محافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية يرفع التهنئة للقيادة    "الرياض" ضيف شرف معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    وزير التعليم يرفع التهنئة للقيادة بما تحقق من منجزات تعليمية    وزارة التعليم تستعرض منصاتها في معرض تونس الدولي للكتاب 2025    بيان مشترك لوزير المالية ومدير عام صندوق النقد الدولي ورئيس مجموعة البنك الدولي بشأن سوريا    أبها تتغطى بغطاءها البنفسجي    مواقع أجنبية: الهلال يبعث برسالة تهديد لرونالدو    وزير الصحة: تطبيق نموذج الرعاية الصحية الحديث أسهم في رفع متوسط عمر الإنسان في المملكة إلى 78.8 عامًا    تركي بن محمد بن فهد يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة ما تحقق من إنجازات في مسيرة رؤية المملكة 2030 بعامها التاسع    ريال مدريد ينتقد اختيار الحكم الذي سيدير نهائي كأس إسبانيا    للمرة الثالثة على التوالي ..الخليج بطلاً لممتاز كبار اليد    بيراميدز يحقق ما عجز عنه الأهلي    زيلينسكي: أوكرانيا تريد ضمانات أمنية أمريكية كتلك التي تمنحها لإسرائيل    وزير "البيئة" يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة صدور التقرير السنوي لرؤية المملكة وما تضمنه من إنجازات    مجلس الأعمال السعودي - الأمريكي يستضيف فعالية تواصل استثمارية رفيعة المستوى    الرئيس التونسي يزور جناح جامعة نايف بمعرض تونس للكتاب ويشيد بجهودها في تعزيز الأمن العربي    «أماني» تحصد الدكتوراه برسالة متميزة    القبض على باكستانيين في المنطقة الشرقية لترويجهما «الشبو»    محمد العرفج يُفجع بوفاة والدته    الاتحاد السعودي للطيران الشراعي يُقيم معسكرًا لفئة النخبة    نائب أمير تبوك: رؤية المملكة 2030 حققت قفزات نوعية وإنجازات    موعد مباراة الهلال في نصف نهائي دوري أبطال آسيا للنخبة    أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة من منجزات في الأعوام التسعة الماضية    عام 2024 يُسرع خُطى الرؤية السعودية ويسجّل إنجازات استثنائية    بلدية محافظة ضرية تطرح 8 فرص استثمارية    ثانوية الأمير عبدالمحسن تحصد جائزة حمدان بن راشد    قطاع بارق الصحي يُنفّذ مبادرة "صحة الفم والأسنان"    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُقيم فعالية "متلازمة داون"    مستشفى أحد رفيدة يُنفّذ "اليوم العالمي للتوحد"    "عبيّة".. مركبة تحمل المجد والإسعاف في آنٍ واحد    مدرب الأهلي: جماهيرنا سندنا لتخطي بوريرام التايلندي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف يلتقي مديري عموم الفروع    غدًا.. انطلاق أكبر فعالية مشي في المملكة «امش 30»    في الدمام ( حرفتنا حياة ) ضمن مبادرات عام الحرف اليدوية 2025    "حديث المكتبة" يستضيف مصطفى الفقي في أمسية فكرية عن مكتبة الإسكندرية    إمام المسجد الحرام: الإيمان والعبادة أساسا عمارة الأرض والتقدم الحقيقي للأمم    إمام الحرم النبوي: حفظ الحقوق واجب شرعي والإفلاس الحقيقي هو التعدي على الخلق وظلمهم    تنفيذ ورشة عمل لاستعراض الخطط التنفيذية للإدارات في جازان    بيولي: هدفنا الآسيوية وجاهزون ليوكوهاما    هيئة تطوير وتعمير المناطق الجبلية بجازان تستعرض مشروع زراعة أشجار الصندل في "أسبوع البيئة 2025"    مبادرة لرعاية المواهب السعودية في قطاع الجمال    الشيخ صلاح البدير يؤم المصلين في جامع السلطان محمد تكروفان الأعظم بالمالديف    مخاطر في الذكاء الاصطناعي    مملكة الخير والإنسانية    تقلص الجليد القطبي    خشونة الورك: الأسباب.. التشخيص.. العلاج.. الوقاية    اللواء الودعاني يدشّن مشاريع تطويرية لتعزيز قدرات حرس الحدود    رئيس نادي الثقافة والفنون بصبيا يكرّم رئيس بلدية المحافظة لتعاونه المثمر    محافظ صبيا يشيد بجهود رئيس مركز العالية ويكرمه بمناسبة انتهاء فترة عمله    محافظ صبيا يكرم رئيس مركز قوز الجعافرة بمناسبة انتهاء فترة عمله    بلدية صبيا تدعو للمشاركة في مسيرة المشي ضمن مبادرة #امش_30    ذكاء اصطناعي للكشف عن حسابات الأطفال في Instagram    بناءً على توجيهات ولي العهد..دعم توسعات جامعة الفيصل المستقبلية لتكون ضمن المشاريع الوطنية في الرياض    أكدا على أهمية العمل البرلماني المشترك .. رئيس «الشورى»ونائبه يبحثان تعزيز العلاقات مع قطر وألمانيا    لبنان.. الانتخابات البلدية في الجنوب والنبطية 24 مايو    ملك الأردن يصل جدة    10 شهداء حرقًا ووفاة 40 % من مرضى الكلى.. والأونروا تحذّر.. الاحتلال يتوسع في جرائم إبادة غزة بالنار والمرض والجوع        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توضيحات عن المانيا والهجرة . تحولات جديدة طرحت مسائل التعددية والهوية والاندماج الاجتماعي
نشر في الحياة يوم 30 - 07 - 1999

تابعت باهتمام سلسلة التحقيقات التي نشرتها "الحياة" بين 20/4 و6/5/199 تحت عنوان "الهجرة والمهاجرون من منظور أوروبي"، ووجدت فيها كثيراً من الفائدة. فالمساهمات المختلفة تطرقت لمواضيع الهجرة الأساسية كسياسات الاندماج والتعددية الثقافية والمشاركة السياسية، وعرضتها على قدر كافٍ من الموضوعية آخذة في الاعتبار مختلف وجهات النظر، كما أنها أعطت بقدر الامكان لمحات تاريخية عن الهجرة تساعد على فهم المواضيع المطروحة.
واللافت ان التحقيق عن المانيا يختلف كلياً عن بقية التحقيقات، لتجاهله قضايا الهجرة الأساسية وكثرة المعلومات الخاطئة فيه وسلبيته التي تكاد تصل حد المعاداة. وقد كتب المحقق نفسه إحدى الافتتاحيتين للسلسلة عالج فيها الوضع الأوروبي، فتبين عدم اطلاعه على الموضوع، إذ أن التحقيقات اللاحقة تنفي كلامه. فهو يعمم صورة مجحفة بحق الأوروبيين، إذ يتكهن بنضهة اليمين في أوروبا على اثر نجاح يورغ هيدر في مقاطعة كرنتن في انتخابات محلية في النمسا. بيد أن غالبية الانتخابات التي حصلت أخيراً في أوروبا تبيّن العكس. ويدعي أن القائلين بخطورة المهاجرين على أوروبا يشكلون غالبية الحكام الأوروبيين، وهذا ما يفسر رفضهم اعتبار بلدانهم بلدان هجرة على مثال كندا والولايات المتحدة، متجاهلاً بذلك كون الغالبية الساحقة في البلدان الأوروبية تمتلك قوانين للهجرة وتسعى حكوماتها لدمج المهاجرين. ويتحدث من دون تحديد عن هوية لأولاد المهاجرين يرفضها الأوروبيون، وعن الأعمال العنصرية التي يتعرضون لها، ليصل أخيراً إلى الاستنتاج التالي: "وبدت أوروبا على ضوء ذلك معادية للمهاجرين أكثر منها متعاطفة معهم".
أما عن المانيا فيقول إن العمال الأجانب أتوا في الستينات والسبعينات بسبب المعجزة الاقتصادية. وهذا غير دقيق لأن هجرة اليد العاملة الأجنبية توقفت عام 1973. ويقول إنهم ساهموا بإعمار البلاد بعد الدمار الناتج عن الحرب العالمية الثانية. وهذا إن صح لفرنسا وانكلترا مثلاً، فهو لا ينطبق على المانيا اطلاقاً. ويلخص قضية الأجانب بنقطتين: الأولى اتهامهم بارتكاب الجرائم، والثانية منافستهم لليد العاملة المحلية. وهذه مواضيع كانت مطروحة في نهاية الثمانينات بشدة، أما الآن فالاهتمام ينصب على قضية الاندماج كما الحال في بقية الدول الأوروبية. ويتهم الحزب الديموقراطي المسيحي ببث الدسائس في الشارع ضد الأجانب، بينما العديد من نوابه يطالب باندماج الأجانب علناً. وهذا تجنّ على حزب كبير لا يحتاج إلى الخبث والأساليب الملتوية. فرنامجه ليس فقط معلناً بوضوح، بل شكل القاعدة لحكمه مدة 16 عاماً.
ويتهم الألمان بتجنب غالبيتهم التعامل مع الأجانب وعدم نصرتهم في حال الاعتداء عليهم، متناسياً تظاهرات مئات الألوف من الألمان ضد أعمال العنف التي تعرض لها الأجانب بداية التسعينات. فتظاهرة برلين عام 1992 على سبيل المثال، ضمت أكثر من 300 ألف شخص. والسلسلة البشرية التي ربطت بين مدينتي أولم وميونيخ ضمت عشرات الألوف من البشر. وأخيراً وليس آخراً يتهم قسماً مهماً من الشعب الألماني بخفة العقل عندما يقول: "ولكن المشكلة ان قسماً مهماً من الألمان يمكن استقطابه بسهولة وراء الاضاليل والمواقف الديماغوجية التي يروج لها بعض قوى اليمين والجماعات النازية". وهذا افتراء مجاني كذبته الانتخابات الأخيرة في أيلول سبتمبر الماضي التي قضت على الائتلاف المسيحي الليبرالي الذي حكم 16 عاماً وأتت بالتحالف الجديد بين الاشتراكيين والخضر إلى الحكم. وحاول الحزب المسيحي الاجتماعي في ولاية بايرن توظيف موضوع العداء للأجانب في حملته الانتخابية من دون فائدة. في المقابل رفع الاشتراكيون والخضر شعارين رئيسيين هما مكافحة البطالة وتسهيل تجنيس الأجانب، ففازا بالانتخابات بأكثرية 20 مقعداً في البرلمان الاتحادي.
أما ما كتبه عن اللجوء السياسي وسياسة الدولة بهذا الشأن، فيفتقر إلى المعلومات الصحيحة وما ورد من هذا القبيل في المقابلات التي أجريت مع اخصائيين في برلين لم يجد مع الأسف طريقه إلى تحاليل المحقق. لكل ذلك يقتضي الأمر تصحيح الصورة.
الهجرة من منظار أوروبي
نظر الأوروبيون إلى الهجرة في بادئ الأمر نظرة اقتصادية بسبب حاجتهم إلى يد عاملة تساهم في إعادة الإعمار، وتواكب لاحقاً النمو الاقتصادي. ومع تراجع معدلات الانجاب أصبحت نظرتهم اقتصادية ديموغرافية، فعلى الهجرة تغطية النقص في هذا المجال. ومنذ البدء كانت للدول التي اعتمدت قوانين هجرة نظرة اجتماعية للموضوع أيضاً، إذ حاولت تأمين أفضل الشروط الممكنة لتحقيق اندماج الأجانب. وفي الستينات عندما ازدادت أعداد المهاجرين وعجزت الاطر المتبعة حتى هذا الوقت عن مواجهة الوضع الجديد، أصبح الاندماج مشكلة لم ينته حلها حتى يومنا هذا.
وتتميز المانيا عن بقية الدول كونها رأت لمدة طويلة وحتى نهاية السبعينات في الهجرة البعد الاقتصادي فقط. ولم تتكل على الهجرة لسد النقص الديموغرافي الذي بدأ يظهر منذ منتصف الستينات، لأنها اعتمدت على اللاجئين الألمان العائدين من رومانيا وروسيا وكازاخستان، الذين هاجروا إلى تلك البلاد قبل 300 سنة. ورفضت حتى أواخر السبعينات التعرض للبعد الاجتماعي لاعتقادها بأن اليد العاملة ستعود تلقائياً إلى بلادها. أما الآن فجميع الدول الأوروبية تتطلع إلى الهجرة من منظار اجتماعي يضاف إليه منظار سياسي بدأ يفرض نفسه منذ منتصف الثمانينات.
يركز المنظار الاجتماعي للهجرة أساساً على قضية الاندماج التي ترافقها أو تناقضها - وذلك حسب اختلاف المفاهيم - قضية التعددية الثقافية.
في المرحلة الاستعمارية سادت نظرية التعددية الثقافية بشكلها العنصري، فكانت المستعمرات تقسم إلى قطاعين أحدهما حديث يضم المجالات الاقتصادية التي تهم المستعمر والتي تستغل بأحدث الطرق والتي يشرف عليها طاقم محلي تم تعليمه وتأهيله على يد المستعمر، وثانيهما تقليدي ذو اقتصاد متخلف وتحكم علاقاته العادات والتقاليد والأنظمة القديمة. وكان إذا تم الحديث عن الهجرة يقصد هجرة الأدمغة، أي الفئات المنتمية إلى القطاع الحديث. مع الاستيراد المكثف لليد العاملة غير المختصة أمت ملايين من القطاع التقليدي أوروبا، ولم تعد التعددية الثقافية تعني للتعايش مع الجامعي التركي الآتي من اسطنبول مثلاً، بل مع الفلاح التركي الآتي من الاناضول.
في المرحلة الاستعمارية انتقلت أوروبا إلى العالم الثالث وخلقت مجالها الحديث. أما بعدها فقد انتقل العالم الثالث إلى أوروبا ويحاول خلق مجاله التقليدي. وهكذا أصبحت أوروبا تواجه موضوع التخلف في عقر دارها بينما كانت المواجهة سابقاً بعيدة عن بلدانها.
بعد صراعات دامية دامت مئات من السنين توصلت أوروبا إلى شكل يضمن تعايش مختلف أنواع البشر ضمن مجتمع واحد. ويستند هذا الشكل على القيم والحقوق الإنسانية. أما الآن فالمهاجرون من العالم الثالث يطالبون باسم القيم الإنسانية نفسها بالمحافظة على هوية ثقافية واجتماعية مختلفة تتناقض أحياناً كثيرة مع مقومات المجتمع الأوروبي الديموقراطي. يحاول السجال القائم حالياً تحديد أشكال التعددية الثقافية من خلال ايجاد ردود على الأسئلة المطروحة يومياً في مجال البحث مثل: هل التعددية الثقافية تعني السماح بختان المرأة؟ أو تسمح بتعدد الزوجات؟ هل تسمح باحتلال المجال العام المفروض ان يكون محايداً من قبل الرموز الدينية مثل الحجاب؟ هل تسمح بمفاهيم ثقافية اجتماعية تهدد أسس المجتمع العلماني كالتي يحملها الإسلاميون الهادفون لإنشاء الدولة الإسلامية، أم أنها تعني فسح المجال للحفاظ على اللغة والدين والعادات طالما أنها لا تتناقض مع الأسس التي يقوم عليها المجتمع... الخ؟
التعامل مع هذه الأسئلة يضع النظام الديموقراطي على المحك، إذ يرغمه على اختبار صلاحية مفاهيمه وتطويرها أو التخلي عنها. وتبلور حتى الآن اتجاهان: الأول يعتبر استيعاب الهجرة ممكناً من خلال تعميق المفاهيم الديموقراطية، وبالتالي فالهجرة تغني الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا هو الاتجاه السائد.
والثاني يرى في الهجرة تهديداً للخصوصية الأوروبية بعنصريتها وحضارتها وهو موقف أقلية تشكل خطراً ليس فقط على المهاجرين بل، وفي الدرجة الأولى، على المجتمع نفسه.
المنظار الآخر هو السياسي، ويتناول موضوع ضعف الدولة القومية ونتائجه. فعلى اثر انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، انتشرت العولمة بخطى سريعة أدت إلى انحسار دور الدولة القومية في عدة مجالات أساسية في المجتمع تبرر أصلاً وجودها. فلم تعد تمتلك القرار النهائي في القضايا الاقتصادية التي يتم رسم خطوطها في الشركات العالمية الكبرى. فتحرك رؤوس الأموال وحتى انتقال قطاعات انتاجية كاملة من بلد إلى آخر، كما حصل مع قطاع النسيج الألماني الذي انتقل بأكمله إلى البلدان الشرقية لم يعد خاضعاً لمشيئتها. وبالتالي لم تعد تتحكم بنتائج هذه القرارات بشكل فعلي، فتجد صعوبة في معالجة مشكلة البطالة المتزايدة مع ما يرافقها من انحلال لعلاقات اجتماعية كانت مهيمنة حتى الآن وتجب إعادة صوغها. وينعكس ذلك على السياسة، إذ تبيّن عجز الدولة القومية منفردة عن حل هذه المسائل وضرورة بناء كيانات سياسية أوسع للقيام بهذه المهمة، وهذا هو مضمون مشروع الوحدة الأوروبية. وينطبق ذلك بشكل خاص على موضوع الهجرة الذي أظهر محدودية السياسات المنفردة. ففرنسا على سبيل المثال لا تستطيع التحكم بموضوع الهجرة غير الشرعية طالما كانت اسبانيا تسمح بدخول الأجانب أراضيها من دون تأشيرة، والمانيا لا تستطيع التحكم بسيل اللاجئين السياسيين طالما أنها تقر هذا الحق في دستورها خلافاً لبقية بلدان أوروبا. لذلك بدأ توحيد القوانين منذ عام 1985 مع اتفاق شنغن الذي استكمل باتفاقات أخرى آخرها في امستردام عام 1997 ولم تنته هذه العلمية بعد. كان هذا التطور نحو توحيد السياسات الاوروبية. يطال سابقاً فقط المستوى الاقتصادي في اطار السوق الاوروبية المشتركة فزالت الحدود أمام انتقال السلع داخل المجموعة الاوروبية في التسعينات بدأ توحيد السياسات على المستوى الاجتماعي في اطار الاتحاد الأوروبي مما أدى الى زوال الحدود أمام انتقال البشر. وسيلي بعد ذلك التوحيد على المستويين السياسي والعسكري. مع الوحدة الاوروبية طرحت مواضيع الهوية والانتماء على بساط البحث: هل المرء هو في الدرجة الأولى الماني أو فرنسي أو بريطاني أو ايطالي الخ، أو أنه اوروبي؟ وتشكل الاستفتاءات الشعبية التي حصلت قبل سنوات في مختلف الدول الأوروبية عن الوحدة الأوروبية استفتاء في الوقت نفسه عن الهوية وصوتت الغالبية لصالح الانتماء الأوروبي.
المانيا والهوية
لم يحصل في المانيا استفتاء شعبي عن الوحدة الأوروبية لأن الدستور لا يسمح بالاستفتاءات واستعيض عن ذلك بتصويت البرلمان الاتحادي بغالبيته الساحقة لصالح هذا المشروع. ويرجع ذلك الى ان واضعي الدستور عام 1949 أرادوا الحد من المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات السياسية بقدر المستطاع بسبب يناع التجربة الديموقراطية بعد الحرب وعدم تأصلها في المجتمع حسب اعتقادهم. وهذا مؤشر الى مشكلة تنفرد بها المانيا ألا وهي مشكلة الهوية. فبينما يشكل التاريخ بالنسبة لمختلف شعوب اوروبا العنصر التكويني الأساسي للإنتماء والهوية، على الألماني ان يتنكر لقسم مهم من تاريخه الحديث. فيجب عليه ان يعادي المرحلة النازية لما سببت من كوارث حضارية وبشرية. وان يعامل بحذر المرحلة القيصرية التي أوصلت الى الحرب العالمية الأولى. ولا يبقى له من تاريخه الحديث الا مرحلة جمهورية فايمر القصيرة التي بدأت عام 1919 وأنهاها النازيون عملياً عام 1933. وكانت هذه الجمهورية هزيلة وضعيفة الى درجة سمحت لهتلر استلام السلطة ديموقراطياً. بعد الحرب اعتبرت الهوية الألمانية استمراراً لمرحلة ما قبل النازية. وتجلى ذلك بتبني عديد من القوانين القديمة حفاظاً على الاستمرارية، منها قانون الجنسية لعام 1913 الذي يقول بحق الدم ويعتبر تجنيس الأجانب حالاً استثنائية تتم عادة بعد مرور خمس عشرة سنة وإندماج الأجنبي كلياً في المجتمع الألماني. عام 1968 حصلت في المانيا كما في بقية اوروبا الثورة الطلابية وتميزت عن غيرها حيث ان جيل ما بعد الحرب بدأ يسأل الآباء عن دورهم في المرحلة النازية ويشكك بمضمون الهوية التي يحاول هؤلاء تربيتهم عليها. عندها بدأ فعلياً ترسيخ الديموقراطية في المانيا وتأصيلها فبدأت تنتشر على سبيل المثال المبادئ التحررية في التربية بدل المفاهيم السلطوية. رافق هذا التطور طرح مشكلة الأجانب على بساط البحث وبدأت المطالبة بتغيير قانون الجنسية بالاضافة لاصلاحات أخرى. وتم التوصل الى بعض التغييرات الايجابية لصالح اولاد المهاجرين في قانون الأجانب لعام 1990 على رغم المعارضة العنيفة التي مارستها الأحزاب المحافظة الحاكمة. في السنة نفسها تمت الوحدة الألمانية وحمل الألمان الشرقيون معهم مشكلة هوية أكبر من التي ذكرناها أعلاه. فكان عليهم ان يتنكروا ليس لتاريخهم النازي فحسب بل لتاريخهم الاشتراكي ايضاً. فنادوا بالهوية الألمانية ما قبل الحرب العالمية الأولى وقووا بذلك معسكر المحافظين الذين استطاعوا الاستمرار بالسلطة لدورتين اننتخابيتين اضافيتين حصلت خلالهما مواجهة اجتماعية أعنف من مواجهة 1968 أدت بالنهاية الى انتصار المعسكر الديموقراطي المطالب بتحديث الدولة وسن القوانين التي تتناسب مع عصر ما بعد الدولة القومية والتي تتلاءم مع التطور الأوروبي ومنها قانون الجنسية. ولهذا السبب كان شعار تسهيل تجنيس الأجانب شعاراً أساسياً في الحملة الانتخابية في العام الماضي وقاد الى النصر. ويلاحظ ان الذين يحكمون الآن مثل المستشار غيرهارد شرودر ووزير خارجيته يوشكا فيشر ينتمون الى جيل ال 68 الذي ساهم بنضاله في ترسيخ الديموقراطية وارساء القواعد لتحديث الدولة.
يصطدم مشروع التحديث هذا ليس فقط بمعارضة المحافظين بل ايضاً بتصورات شرائح واسعة من المهارجين التي تصب في النهاية في مصب هؤلاء. فكما ان هنالك بين المهاجرين تصورات متخلفة لموضوع التعددية الثقافية تسير بعكس التيار الديموقراطي الساعي لايجاد صيغ تعايش جديدة لتلتقي بالتيار العنصري القائل بالخصوصيات الثقافية، توجد ايضاً تصورات متخلفة للهوية تلتقي مع تصورات المحافظين لا بل أحياناً مع تصورات العنصريين. وتصورات الهوية هذه على نوعين: هوية دينية وهوية قومية. فبينما توصل اليهود الى ايجاد حلول لأقلمة هويتهم الدينية مع المجتمعات التي يعيشون فيها، فلا يشكل دينهم مشكلة لاوروبا، يجد بعض الاسلاميين صعوبة في الانتماء الى مجتمع علماني والمحافظة في الوقت نفسه على هويته الاسلامية، ويستفيد من الجو الديموقراطي الليبرالي ليعيش هويته الاسلامية بأقصى أشكالها تحت تأثير أحزاب أصولية معظمها ممنوع ومطارد في البلدان الاسلامية نفسها. وهذه الهوية يرفضها كل الأوروبيين الذين لم ينسوا أهوال الحروب الدينية التي خاضوها في تاريخهم. وما ينتج عن ابراز هذه الهوية ونشرها هو إلحاق الضرر بغالبية المسلمين الذي لا يرون تناقضاً ضرورياً بين ممارسة دينهم والقبول بالمجتمع العلماني، وإيصال صورة عنهم يستخدمها المعادون للأجانب لربط الاسلام بالتخلف والقرون الوسطى. الهوية الدينية لا تشكل خطراً سياسياً على المجتمع الأوروبي لأن موضوع العلمانية لا جدال فيه. انها تشكل خطراً أمنياً لتجاوبها مع التطرف والإرهاب، وقد تواجه في عدة بلدان من هذا المنطلق. ففي المانيا يشكك بصراحة بصدق التزام هذا التيار بالدستور، مما يدفع التنظيمات الاسلامية المعروفة بارتباطها بالاسلاميين المنادين بالدولة الاسلامية كميللي غورش الى الاعلان باستمرار وفي كل مناسبة عن ولائهم للنظام السياسي القائم.
يختلف الأمر مع الهوية القومية، لأنها لا تهدد النظام العلماني القائم بقدر ما تهدد وحدة المجتمع ففي المانيا يريد كثيرون من الأتراك الحفاظ على هويتهم التركية ويطالبون بالاعتراف بهم كأقلية في البلاد تكون لها حصة في الدولة على النموذج اللبناني. حتى ان البعض منهم يتحدث عن المانيا كبلد واحد بشعبين على منوال قبرص. لذلك يطالبون بالجنسية المزدوجة له ولأولادهم وأحفادهم. وازدواجية الجنسية مقبولة في غالبية البلدان من باب غض النظر وليس الحق. وارادت الحكومة الجديدة برغبتها في تحديث قانون الجنسية وتحويله من حق الدم الى حق الأرض، أي اكتساب الجنسية بالولادة في البلد وليس فقط بالأصل، أرادت ان تقدم أكبر التسهيلات للأجانب لتسهيل اندماجهم في المجتمع ومنها حق ازدواجية الجنسية. وكانت ردة الفعل الألمانية سلبية على هذه الخطوة لما تنطوي عليه من مخاطر انشقاق المجتمع بدل انصهاره. وأكدت هذه المخاوف ردود فعل كثيرين من الأتراك الذين وجدوا في ذلك فرصة لتحويل بيئتهم الألمانية الى قسم من تركيا بدل الاندماج في المجتمع الألماني، مع الحفاظ على صلة مع البلد الأم هدف إليه مشروع القانون. رأى المحافظون الذين هزموا لتوهم في الانتخابات في هذه الهفوة فرصة للعودة الى المسرح السياسي فبدأوا بحملة تواقيع ضد مشروع القانون جمعت خلال بضعة أشهر أكثر من خمسة ملايين توقيع وأدت الى هزيمة الاشتراكيين والخضر في الانتخابات الفرعية لولاية هيسين، كما أفقد التحالف الحاكم الأكثرية في المجلس الاتحادي الذي يجب ان يوافق على قوانين كهذه. فأرغمت الحكومة على تعديل مشروعها في ما يخص ازدواجية الجنسية التي حصرتها الآن فقط في الجيل الثاني مؤقتاً حتى بلوغ ال 23 سنة. بعدها يختار الشخص أية جنسية يود الاحتفاظ بها، ولم تغير النقاط الأساسية كحق الأرض. فابن المهاجر يصبح الآن المانياً بمجرد ولادته في المانيا. والمهاجر ينال الجنسية بعد اقامة ثماني سنوات بدل 15 في السابق، والحصول عليها أصبح من حقوقه وليس بتقدير السلطات. وفي 14 أيار مايو 1999 صوت البرلمان الاتحادي بغالبية ساحقة لصالح المشروع إذ رفض 22 نائباً من المعارضة المحافظة التصويت ضده. ومعه بدأت صفحة جديدة من تاريخ المهاجرين الى المانيا.
* أكاديمي لبناني مقيم في المانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.