدولة العثمانية ومن الجماعة الاسلامية التي يرأسها السلطان "امير المؤمنين". وفي سياق تلك الرؤية يشير المؤلف الى نجاح المصريين في تحقيق مطلب "مصر للمصريين" الذي لم يكن شعاراً شوفينياً ولم يحدد على اساس عرقي فبدا وكأنه مدفع الاحداث صوب الثورة. ويشدد المؤلف على ان الاحداث ما بين تمرد الاول من فبراير 1881 وحتى مظاهرة التاسع من سبتمبر 1881 لم تحدث تحولاً جذرياً في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولا في الافكار الاساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في مصر، لكن ما تغير فعلاً هو تكوين الصفوة السياسية والعسكرية ومن ثم احدثت الثورة تغييرات ذات مغزى تاريخي فقط بالنسبة الى الاصول الاجتماعية للصفوة الحاكمة فلم يعد الجيش والجهاز الاداري يخضغان لسيطرة الاقلية غير المصرية. لكن الفكرة الاكثر اهمية التي يؤكد المؤلف عليها هي ان الهدف وراء احداث الثورة لم يكن اقامة دولة قومية مصرية مستقلة لأن عرابي لم يكن "قومياً" عربياً او قومياً مصرياً.