صدرت في العاصمة الفرنسية بتاريخ 13 كانون الاول ديسمبر 1895 جريدة بعنوان "تركيا الفتاة"، احتوى القسم الأعلى من صفحتها الأولى عبارات وكلمات طريفة وغامضة كالقول ان "قيمة الاشتراك: مساعدة أدبية" و"مدير التحرير: النظام والنجاح" و"محرد الجريدة: حب الوطن" ناهيك بأنها "لسان العمدة التركية السورية" وليس جمعية او حزب تركيا الفتاة كما قد يتبادر الى الأذهان لحظة ارتطام العين بالترويسة. ثمة شيء واضح مما تقدم، وهو ان مالية الجريدة تتغذى من التبرعات التي يفترض بأنها أجزل من الإشتراك المحدد، باعتبار انها - اي الجريدة - لسان حال حزب سياسي. فهل يحدّد العدد الأول اهداف "العمدة التركية السورية" التي تصدر الجريدة كل اسبوعين كمنبر إعلامي لها؟ وماذا عن هوية رئيس التحرير وسكرتير التحرير في الصفحات القليلة العربية والفرنسية التي يتألف منها العدد الاول؟ وثمّة سؤال فرعي: لماذا الفرنسية وليس التركية، ما دام اسم الجمعية يدلّ على انها تهتم بكامل السلطنة العثمانية؟ ورد في الإفتتاحية غير الموقّعة ان قرار اعتماد اللغة الفرنسية يعود لأنها "اللغة الأكثر انتشاراً في هذا العصر بين نخبة ابناء الشرق، فضلاً عن انها اللغة الرسمية للدول الأوروبية، وهي اللغة التي دوّنت فيها حقوق الانسان المهضومة منذ سالف الزمان". وتضمنت الافتتاحية ايضاً مطالب ثلاثة: "حرية شخصية، وحرية معتدلة للمطبوعات، ومراقبة حقيقية على الحكّام من نواب الأمة". وهنا استدرك رئيس التحرير ليطالب باعادة "مجلس المبعوثان" اي البرلمان. والجدير بالذكر ان السلطان عبدالحميد ألغى المجلس في اواخر السبعينات من القرن الماضي، واستمر الإلغاء حتى صدور الجريدة. وكان من نتائج إغلاق أبواب مجلس النواب، هرب العديد من النواب بينهم خليل غانم الذي لجأ الى باريس. ولما كان المال "مفتاح كل شيء" فان توافره عبر تبرعات "ذوي الكرم" قد يساهم في اصدار الجريدة "كل اسبوع او كل يوم"… أضاف كاتب الافتتاحية منتقلاً الى "حزب الجريدة" ليكتفي بالقول انه "معروف من عنوانها، ولا حاجة في ما نظن للإفصاح اكثر من ذلك". والمقصود هنا اسم الجريدة وليس موقع مكاتبها، والذي يدلّ على ان "حزب الجريدة" يهدف الى تحديث تركيا العجوز أسوة بالدول الأوروبية وفي طليعتها فرنسا. ثلث الافتتاحية رسالة صغيرة مفتوحة الى "مراسلينا الأفاضل" تضمنت أمرين مناقضين لما تتضمنه عادة الرسائل المماثلة في الدوريات الاخرى. الأمر الأول ان المساهمات الخالية من التوقيع او الموقعة بأسماء مستعارة سوف تنشر "بكل امتنان اذا وافقت مشرب الجريدة". الأمر الثاني ان المقالة المتعذر نشرها تعاد الى صاحبها "اذا شاء". وسرّ الأمر الأول، ان الجريدة معارضة للسلطان ونظامه مما يعرّض كتّابها للخطر فيما لو جاهروا بأسمائهم. وتحت عنوان "غايتنا" كرّر احد محرري "تركيا الفتاة"، الذي توسّل آوى اسماً مستعارً، بعض ما تضمنته الافتتاحية، ثم اضاف مخاطباً العثمانيين: "أتريدون الاصلاح وأنتم صامتون؟ اذاً، لستم تريدونه". وقال بلسان الجمعية: "لا نسأل الا معاضدة أدبية. لا نطلب الا انضمام صدوركم الى صدورنا واتحاد صوتكم بصوتنا، ونحن امامكم لا نرجع عما تطلبونه لخير البلاد ولو كان وراءه الموت: لم يبق عندكم شيء يضنّ به غير النفوس عليها الذل ينسحب" وختم قائلاً: "بين موت بالذلّ وآخر بطريق إحقاق الحق، خيارنا هذا". وفي باب الأخبار هلّلت الجمعية "لخبر عزل دولتلو عثمان نوري باشا والي ولاية سوريا الذي عمت مظالمه أصقاع برّ الشام وأطرافها". وقد عبّرت عن فرحها بالبرقية التالية التي أرسلتها الى قصر يلدز: "المرجو رفع تشكراتنا الفايقة لأعتاب جلالة المتبوع لصدور إرادته السنية بعزل الغاشم عثمان نوري باشا ظالم سوريا". وأعطى المحرر مثلاً صارخاً على مظالم الوالي حين أفاد بأنه "قتل مدحت باشا في منفاه يوم أُنفذ لهذه البغية والياً على الحجاز، وكانوا قد سئموا في الاستانة من طول حياته، فعهدوا الى عثمان نوري باشا تلك المهمة، فقام بها حق القيام. وهذا هو السر في بقائه لحد الآن نافذ الكلمة عند جلالة السلطان". والجدير بالذكر ان مدحت باشا الذي تولى أعلى منصب في الباب العالي وهو "الصدر الأعظم" او رئيس الوزراء، أبدع الدستور العثماني بمعاونة خليل غانم، وأُقرّ في البرلمان. وعلى ذكر الصدارة العظمى، فقد بلغ ادارة التحرير "والجريدة تحت الطبع، ان جلالة السلطان تعهّد لسفير انكلترا بشرفه بأنه اذا عاد سعيد باشا الى بيته لا يصيبه ضرّ. فوثق فخامته بتعهد السلطان للسفراء بذلك. فعاد الى داره". وسعيد باشا الذي تولّى منصب الصدر الأعظم، لجأ الى السفارة البريطانية خوفاً من بطش عبدالحميد. وخشي محرر الجريدة من ان يكون مصير سعيد باشا شبيهاً بمصير سلفه مدحت باشا "الذي التجأ الى سفارة فرنسا فسلّمته، بعد ان تعهد له السلطان بأن لا يمسه ضرّ، فكان نصيبه ما كان". ويبقى أمران: الأول ان اول اعداد "تركيا الفتاة" احتضن "ترجمة العريضة التي رفعتها اللجنة التركية السورية في باريس الى الدول الست العظام" وقد ذيهلت بالتوقيعين التاليين: "خليل غانم مندوب سورية في مجلس المبعوثان سابقاً بصفته "رئيس اللجنة التركية السورية" والأمير امين ارسلان مدير في لبنان سابقاً وصاحب جريدة "كشف النقاب" بصفته "كاتم أسرار اللجنة". وهكذا تمكن الاجابة على احد الاسئلة المطروحة في مستهل هذه العجالة، بالقول ان خليل غانم هو رئيس تحرير الجريدة، وأمين ارسلان سكرتير التحرير. الأمر الثاني ان "تركيا الفتاة" لم تعمّر كثيراً، لأن شريك خليل غانم في تحريرها وفي الجمعية التي تصدرها تراجع عن معارضته للسلطان وأصبح سفيراً للسلطنة في احدى العواصم الأوروبية. في حين تابع غانم نهجه المعارض حتى وفاته في العام 1903 إثر نوبة قلبية، أي قبل ست سنوات من تحقيق مطالبه التي تحتل رأس لائحتها العودة الى الدستور وفتح أبواب البرلمان. 1