منذ بضع سنوات، حصد الفيلم الأميركي "فورست غامب" ست جوائز أوسكار، فاتجهت الأنظار الى مؤلف الفيلم، أو لنقُل مؤلف الرواية التي استوحى فيها الفيلم، لإلقاء اللوم عليه في ما اعتبره بعضهم إساءة أو تزويراً للأحداث الخاصة بتاريخ المجتمع الاميركي التي يتناولها الفيلم، لكن المفاجأة كانت أن معظم من حاول الإشارة الى المؤلف لم يكن يعرف اسمه، فحاله كحال بقية الأدباء المعاصرين الذين يفيدون فن السينما بقصصهم أو مواضيعهم فيما لا يحصلون على جماهيرية أو شهرة مكافئة من متفرجي السينما، لا سيما وقد اعتاد هؤلاء على تركيز اهتمامهم حول الممثلين والمخرجين، أي على العناصر البراقة إعلامياً في الفيلم. لكن بشكل أو بآخر، ولحسن حظ المؤلف، أخذ بعض المهتمين يفتشون عن اسمه منذ النجاح الساحق ل "فورست غامب"، ولو كان هذا التفيش ذا دافع فضولي. كتب وينستون غروم عشر كتب من بينها "أوقات أفضل من هذه" التي تدور حول حرب فيتنام، و"خيوط المجد" التي توثق لجهود الجنرال جون بيل هود لانقاذ الكونفيديرالية في نهاية الحرب الأهلية الاميركية، إلا أن أهم أعماله الروائية تظل سلسلة كتبه عن "فورست غامب" و"غامب وشركاؤه" و"غامبيزم"، وكلها تتضمن بطلاً على النمط الطفولي يحمل اسم فورست. ومثل أعماله السابقة على هذه السلسلة، نجد في رواياته ميلاً تقليدياً لترسيخ حكمة أخلاقية ما، لكن بطريقة ساخرة، ومع طرح مواضيع متعلقة بالدين والنزعة الوطنية والمعتقدات الشعبية بحرية نادرة، وذلك من زاوية ترى تلك المواضيع جزءاً كجزء من عالم "اميركا فورست غامب" أي من زاوية تعكس الاشياء كمرآة فكاهية. الرواية الجديدة "فتاة جميلة.. جميلة" تحول مفاجئ في أسلوب الكاتب لكن مع الأخذ في الاعتبار أن الخطاب الأخلاقي لا يقل فيها بل يتخذ نهجاً تقليدياً أكثر من خلال ميزان العدالة الذي يملك اليد العليا في عالم الجريمة حيث تتشكل الرؤية اعتماداً على مفاهيم الثواب والعقاب، والمذنب والضحية، ما يؤدي الى صياغة عبرة أو موعظة ختامية للرواية من واقع المعتقدات الاخلاقية، تلك المعتقدات التي تعتبر الرواية بالنسبة اليها مشيدة كأمثولة أو كنموذج يفيد لتقويم الفرد والمجتمع. تدور رواية "فتاة جميلة .. جميلة" حول مقتل "مارلو" و"آرتشر" الذي يفتتح الأحداث كحال معظم الروايات من هذا النوع، وعلى نهج المسار التقليدي المتوقع ننتقل للتعرف إلى شخصية المفتش البوليسي الذي يقع على عاتقه حل اللغز، وهو جوني لايتفوت الذي تختلف شخصيته عن المفتشين أو المخبرين الذين نعرفهم بدليل إلحاح المؤلف على وصف حذائه المطاطي بما يحمله ذلك من دلالة رمزية، جوني، في الأساس، كاتب سيناريو حاصل على جائزة الأوسكار، يقيم في فندق في بيفرلي هيلز ولديه جناح آخر في فندق كارلايل في نيويورك، أي أنه شخصية قادمة من عالم السينما وخارجة على النمط المعتاد للمفتش البوليسي، بالإضافة إلى أنها تعكس قدراً كبيراً من السخرية، سواء في شكلها أو عاداتها وممارساتها. ومن هنا يبزغ سؤال منطقي: كيف يضحي جوني براحته ورفاهيته من أجل مهنة البحث البوليسي ذات العائد غير المضمون؟ والجواب على هذا السؤال يأتي من خلال تقنية الفلاش باك التي باتت من ضرورات كتابة الرواية البولسية، فمن خلال الرجوع الى الوراء نكتشف السبب الذي دفعه الى اتخاذ هذه المهنة فقد لجأت إليه ديليا جيميسون مذيعة الاخبار التلفزيونية الجميلة المتزوجة لكي يتقصى لها عن مجهول يرسل لها خطابات تهديد طالباً منها القيام بحركات مثيرة اثناء تقديمها الفقرة الاخبارية على الهواء، وبما أن ديليا كانت متخوفة من أن اللجوء إلى الشرطة ربما ينتج عنه تسريب للموضوع الى الصحافة فضلت اللجوء الى جوني الذي وافق بحماس شديد بعدما استشعر قبولاً منها من الناحية العاطفية. ومن خلال دراسته خطابات التهديد الموجهة الى المذيعة الجميلة، بدأ كاتب السيناريو والمفتش المغمور في تركيز الشبهات على عشاقها السابقين، مثل رجل البنوك والاستثمار في وول ستريت، جون باتنام ثاتشر، وسيناتور في الكونغرس، ومحام من شيكاغو له ارتباطات بالجريمة المنظمة. وفيما يجوب مفتشنا البلاد محاولاً العثور على هؤلاء، اصبحت صورة المذيعة الجميلة بالنسبة إليه أقرب الى النسخة الأنثوية من "دوريان غراي"، ذلك الذي يرمز الى النرجسية وعشق الذات بسبب إيمانه بجماله الفائق حتى أنه يتعبد صورته التي لا تشيخ مع تقدم الزمن، وشيئاً فشيئاً يتضح أن ديليا ليست بالبراءة التي كان يعتقدها وتحديداً بسبب علاقاتها السابقة مع وول ستريت والكونغرس وعصابات شيكاغو. ومع توغل الرواية في هذا العالم يبدو المدخل الأولي الخاص بالتنقيب في مقتل آرتشر ومارلو مجرد ذريعة للدخول الى قصة المخبر نفسه، تلك التي تعكس نقداً لاذعاً لآليات المجتمع الأميركي ولأبرز شخصياته المتحكمة في المال والاقتصاد، لكن خلال نسيج يقترب كثيراً من كوميديا "فورست غامب"، أي بالابتعاد عن أي خطاب اجتماعي نقدي مباشر وإنما بالاعتماد على صناعة أحداث تبدو شخصياتها غالباً مثل أبطال حكايات الأطفال الكرتونية. في هذه الرواية ينجح مؤلف "فورست غامب" كثيراً في غزل اللغز والإثارة والتشويق محققاً مقتضيات النوع الفني، مضيفاً إليه لوناً جديداً مرتبطاً بشخصية "وينستون غروم" الفنية. وتظل المشكلة التي تواجه مؤلفنا اذا استكمل الطريق في الرواية البوليسية معتمداً على جوني لايتفوت المخبر - الشخصية الأساسية في سلسلة من روايات الجرائم، هي تصويره شخصية بطله بطريقة شديدة السخرية الحذاء المطاطي على سبيل المثال كإشارة الى طبيعة الشخصية وأسلوب حياتها، ما يجعل من الصعب الاعتراف به كبطل قادر على حمل سلسلة من الروايات في عيون القارئ، فإذا استمر في حل ألغاز الجرائم من دون عائد مادي فإنه سيكون في حاجة إلى بُعد إنساني أعمق في شخصيته، والى مبادئ مهنية وأخلاقية تفسر محبته لخدمة الآخرين، من ناحية أخرى، ينقص التوازن في روايته الأخيرة بالنسبة الى صورة المرأة، فنموذجه ديليا يبدو في البداية غاية في الذكاء لكننا لا نلبث أن نكتشف أن ذكاءها مخصص لأغراضها الماكرة بوصفها امرأة متسلطة لا تعوذها الحيلة للوصول الى غايتها مهما كان الثمن، أما الصورة الأخرى للمرأة فلا وجود لها. وكما كان الحال في سلسلة روايات "فورست غامب"، لا ينجو أحد من نقد وينستون غروم، بداية من المدافعين عن البيئة وحتى رجال وول ستريت الذين يجسدهم "ثاتشر" صاحب التهديدات الحقيقي الذي أراد الدفاع عن مصالحه وحماية بنكه من خطر ديليا وابتزازها له. لكننا في النهاية نعتقد أن مسألة البحث عن المجرم وضرورة حصوله على العقاب ليست هي المحور الحقيقي للرواية، فهي ذريعة شكلية وفنية لنقد المجتمع وتقديم نموذج مصغر للفساد من خلال خطاب أخلاقي يتبناه منذ زمن طويل، والرهان الذي يواجهه الآن هو: ألا ينتقص خطابه هذا من أفقه الفني الساخر، ويحده بطاقة عدائية موجهة نحو كل أوجه الخلل دفعة واحدة؟ أما صلاحية "فتاة جميلة.. جميلة" للتحول الى فيلم سينمائي فهو ما سيجيب عنه الوسط السينمائي قريباً محدداً اذا كانت "الفتاة" على القدر نفسه من دهشة وخيال "فورست غامب".