الرواية - السؤال تشبه لحظة الولادة وإعادة بناء العالم، لذا فهي شديدة التكثيف والصعوبة ويجب أن نبحث لها عن مسميات جديدة وأجهزة استقبال مختلفة، ذات حساسية عالية. ولعلّ رواية من هذا النوع "المسرنمون" * تختلف عما مر بنا من روايات. وحتى في حالة الدخول في علاقة حب مع العمل فلن نخرج بمحصلة من الثوابت والقناعات. مع ذلك وعلى رغم صعوبة المرتقى فإن هذه القراءة ستحاول، على طريقتها، أن تعبد طرقاً يمكن من خلالها التسلل الى عالم "المسرنمون". سأبدأ الشجار مع هذه الرواية من خلال المشهد الاستهلالي لها. صحيح ان هذا المشهد يبدو صغيراً إلا أنه مشهد بانورامي يحمل بين ثناياه الكثير من الخصائص الجوهرية للعمل. وأوضح خصيصة لذلك المشهد "النهايات المشتركة" لأشخاص الرواية. المشهد بين كمال ومحمد ليلة رأس السنة، كلاهما رمز لما سيحدث لشخصيات الرواية من فقد ورحيل وموت وشذوذ وكلاهما أيضاً وصل الى شاطئ العدم مبكراً. المشهد نقطة إضاءة قوية للرواية، يمكن من خلاله تصور وتخيل ما سيحدث. الزمن: ليلة رأس السنة قبل الفجر. زمن غائم ملامحه غير محددة. ذلك الزمن ستتحرك فيه شخوص الرواية وأحداثها حتى نهايتها. المكان: غرفة كمال القديمة. قريبة من البحر وغارقة في الفوضى والقذارة. مؤشر للمكان غير المحدد الملامح والملائم لهذه الشخصيات القلقة الباحثة عن طريق. خصيصة ثانية في المشهد من خلالها نعرف البناء الفني للرواية. المشهد مصاغ بشكل حوار شعري شديد التكثيف ومرتكز على مهارة في إقامة بناء روائي. الخصيصة الثالثة، الانقسامات والاختلافات بين شخوص الرواية. وعلى رغم ذلك نجدهم يتجادلون بهدوء، كما لو أن الجميع أدرك سلفاً نتائج الرحلة وأهدافها وعدم جدوى الوسائل. خصيصة أخرى، وهي الرغبة في السؤال الدائم والتلذذ باسترجاع ذكريات وأحداث ماض لم يمّحِ. انتقل الى درب آخر في الرواية، وأعني به البنية الفكرية. ولا شك أن كثافة عالم "المسرنمون" يعود بجذوره الى بنيتها الفكرية الثرية واغترافها من الأفكار الفلسفية على اختلاف مدارسها، وخصوصاً الفلسفات الروحية الشرقية. ذلك يدفعنا للسؤال، أهي رواية أفكار؟ أم هي رواية اسئلة محملة بأفكار يبحث لها اصحابها عن إجابات؟ الأرجح أنها رواية "سؤال" أو اسئلة وبالضرورة هذه الأسئلة تحمل أفكاراً تؤرق وتمض حامليها. هذا النوع من الروايات نادر في الحركة الروائية المصرية وشحيح للغاية، ربما بسبب توجس الروائيين أن يسقطوا في فخ روايات الأفكار. وهذا يرجع للأرث الروائي الذي جعل ما يسمى الحياة / الشارع، الأساس في عمل الروائي. وثمة سبب ثانٍ هو عدم قدرة الكتّاب المعاصرين على كتابة هذا النوع الذي يحتاج قدراً كبيراً من الصبر والمهارة الفنية والسيطرة على البناء الكلي للرواية. وسبب آخر، وقوع الروائيين في المشترك والعام. كل مجموعة من المبدعين تظهر في مرحلة زمنية معينة يكون بينها في الغالب بعض المشتركات. سواء في المضمون أو الرؤيا أو التقنية والألفاظ والجمل. هذا أمر طبيعي. ولكن توجد حالات تخرج عن السياق المشترك و"المسرنمون" مثال ونموذج لذلك. هذا الخروج عن المناخ الروائي السائد، يعني أنها لا تتطابق مع القيم الروائية ولا تتماشى مع بعض الثوابت والرواسم التي كثر استعمالها. هذه القصيدة الروائية "المسرنمون" تبحث بدأب عن مصائر الشخصيات وتطرح اسئلتها الخاصة إزاء الحياة والإنسان. يغوص الراوي / الكاتب في عالم الشخصيات، يحللها ويقف عند نقاط القوة والضعف، يلج العوالم الباطنة، يغربل المتناقضات ويحاول إعادة الاتساق والتوازن المفقودين. ولا يدعي الراوي / الكاتب الوصول الى جوهر الحقيقة، أو اليقين الأعمى فلا أحد يعرف البدء / الختام. إذا كانت "المسرنمون" رواية أفكار - اسئلة - فهي أفكار واسئلة نابعة من واقع حي خصب ومعقد. أفكار تعبر عنها مجموعة من الشبان الباحثين عن مصائر وطرق جديدة لأنفسهم وللآخرين، وللمكان الذي يعيشون فيه. تلك الأفكار والرؤى في الرواية تتسق مع البناء الفني المتماسك غير الممل. وهذا ملمح جوهري. فالتفكك كان يمكن أن يحدث في مثل هذا العمل لو لم يكن الكاتب على وعي بفنية الرواية وعالمها الداخلي والمفترض أن يعلو قليلاً أو يتساوق مع مضمون العمل. البحث عن هوية ملمح فارق في هذا العمل، معظم شخوص الرواية تبحث عن هويات ودروب جديدة للروح. محمد مثلاً، تبحث عن أب وهوية: "سأقول لك من أكون حقاً إذا كنت تهتم لذلك. أنا كلب الشوارع الذي تعرفه، يرميه الصبيان بالطوب". ليس محمد وحده الذي يرى نفسه كلب شوارع بل أيضاً رحاب التي ستصبح زوجته والحائرة بين رغبتها في الثراء وفقد إنسانيتها وبين حياة بسيطة على غرار البنات، تنظر الى نفسها على أنها "مجرد كلبة جاءت من الشارع" كذلك شخصية ناجي الفنان القبطي الشاعر بالاغتراب بسبب هويته الدينية وعذابه من حب فاشل مع الفتاة المسلمة رحاب. ينتهي به المطاف بأن يشي بصديقه أشرف ثم اعتزل العالم. أما أشرف فشخصية ثورية متمردة على ما هي عليه، متطلعة الى عالم جديد يشارك في تخطيطه "عندما يختار المرء لنفسه فإنه يختار للبشرية كلها معه" وينتهي به المطاف بأن يلقي بنفسه من الطابق الخامس. حتى مريم الثرية الخليجية، هاربة هي الأخرى من بلدها، كي تجد الاستقرار في مكان آخر ومع أناس مختلفين. كل أو معظم شخوص الرواية، مهمومون بوجودهم، شخصيات قوية وضعيفة في الوقت نفسه. بداخلها صلابة وحماسة البداية واستسلام وخنوع النهاية والحياة داخل إطار الممكن والمتاح. كائنات شقية بلا ريب، تساط بذاتها وبمن حولها، كائنات السؤال وترفض الحياة الجاهزة ونتطلع الى قانون أخلاقي ومعني شامل للحياة والإنسان. حيال شخصيات كهذه يشعر القارئ بالقلق ونبض الحياة وفداحة السؤال وعواقب التمرد والثورة. الاستاذ كمال "نبي الكلام وحامل مفتاح الكنز المسحور" استاذ فلسفة ومناضل ثم كائن عدمي في آخر المشوار. شخصية محورية في الرواية. ويمكن القول إنها فجرت السؤال والتساؤل لدى معظم الشخوص ثم اختارت عن طواعية أن تأخذ ركناً لاحتساء الجعة في بيت الثرية "مريم". بدت شخصية كمال على رغم ما يحيط بها من غموض وشاعرية واضحة منذ البداية غير أن التصاق جلال، ناجي، محمد، والراوي بها، أعاق معرفتهم بملامحها. بالإضافة الى الهالة التي وضعوا الشخصية فيها. وبالتالي فإننا - لا نندهش إذا كشف أشرف البعيد عن جو الشخصية سرها وعقدها النفسية وضعف إيمانها. فكمال مجرد قروي فقير حاول أن ينتقم من العالم بشكل ثقافي زائف، إنه "آخر الديناصورات الغبية" كما قال عن نفسه. وتظل لهذه الشخصية حيويتها ودورها الفاعل في تحريك شخصيات الرواية ولو من دون وعي منها أو ضد رغبتها حتى بعد انسحابها الذي كان متوقعاً وحتمياً. وعلى رغم أن جل الشخصيات لم تجن الكثير في رحلتها للبحث عن الحقيقة والمصير، إلا أنها سعت للعذاب ورفضت التدجين والنمذجة، "كان الدين متاحا واضحاً وجازماً فلفظناه، وكانت الأسرة واقعة يومية للاغتراب والعذاب فشطبنا عليها، وما تبقى لنا غير الكلام.. والحب". أفضت نتيجة السعي الى لا شيء تقريباً، فالمصدر الذي دفع للسؤال والمعرفة، ضعيف هش وهو لم يكن يؤمن جدياً بما يقول، إنه ممتلئ بالانقسامات الداخلية "من تظنني؟ أنا لست أنا. هناك شخص آخر يسكنني، لا شخص واحد. بل مئات يتنازعون هذا القلب". كان طبيعياً أن تصل هذه الشخصية الى العدم، وكان طبيعياً أن تكون كل ثمارها جافة غير مستساغة مثل كلمات صاحبها الطنانة التي تحوي مأساة الأسرة والفقر والإحساس بالنقص. ظهر هذا في اعترافه لأشرف، المناضل الرومانتيقي الذي أراد تحرير الذين حوله من كسل الأحلام الشعرية التي لا نفع فيها. وهو منذ البداية استنتج ضعف كمال وحيرته ومحاولته للاختباء خلف الكلمات والشعارات. وفترة الاعتقال القصيرة أثبتت ذلك: "طول ليالي الاعتقال وأنا أفكر في جدوى الفعل". لقد شك في جدوى ما يقوم به مع أول اختبار فعلي لقوة الإرادة والمقاومة. اعترافاته المطولة لأشرف، تبين بقوة الحيرة والقلق العدمي، حتى وهو يحكي عن تجربته في مقاومة الفقر وانعزاله المبكر عن بيئته ورغبته في الانتقام من ثري القرية وابنه اللذين حاولا إذلاله، كلها كانت ردود فعل وليست أفعالاً أصيلة. تجربة حبه الغائمة مع الثرية "مريم" هي أيضاً امتداد لحيرته واضطرابه وعدم قدرته على اتخاذ قرار. تلك الشخصية وصلت الى مرحلة العدم والشذوذ، ويبدو هذا من خلال المثلية الجنسية في المشهد الأول من الرواية. لم يتبق لهذه الشخصية، سوى الهروب أو السكون المريح. هناك ملمحان في "المسرنمون" ينبغي أن أتوقف عندهما: أولاً: دخول الشعر في السرد، وهذا خاص بفنية الرواية. والدخول هنا له مساران. المسار الأول، وجود مقاطع شعرية، كان الراوي يسترجعها، سواء من شعره هو أو من شعر صديقه "محمد". المسار الثاني، تغليف الراوي / الكاتب، للسرد بفقرات الاختراق الشعري، بغية كسر حدة الأفكار والرؤى والابتعاد بالقارئ عن الملل من الرواية أو عدم تغليب المضمون على فنية العمل وبنائه. لقد خلقت هذه الاختراقات الشعرية للسرد الروائي نوعاً من شاعرية الرؤى والأفكار. ويمكن أن نقول إنها رواية أشبه بالسؤال المصاغ شعرياً أو قصيدة روائية لها عالمها الخاص الشائق. الملمح الثاني، علاقة الرواي / الكاتب بالعمل، ويظهر الراوي مجسداً في فقرات قليلة، فلا نعرف عنه سوى أنه يحكي الرواية من مكان ناء "شرم الشيخ". شاعر فاشل "وحكيم الجيل" كما اسماه جلال في رسالته الأخيرة للرواي. وهذا الأخير اتخذ قراراً برعاية الطفل خالد بن محمد ورحاب اللذين اختفيا وقد فر الرواي من عالمه الى مكان بعيد. السؤال الذي راودني هو، هل من الممكن أن يختفي الكاتب نهائياً من العمل / الرواية، تاركاً شخوصه يتكلمون ويفعلون وهو في حالة حياد؟ أليس هذا الصنف من الروايات خبرة حياتية للكاتب أو نوعاً من كتابة المذكرات الروائية، حيث نجد الكاتب "يعود" الى ماضيه ليمسك به؟ أليس الكاتب في مثل هذه الحالة يخلط الذكريات وتداعي الخواطر مدعياً إنها أمور متخيلة، أو يلبس هذه الذكريات والخواطر شخصيات فيستر حقيقة أنها تصوره هو، ليوحي للقارئ بأنها أمور تتعلق بأشخاص آخرين؟ الإجابة التي قد تبدو ممكنة أن الكاتب لا يستطيع كلياً الانفصال عن العمل / الرواية. فكل شخصية أبدعها الكاتب، تحمل جزءاً منه، والكاتب في عمله يظهر ويختفي ولكن لا يحتجب نهائياً. في نهاية قراءتي أقول إن "المسرنمون" رواية تطرح السؤال وتبحث عن الحقيقة والمصير ومعنى الحياة من خلال شخوصها الساعية الى رأب الصدع بينها وبين العالم. * المسرنمون، حسني حسن، ط1 1998، دار شرقيات - القاهرة.