بين المشاكل الكبرى التي تعاني منها المنطقة العربية أن فيها أعلى معدلات الخصوبة في العالم، وأعلى معدلات النمو السكاني، مما يجعل القضية السكانية قنبلة موقوتة بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وازدياد الفقر، وارتفاع البطالة وانحسار الفرص التعليمية والصحية، وتوجه الشباب نحو التطرف والعنف في غياب الرؤية الذاتية لمستقبلهم. فإذا لم تتخذ القرارات الجريئة بتغيير المسار التنموي وتأمين الخدمات الأساسية لكل الفئات السكانية المحرومة، فإن المستقبل العربي سيكون أسوأ مما هو عليه الحاضر. وقد حان الوقت للكف عن الاختباء وراء ذرائع التقاليد والثقافة والحضارات التي تعوق برامج التوعية الضرورية لمعالجة المسألة السكانية، ذلك ان المعركة الحقيقية ليست مع مفاهيم الغرب وحضارته "المرفوضة" وإنما هي معركة واقعية الأرقام والاحصاءات التي تنذر الأجيال المقبلة بمآسٍ إذا بقيت الحكومات والهيئات غير الحكومية ومجالات القطاع الخاص والاعلام غير واعية لآفاق الأزمة السكانية وبمقدار التحديات. كنقطة انطلاق، يجب الاعتراف بأن عدداً من الدول العربية شرع في برامج عديدة لتنظيم الأسرة، وتثقيف الشباب والمراهقين حول الصحة الانجابية، وإشراك المنظمات الأهلية في حملات التوعية، ووضع الاطر العامة للسياسة السكانية، واجراء دراسات وبرامج مسح ميدانية للأوضاع السكانية. وهناك برامج ومبادرات لمجلس التعاون الخليجي، كما لجامعة الدول العربية، تتراوح بين برامج تنمية القدرات المحلية لتحل مكان العمالة الأجنبية، وبين برامج تحديد الأوضاع الصحية للأطفال بهدف وضع كل دولة برامجها الملائمة لتحسين الخدمات الصحية المقدمة للطفولة. كذلك، فيما كانت أكثرية الدول العربية اعتمدت الفصل بين المسألة السكانية والمسألة التنموية، استدرك بعضها مساوئ هذا الفصل وبدأ يتبنى سياسات وبرامج تنموية وسكانية ذات منهج يضم البعدين الاجتماعي والاقتصادي. وفيما حدث تقدم في بعض الدول العربية، ما زالت السياسات الرسمية دون ما تتطلبه المعالجة الضرورية للأزمة السكانية في المنطقة العربية. في مرحلة الثمانينات والتسعينات حدث ترد في الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، مما أدى إلى ازدياد الفقر والبطالة وانخفاض ميزانيات الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية. ووصلت نسبة البطالة في بعض الدول العربية إلى 35 في المئة من الفئة السكانية القادرة على العمل. وخلال العقود القليلة الماضية حدثت زيادات سكانية في المنطقة العربية لا سابق لها في تاريخها، فارتفع حجم السكان من 5.92 مليون نسمة عام 1960 إلى 132 مليوناً عام 1974 ثم إلى 247 مليون نسمة عام 1994، أي أن زيادة 100 مليون نسمة تحققت في فترة عشرين سنة. ومن المتوقع أن يصل عدد سكان المنطقة إلى 450 مليون نسمة عام 2020 وإلى 514 مليوناً عام 2025. المعدل الحالي للخصوبة في المنطقة العربية ما زال من أعلى معدلات الخصوبة الاجمالي في العالم مما ساهم في إبقاء معدل النمو السكاني من أعلى المعدلات في العالم أيضاً. وهذا ينعكس بصورة مباشرة على ازدياد أعداد الفقراء، ولهذا النمو علاقة سلبية مع التقدم في الأمن الغذائي في المنطقة. والأثر الأهم هو على الشباب. فالزيادة السكانية في المنطقة، ونسبة 50 في المئة منها من الشباب دون سن العشرين، تعني ان الشباب هم الفئة التي ستتأثر سلباً لافتقادها الخدمات التعليمية والصحية وعدم توافر فرص العمل لها. وفي غياب العمل وارتفاع نسبة البطالة تجد هذه الفئة نفسها مهمشة تلتهي بالقضايا السياسية بغضب وإحباط مما يؤدي إما إلى الانخراط في الحركات المتطرفة تعويضاً عن التهميش، أو الانحراف إلى استخدام المخدرات هروباً من الواقع. فإذا كان نصف النمو السكاني من الشباب 50 في المئة من النمو الذي حدث منذ عام 1960 فهذا يعني ان هناك 135 مليون شاب عربي يحتاج إلى فرص عمل. إضافة إلى ذلك، ان نسبة الفقراء في المنطقة العربية ارتفعت من 4 في المئة عام 1985 إلى 14 في المئة عام 1994، في الوقت الذي انحسر فيه الأمن الغذائي وبات العالم العربي يستورد غذاءه بدل أن ينتجه. فالعرب ينتجون حوالى 48 في المئة من حاجاتهم إلى الحبوب، وأكثر من 50 مليون عربي لا تصلهم المياه الصالحة للشرب، فيما لا يتمتع نحو 30 مليوناً بالخدمات الصحية الأساسية مثل العيادات الريفية والصحة الوقائية. وحسب احصاءات عام 1997 فإن 13 في المئة من العرب البالغين يعانون من البطالة، وصادرات الدول العربية غير البترولية تساوي صادرات فنلندا وحدها فيما عدد سكان فنلندا 5 ملايين فقط مقابل 272 مليون نسمة عربية. إضافة إلى ذلك، نسبة الأمية تبلغ 60 في المئة في بعض الدول، معظمهم من النساء، وفي العالم العربي أكثر من 60 مليوناً من البالغين أميين. وحسب السيدة ثريا أحمد عبيد، مديرة دائرة الدول العربية وأوروبا في "صندوق الأممالمتحدة للسكان"، أول امرأة من الخليج سعودية تترأس هذا البرنامج، إذا كان العالم العربي سيتجاوب لاستيعاب عدد الشباب الذين يصبحون في سن العمل، فإنه "يحتاج إلى ايجاد 5.2 مليون فرصة عمل جديدة سنوياً"! مشاكل العمالة والبطالة لا تختلف في المنطقة العربية باختلاف الدول، ذلك أنه في منطقة الخليج مثلاً المشكلة ليست الحجم السكاني الكبير وإنما قدوم العمالة الأجنبية بأعداد كبيرة تساوي في بعض الأحيان عدد المواطنين أو تفوقهم. وقد اعتمد مجلس التعاون الخليجي على مستوى القمة كانون الثاني يناير الماضي الإطار العام للسياسة السكانية لتنمية القدرات المحلية، لتحل مكان العمالة الأجنبية والحد من العمالة الأجنبية حسب المهارات غير الموجودة في المنطقة. وتقول السيدة عبيد إن "صندوق الأممالمتحدة للسكان" ساعد عمان، مثلاً، "في صياغة سياسة سكانية تلائم احتياجاتها لليد العاملة المواطنة"، كما "بدأنا التعاون مع قطر عن طريق الدعم بخبرات فنية أولاً لدراسة امكانية وضع تصور سكاني". كذلك هناك مسح ميداني لكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي يعطي معلومات حول المؤشرات السكانية المختلفة. ومع الجامعة العربية، تضيف عبيد، بالتعاون مع برنامج الخليج لدعم منظمات الأممالمتحدة والاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة "أنهينا مشروع صحة الطفل في 9 دول عربية غير خليجية، الهدف منه تحديد الأوضاع الصحية للأطفال بهدف وضع كل دولة برامجها الملائمة لتحسين الخدمات الصحية المقدمة للطفولة. وسنبدأ هذا الشهر تكملة لمسح أحوال الأسرة العربية اجتماعياً واقتصادياً، بمعنى تقديم معلومات محددة حول خصائص الأسرة العربية، من الدخل إلى عدد الأطفال وأنواع الأمراض والخدمات المقدمة والخدمات المطلوبة والمستوى التعليمي وما تحتاجه من خدمات خاصة في المجال الصحي بما فيها الصحة الانجابية". مثل هذه الجهود يصطدم أحياناً بمواقف سياسية لدول أو مجموعات اقليمية تبرز في مؤتمرات دولية على نسق الدورة الخاصة الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمراجعة ما تم انجازه خلال 5 سنوات منذ اعتماد برنامج العمل الخاص بالسكان والتنمية في القاهرة. القضايا الخلافية دخلت في عدة خانات، بينها، ان يكون تنفيذ الاجراءات مشروط بسيادة كل دولة وبالقوانين الوطنية والأولويات التنموية مع الاحترام للقيم الدينية والاخلاقية والخلفية الثقافية لكل دولة، مع الالتزام بحقوق الإنسان العالمية. بعض الدول فسر ذلك على أنه مدخل لتنفيذ ما تشاء من الاجراءات وبعضها قال إن الحقوق الانجابية ليست مطروحة ضمن حقوق الإنسان، فيما قالت دول أخرى إن الصحة للجميع وحق لكل البشر، والحقوق الانجابية ضمنها. الغرب قال إن الشباب والمراهقين لهم الحق في الخدمات الانجابية كلها وبالسرية بين الطبيب والمراهق دون سن 18، فيما قالت الدول الإسلامية إن الأسرة يجب أن تكون على علم بالصحة الجنسية للمراهق وأن تتحمل مسؤولية الاشراف على المراهق. بعض الدول الإسلامية وقف مع الفاتيكان في موضوع الاجهاض، فيما يسمح معظم الدول الإسلامية بالاجهاض في حال الخطر على صحة الأم. كذلك في موضوع استخدام الحبوب لمنع الحمل في حالات الطوارئ حدث اختلاف بين المعسكرين، علماً بأن هذه الحبوب تستخدم في حالات الحروب والنزاعات المسلحة حيث أصبح الاغتصاب جزءاً من أدوات العنف المسلح. ويجدر بالذكر ان مصر تنتج هذه الحبوب وان شيخ الأزهر اعطى فتوى فيها. أما في قضية التوعية الانجابية والجنسية، خصوصاً للمراهقين والمراهقات، فقد كان رأي العرب أن التثقيف الجنسي يدل الشباب على طريق التفتح باكراً في القضايا الجنسية، فيما كان الرأي الآخر ان التوعية ضمن برامج تربوية عن طريق المؤسسات والجمعيات تخفض معدلات الحمل بين المراهقات، والمعرفة تؤدي إلى الخيار الصحيح وتنبه إلى أخطار الأمراض. بعض الدول، مثل ليبيا والسودان، تبنى المواقف الأكثر تطرفاً باسم الحفاظ على الهوية الإسلامية وتحدياً لما يعتبره هيمنة القيم الغربية. هذه المواقف المتطرفة غير الآخذة في الاعتبار النواحي الإنسانية والتنموية تناقضت بصورة واضحة مع مواقف إيران، الجمهورية الإسلامية، التي حصلت على جائزة الأممالمتحدة للسكان بسبب تبنيها مواقف عملية واجرائية لتنظيم الأسرة ونشر التوعية على كل المستويات، وتوجيه المراهقين وتعليم الأهل والقيادات المحلية الصحة الانجابية والجنسية. يضاف إلى ذلك، انه في كثير من المواقف المتطرفة ليست هناك مرجعية إسلامية، ذلك انه ليست هناك في الإسلام مواقف مبدئية من الاجهاض، والإسلام لا يحمّل المرأة المظلومة وزر الاغتصاب لها، واعمال العقل للحكم هو أحد أهم المبادئ في الإسلام. لذلك، فإن ثقافة "الممنوعات" التي تحجب عن الشباب والمراهقين الارشاد والثقة في زمن المعلومات عبر التلفزة والانترنت، ثقافة بائسة غير واقعية وقصيرة النظر، ثم ان هناك حاجة لتغيير النظرة إلى الأم العربية من استهلاكها إلى تقديم أحسن الخدمات لها واحترام حرية الخيار عندها. وعند معالجة الأزمة السكانية في المنطقة العربية من الضروري اعتماد سياسات سكانية بقرارات حكومية رسمية وببرامج تنفيذية تخصص لها الموارد وتعالج حقوق العمال، بما في ذلك العمالة الأجنبية غير العربية، على الأقل بتقديم الخدمات الأساسية لها، وإلا فإنها بؤرة خطرة على المجتمع. ثم ان خفض التزايد السكاني مهم بالطبع، إنما التوجه نحو معالجة ذلك التفاوت الضخم بين الاثرياء والفقراء فائق الأهمية، لأن انحسار الطبقة الوسطى محفوف بالمخاطر. وأخيراً، فإن القضية ليست فقط قضية موارد وفقر وافتقاد الوعي السكاني لأخطار المسألة السكانية، انها أيضاً قضية فساد. لذلك فإن الحاجة ماسة لنظم اقتصادية يعتريها بعض الشفافية والمحاسبة، والمسألة مصيرية وليست هامشية