يأخذ إحياء المجتمع المدني في اكثر من قطر عربي شكلاً أساسياً هو شكل إحياء المنظمات غير الحكومية او الأهلية كما شاءت تسميتها. اذ تعكس هذه المنظمات الطوعية والمستقلة نسبياً عن اجهزة الدولة فاعليته، وتمثل احد ابرز الأطر المؤسسية للمشاركة الاجتماعية في العديد من القطاعات التي احتكرتها الدولة تقليدياً. ومن هنا ارتبط تفعيل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية برهانات التحول الديموقراطي، والحد من الطبيعة السلطوية المنتشرة الوظائف للدولة القطرية او الوطنية العربية. اذا كانت هذه الدولة اختزلت المنظمات غير الحكومية الى نوع من جمعيات اهلية ثقافية واجتماعية وخيرية، ملحقة بوزارة الشؤون الاجتماعية ورهنتها بضوابط ادارية وقانونية تدخلية تعطل عضلة سيرها الأساسية الممثلة بالمبادرة الطوعية، فإن تغييب الأطر المؤسسية للعمل السياسي العصري او محدوديتها قد دفع القوى "المعارضة" الى ان تبحث في هذه المنظمات عن تعويض نسبي عن تغييب تلك الأطر. وأدى ذلك الى نوع من تسييس "حزبوي" غير مباشر للجمعيات الأهلية بالقدر نفسه الذي عكس لدى الأحزاب السياسية، التي تتحدر من تقاليد توتاليتارية، تطوراً نوعياً في وعيها السياسي، يقوم على اتباع سياسة تتطلع الى الهيمنة الايديولوجية عبر الأطر المؤسسية للمجتمع المدني وبواسطتها، في مقابل السياسات السلطوية. وتكمن المفارقة في انه على رغم "الطفرة" الراهنة بعدد الجمعيات الأهلية العربية التي تقع اخيراً في فضاء المنظمات غير الحكومية، فإن دورها ما زال محدوداً وهامشياً، وتصطدم مبادراته بنزوات جهاز الدولة وضوابطه التدخلية السلطوية. ويعود بعض عوامل هذه الطفرة الى انعاش بعض السياسات الحكومية العربية للعمل الأهلي في سياق الشراكات الدولية الجديدة ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية والاجتماعية، التي تشكل المنظمات الأهلية غير الحكومية طرفاً فيها. حيث اقترب عدد هذه المنظمات والجمعيات في مصر وحدها من حوالى 15 الف منظمة وجمعية. وينسجم اهتمام الشراكات بتفعيل الدور المؤسسي للعمل الأهلي الطوعي ما بين اطرافها مع الوضعية القانونية الدولية للمنظمة غير الحكومية بوصفها تشمل بالتعريف القطاع الطوعي غير الهادف للربح. ويعود اول ابراز أممي دولي لها، الى اجتماعات سان فرانسيسكو في عام 1945، الذي تم فيه توقيع ميثاق الأممالمتحدة، اذ شاركت 42 منظمة غير حكومية بدعوة من حكومة الولاياتالمتحدة الاميركية بتقديم مشاريع ومسودات للميثاق الأممي. ونتج عن ذلك ارساء الأممالمتحدة لإطار التعاون بينها وبين المنظمات غير الحكومية، وإدراج ذلك في شكل نص يسمح "للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ان يجري الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية". ويعني ذلك ان المجلس منح تلك الهيئات مركزاً استشارياً، يتيح لها ليس مجرد المشاركة في مناقشة جداول الأعمال وحسب بل المساهمة في وضع بنود هذه الجداول. ويفسر ذلك تنسيق الوكالات الأممية المتخصصة لأنشطتها مع المنظمات غير الحكومية مثل "كير" و"أطباء بلا حدود" وغيرها في مجالات عديدة كالقانون واللاجئين ونزع السلاح وحقوق الانسان والكوارث الانسانية. وتوسع تعزيز الهيئة الأممية لدور المنظمة غير الحكومية طرداً مع نهاية الحرب الباردة، وانتشار ما يسمى ب"موجة الديموقراطية الثالثة" في العالم، واعتبرتها تقارير الوكالات الأممية طرفاً أساسياً في مفهوم جديد للمواطنة في اطار "مجتمع مدني عالمي". واذا كانت الايديولوجيا الليبرالية الجديدة التي تضخها الحكومة الاميركية في شكل برامج وسياسات اميركية تقوم في جانب اساسي منها على تعزيز قطاعات المنظمات والهيئات غير الحكومية فإن مؤشرات قوية في عمل المنظمات الدولية الأممية وتقاريرها، تكشف اكثر فأكثر عن التبني "الأممي" لبعض عناصر هذه الايديولوجيا لا سيما في مجال القطاع غير الحكومي. وبكلامٍ آخر لم تعد "العولمة" التي باتت تشكل احدى الايديولوجيات الأساسية في مفهوم المنظمات غير الحكومية عن نفسها مجرد ايديولوجيا اميركية تعكس الهيمنة الكوكبية للطبقة الدولية المسيطرة التي تقودها الولاياتالمتحدة الاميركية بقدر ما اخذت تظهر اكثر فأكثر كأيديولوجيا اممية ل"مجتمع مدني عالمي". وحدث في هذا السياق على امتداد العقد المنصرم نمو هائل للمنظمات غير الحكومية في العالم، فأقيمت في فرنسا وفق مصادر الأممالمتحدة 54000 منظمة جديدة بين عامي 187 و1994، وكان عدد المنظمات والهيئات الأهلية وغير الحكومية التي تشكلت في مصر، ويقترب من 15000 جمعية، هو الأعلى في البلدان العربية. يمكن القول اذاً ان وكالات الأممالمتحدة تبدي مزيداً من التنسيق مع المنظمات غير الحكومية، وتعتبرها أحد أطر تحقيق اهدافها. من هنا اصبحت مشاركة هذه المنظمات بدءاً من مؤتمر ريو دي جانيرو عام 1992 الخاص بالبيئة والتنمية، فضلاً عن المؤتمر العالمي لحقوق الانسان فيينا ومؤتمر السكان والتنمية القاهرة ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية كوبنهاغن والمؤتمر العالمي الرابع للمرأة بكين حقيقة ملموسة، شاركت فيها تلك المنظمات بوضع جداول الأعمال، وتحويل بعض النقاط الى قانون. واذا كانت المساعدات الإنمائية التي تدفقت من المنظمات غير الحكومية زادت اكثر من الضعف منذ عام 1980، فإن هذا لم يكن ممكناً من دون تخصيص مؤسسات التمويل الدولية التي تعتبر طرفاً أساسياً في عملية "العولمة"، لجزء متعاظم من تدفقاتها المالية لدعم تلك المنظمات، وما تحتمله من رهانات التحول الديموقراطي التي شكلت لها اكثر من مؤسسة دولية داعمة. وباتت وكالة التنمية الاميركية بشكل خاص تحول جزءاً متعاظماً من تدفقاتها الى المنظمات غير الحكومية الاميركية، وتفوضها بتقديم الدعم الى المنظمات غير الحكومية في العالم، كما تم مع عشرين منظمة وهيئة اهلية في مصر. وأثار ذلك ومازال يثير باستمرار مدى قدرة تلك المنظمات على عدم الارتهان بأهداف التمويل وسياساته، لا سيما وان الجهات المانحة تراقب أوجه صرف المنح التي تقدمها. ومن هذا الجانب منظمات حقوق الانسان التي اعتبرت من تلك المنظمات والهيئات، واحدى العيون "الساهرة" للأمم المتحدة في تنفيذ برامجها المتعلقة بالحقوق. هكذا لم تستطع المنظمة المصرية لحقوق الانسان خلال عام 1994 ان تتخطى "ركودها" وعجزها عن العمل، في معزل عن التمويل الخارجي الذي مكّنها مباشرة من افتتاح او دعم حوالى عشرة فروع، وحرك حولها بشكل مفاجئ اكثر من ألف عضو، وهو ما زاد من تأثيرات "التنميط الدولي" لمفهوم منظمة حقوق الانسان على هذه المنظمة، بل ان الجهات المانحة حاولت بشكل خاص ان تدفع الى عضوية المنظمة في الفيديرالية الدولية مع اشتباه المنظمة بانحيازات الفيديرالية للنفوذ الصهيوني في فرنسا. وليست اثارة قضية تحويل مجلس اللوردات البريطاني لبعض هذه المنظمات في مصر أخيراً إلا مظهراً من مظاهر هذه المشكلة اي مشكلة التمويل الخارجي، وعجز منظمات حقوق الانسان العربية عن توفير مصادر وطنية مستقلة لتمويلها. ان مؤشرات ظهور نظام دولي يعمل عبر الأمم وليس في ما بينها، ويتخطى الحقوق السيادية التقليدية لنمط الدولة - الأمة في سياق عملية "العولمة" الجارفة، تتناغم مع دفع الأممالمتحدة للايديولوجيا الليبيرالية الجديدة، عبر تعزيز الوضع القانون الدولي لحركة المنظمات والهيئات غير الحكومية. ويكتسب عمل هذه الحركة اكثر فأكثر طابعاً معقداًَ ومتعدد الأبعاد يطرح سؤالاً أساسياً على حركة المنظمات غير الحكومية العربية بشكل خاص، وهو سؤال عن مدى قدرتها على "توطين" مصادرها ونشاطاتها. ولكن، هل يمكن توطين حركة المنظمات غير الحكومية في اطار الايديولوجيا الليبيرالية الجديدة للعولمة؟ * كاتب سوري.