لم يسبق لرئيس حكومة اسرائيلي ان قوبل وصوله الى سدة الحكم، من الجانب العربي، بذلك القدر من الايجابية التي كانت من نصيب ايهود باراك. لكن الاشهر القليلة الماضية، منذ الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، ربما عادت بتلك الايجابية الى نقطة الصفر، وتركت شعوراً بخيبة الأمل مقيماً، سببه ان استجابة رئيس وزراء الدولة العبرية الجديد، لم تكن في المستوى الذي كان مأمولاً، ناهيك عن الاشتباه في ان التعاطي معه، خلال الاطوار المقبلة للعملية السلمية، لن يكون بالأمر الهين، وان الرجل، وإن كان بالتأكيد اكثر جدية من سلفه نتانياهو، الا انه لن يكون اقل منه تصلباً في عدد من الجوانب الأساسية، هي بالتحديد تلك التي تمثل جوهر عملية التسوية. بطبيعة الحال، ما كان يمكن للجانب العربي الا ان يراهن على ايهود باراك في مواجهة سلفه الليكودي، ذاك الذي كان يجمع الى تصلبه في التفاوض، تطرفاً من طبيعة ايديولوجية، وكذباً ونكثاً بالوعود والتعهدات كانت تجعل التعامل معه امراً في حكم المستحيل. لكن تلك المراهنة العربية على باراك تجاوزت حدها حتى باتت تلوح تهالكاً، لا يكاد يضبطه ضابط. فإذا كان ما يشكو منه البعض ويأسف له من فصل بين المسارات، اعتبر من بين عوامل الضعف العربي، وهي عديدة، قد بات يهدد بالتحول الى ما هو ادهى منه وأمرّ، اي الى تسابق بين المسارات، برزت نذره بوضوح خلال الأسابيع القليلة الماضية، حذراً ومهاترات بين سورية والسلطة الفلسطينية تخصيصاً. والأنكى في ذلك انه بإمكان رئيس حكومة الدولة العبرية الجديد ان يعلن انه في حل من تبعة كل حماسة عربية تجاهه. فالرجل لم يعد بشيء ولم يكد يتعهد بشيء، وهو عندما تحدث عن حرصه على احلال السلام وعلى اعادة اطلاق العملية التسووية، فعل ذلك تعميماً. وهو عندما خصص، او اقبل على ملفات بعينها، لم يبد كبير مرونة، او هو لم يبد مقاربة تختلف جذرياً عن تلك التي كانت لسابقه. صحيح انه يزمع اعادة تحريك المسار السوري ومعه اللبناني واعداً باستئناف المفاوضات من حيث توقفت في عهد رابين، ومبرهناً بذلك على استجابة لشرط سوري اساسي، غير انه ما لبث ان اتضح ان تل أبيب ودمشق معاً ربما كانتا على اختلاف كبير في تحديد نقطة التوقف تلك. وصحيح ان مجيء باراك لا يمكنه الا ان يعيد بعض الحيوية الى الشق الفلسطيني من عملية التسوية، على اعتبار ان الجمود الذي بلغته الأمور في عهد نتانياهو لا يمكنه، بحال من الاحوال، ان يتأبد، لكن امتناع رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد عن تنفيذ اتفاق واي ريفر ذلك الذي وقَّعه المتطرف نتانياهو! ومحاولته ربط الانسحابات التي ينص عليها ذلك الاتفاق بترتيبات الحل النهائي، يشير الى ان المفاوضات مع السلطة الوطنية مقبلة على مصاعب عسيرة. هل يعني ذلك ان لا فارق بين عمال وليكود، او بين يسار ويمين اسرائيليين، وانه اذا ما وجد من بعض تمايز بينهما فهو لا يتعلق الا بالأسلوب، وباللفظ على ما يقول رأي على قدر من الشيوع بين نخبنا؟ ذلك كلام اذا ما اخذنا به وتوقفنا عند ترداده، نكون قد اكتفينا بنظرة الى الأمور بالغة التبسيط وضربنا صفحاً عن تاريخانية اسرائيل، وهي بداهة تعنينا الى ابعد الحدود وأكثرها حسماً، محيلين الأمر الى ضرب من جوهرانية في صلب "الكيان الصهيوني" لا تحول ولا تزول، صماء عن كل تطور يشهده الواقع الاقليمي والعالمي. فما لا شك فيه ان الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة قد تكون احدثت تحولاً كبيراً داخل اسرائيل وعبّرت عنه بجلاء، هو ذلك المتمثل في اندحار القوى الايديولوجية، في نظرتها الى الكيان، ممثلة في حزب ليكود ومن ماثله من التوجهات الاخرى التي تشترك معه في تلك الطينة، وان اختلفت عنه، الى هذه الدرجة او تلك، تطرفاً او بعض "اعتدال". وهي واقعة اذا ما كان عديد المراقبين والمحللين قد بادر، في الإبان، الى تبيّنها والتوقف عندها، الا ان اشكالاً او خلطاً، يبدو انهما قد قاما حول كيفية تأويلها، حيث ذهب الرأي السائد الى ان الانتخابات المذكورة قد استحدثت خطاً فاصلاً واضحاً بين قطاع من الرأي العام الاسرائيلي، يمثله ليكود ومن مالأه، لا يزال عصياً على كل تسوية، وبين قطاع، هو الذي اصبح غالباً، بات يسلم بفكرة التسوية، وأكثر جنوحاً الى السلام، او هو ما عاد يحل الصراع مع الجوار العربي موقعاً مركزياً طاغياً في انشغالاته. يبدو ان الامور، على ما دلت تجربة ايهود باراك خلال الأسابيع القليلة الماضية، وعلى ما قد يؤكده مستقبل الأيام، ليست على هذا النحو، ذلك انه اذا ما كان خط الانقسام ذاك الذي سبقت الاشارة اليه ماثلاً بالفعل، فهو قد لا يكون قائماً بالضرورة بين قطاع من الاسرائيليين يرفض التسوية وآخر يقبل عليها او لا يستبعدها، بل ربما كان بين تيار ايديولوجي يرى بأن عملية اقامة الكيان لم تستكمل بعد، وهو بالتالي يسبّق الاستيطان على كل ما عداه، ويحل مسألة السلام مع الدول المجاورة منزلة دنيا بين اهتماماته او يعتبرها تكتيكية. وهو ذلك التيار الذي عبر عنه نتانياهو على اجلى صورة. وبين تيار ربما بات يرى ان الكيان قد استُكمل بناؤه، او ان ذلك ما عاد يتطلب الا بعض اللمسات الاخيرة، وان الهاجس الأساسي الآن انما يتمثل في فرض الدولة العبرية جزءاً من النسيج الاقليمي، ومكوّنا يتمتع بأقصى درجات القوة بين مكوناته، وتلك مهمة قد لا تكون التسوية وترتيبات السلام الا بعض اوجهها وأدواتها، لا كل اوجهها بالضرورة. وإذا ما صح ذلك، فإنه قد يعني ان ايهود باراك ربما كان بصدد العودة الى طرح فكرة الشرق اوسطية من جديد، ولكن ليس على ذلك النحو الطوباوي الذي سبق لشمعون بيريز، ان روَّج له، في حمأة التوقيع على اتفاقات اوسلو، تجمعا اقليمياً، اقتصادي الوجهة يتآلف حول تحقيق الرخاء، ولكن كحيز استراتيجي يكون لاسرائيل بالتحالف مع تركيا ربما موقع اللب فيه. وفي هذا الصدد، ربما كان نجاح رئيس الوزراء الاسرائيلي، لدى زيارته واشنطن، في اقناع الولاياتالمتحدة بالاكتفاء بدور "المسهّل" للمفاوضات لا الطرف الضالع في تفاصيلها، بمثابة التفويض والمباركة. والحقيقة ان الظرف ربما كان ملائماً الى أبعد الحدود لمقاربة كهذه يزمعها باراك. فسورية اضعف من ان تقف في وجهه، مبدية جنوحاً الى السلم ومتخلية عن دعمها للمنظمات التي كانت تناصب التسوية العداء. ومصر يبدو انها أُخرجت من دائرة التأثير في شؤون المنطقة، وهي تتردد بين محاولة العودة اليها من خلال ابداء التفهم تجاه مواقف باراك من اتفاقية واي ريفر، وبين التفكير في الانضمام الى اتحاد بلدان المغرب الكبير. وأما الفلسطينيون، فهم على وهن معلوم بما لا يحتاج الى اسهاب، وأما مزاعم المقاومة المسلحة، فحدث ولا حرج. يمكننا ان ننحو باللائمة على ميزان القوى العتيد والمشؤوم في كل ذلك، خصوصاً انه يساعد على التستر على العجز في فهم واستكناه التطورات الجارية ووجهتها.