الرسّام الراحل فاتح المدرِّس أحد أعلام الفن والثقافة المعاصرين في سورية. فنان تشكيلي وشاعر وقاصّ وعازف بيانو. متعدد الاهتمامات عميق الجذور. منفتح على الحضارات. "ابن عصره" كما وصفته سمر حمارنه في كتابها "كيف يرى فاتح المدرس"، الصادر أخيراً في دمشق بطباعة أنيقة ورؤية إخراجية مميزة 176 صفحة من القطع الكبير ولم يتسنّ له أن يهنأ به، وقدمت له بالقول: "أردت في كتابي أن يعبر الفنان عن نفسه وآرائه بلسانه هو عبر أسئلة طرحتها عليه بعد أن قرأت الكثير عنه واستمعت اليه ساعات طويلة، وترددت على مرسمه أياماً وشهوراً واطلعت على اللقاءات التي أجريت معه والمقالات التي كتبت عنه وقابلت العديد من أصدقائه الكثر...". وضمن دائرة هذا الطموح، اعتمدت حمارنه في عرضها للحوارات والشهادات والمقتطفات الصحافية واللقاءات الفنية، أسلوب التحقيق الصحافي، مما أعطى الكتاب طابع العمل الأرشيفي أو التجميعي الاستعراضي، في محاولة انتشار أفقي، غايته الإحاطة بكل جوانب شخصية فنية شمولية كشخصية المدرّس بغناها وعمقها وتنوعها، التي تقول عنها حمارنة "بالرغم من كل ما كتب لم يستطع أحد الوصول الى شفافية روحه ولا الى الغضب الكامن في داخله حباً لأرضه وإنسانها". ورغم افتفار الكتاب لمبدأ الانتقاء ولمنهج دراسة انتاج الفنان وتحليل مراحله الفنية بكل تطوراتها وتقلباتها وعناصرها التشكيلية، إلا أنه يفيد الباحثين والنقاد التشكيليين في التعرف الى الإنسان داخل الفنان فاتح المدرس. لا يمكن إغفال مدى جاذبية الذكريات التي يرويها الفنان، عن طفولته ويفاعته في أبواب متفرقة من الكتاب إذ يقول "كنت في الخامسة أهيم في البرية ذات الجمال المجنون. وتبدأ أمي الصبية الجميلة بالبحث عني. تعلمت من إنسان البراري وحيواناتها عوامل الموت والحياة ورموز الخير والشر. الليل بذئابه والنهار بجدرانه الزجاجية في شمس الظهيرة. وكان الجبل المخيف والنهر الغدّار وأصدقائي من الضفادع والسلاحف وصغار السمك وكان الرسم على وحل النهر. وفي الرابعة عشرة كانت البدايات الأولى في بلد زراعي متعدد السمات الطبيعية، من تلال الى جبال الى بوادي وحلب مدينة عتيقة، ثم الشعور بالاحتلال الفرنسي حتى القهر وضحالة مفاهيم الحرية والديموقراطية. وتوجهت لقراءة كتب ابن سينا الطبية وغموض ما جاء به محي الدين بن عربي، وأشعار طاغور والمهايهراتا الهندية وقصص الخيال العلمي العربي مثل الملك سيف بن ذي يزن. ثم جاءت اللغة الإنكليزية، إلا أني ظللت مشدوداً الى طبيعة سهول حلب الشمالية والغربية. وكنت أعرض أعمالي في المكتبات في شارع بارون. وعندما انتقلت الى الكلية الأميركية لاتقان لغة أجنبية، تعرفت الى زعماء الشعر الإنكليزي وما ترجم الى الإنكليزية من غوته وشيللر وهلدرلين ورأيت نفسي أنتقل من روائع الأبعاد وسحر المنظور، من السهول السورية الى رسوم فيها رموز عن الكون والغيب وتكوينات غير معقولة قيل عنها أنها سوريالية وعندما تعرفت جيداً الى المدرسة الدادائية ثم السوريالية وجدت نفسي غير قانع برؤى زعماء المدرسة السوريالية، وفي سن الثامنة عشرة، بدأت أبحث عن رؤى يدخل فيها إنسان حارتي في باب النصر وتوابعها من الحارات الأقل أناقة. وكان الحب أمراً ساحراً صعباً محفوفاً بالمتناقضات. ولما تسنى لي أن أسافر الى روما في منحة دراسية كنت قد أقمت مجموعة معارض في حلب ودمشق وكان أول معرض شبه رسمي لي في مدرسة جودت الهاشمي العام 1947. ثم درست الفن اليوناني وحياة أشهر الفلاسفة وتعرفت الى الشعر الياباني "الرباعيات"، فأدركت أن هنالك ما يسمى بالأبعاد السحيقة لمجالات الإحساس وأن الخير كله يكمن في معطيات الخير والجمال، فسامحتُ أعدائي الذين شرَّدوني أنا وأمي وأخي وسافرت مع أهلي الى روما وهناك بدأت معركة أخرى". ويتحدث المدرس عن ظروف لقائه بالفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر" أثناء دراسته في ايطاليا ما بين أعوام 1957 - 1962، حين تردد الى محترفه واقتنى منه بضعة لوحات كما ترجم سارتر للمدرّس أربع قصائد كتبها بالإيطالية الى الفرنسية من ديوان القمر الشرقي على شاطىء الغرب وكان سارتر آنذاك من كبار المدافعين عن حرب تحرير الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي. "يجب أن تحمل اللوحة روح العصر" يقول فاتح للأصدقاء الذين عرفوه أثناء دراسته الفرنسية التي شهدت انقلاباً من المناخات السوريالية الى التعبيرية - التجريدية. ويضيف: "وأنا أنتمي الى شعب له حضارته العريقة، وللتعبير عن ذلك بحثت طويلاً في الأرض والإنسان واللون في الريف والمدينة، فهمت الطبيعة وتفاعلت مع الحضارات الأوروبية، فخلصت الى وجوب حمل مفاهيم العصر وخصوصية العمل". ومن بعد الحوار الطويل الذي تجريه المؤلفة مع المدرس وفيه تناولت فنه وعوالمه ورؤيته الفنية والجمالية، تعرض حمارنه في الفصل الثالث من الكتاب، نماذج من قصائد الدواوين الآتية: "الزمن الشيء - العام 1990" و"القمر الشرقي على شاطىء الغرب" العام 1962 و"وهج الصور المتباعدة" 1980 - 1984، وفي ختام الفصل قصة قصيرة بقدم المدرس تعود للعام 1992. ثم من غير تسلسل زمني أو أفكار ترابطية، تطالعنا كتابات ممهورة بإمضاء المدرس عن لقاءاته مع أدباء وفنانين وشعراء ومثقفين، منهم مارون عبود في بداياته المبكرة، حين كان طالباً في الجامعة الوطنية في عاليه التي كان يديرها الأديب مارون عبود. وهناك تعرف الى الشاعر يوسف الخال والفنان قيصر الجميِّل، ثم خطابه الى محمود درويش وانتقالاً الى نص المحاضرة التي ألقاها في صالة بلدنا في عمان عن فلسفة علم الجمال. ليأتي من بعدها فصل "كيف يرون فاتح المدرس؟"، وفيه شهادات من سفير فرنسا في دمشق فرناند روبيون، ود.عفيف بهنسي وباسم دحدوح ونزيه أبو عفش وسعيد حورانيه وسمير الصايغ وسلمان قطايه وجوزف طراب وعوده ج عوده. كتابات متفاوتة الأهمية، مقطوفة من مناسبات عديدة تنتمي لذاكرة الفنان وأرشيفه الخاص. وفي الفصل الأخير تكمل سمر حمارنه فتح "ملف اللقاءات مع د. فاتح المدرس"، لتختم به، وهو عبارة عن حوارات صحافية تدور حول موضوعات سياسية واجتماعية وفنية، ولقاءات أبرزها اللقاء الذي أجراه فائق دحدوح فنان وناقد تشكيلي سوري مع فاتح المدرس وفيه يتحدث عن ذاكرته: "في مطلع شبابي كنت مغرماً بإجراء مقارنات بين فن النحت اليوناني وفن بلاد ما بين النهرين. نعم هنالك ملامح رائعة في الفن الآتيني ولكن الفن السوري رهيب. هل يمكن شحن مأساة بجمال ما؟ كيف؟ وأين تضع شرارتها الحائرة على مسطح ذي بعدين؟ هل يمكن تحويل اللامادة الى المادة؟ لا أستطيع هذه اللحظة أن أجيب على أسئلتي، حسناً إنني أعيش على برزخين في حياتي. الطبيعة بأسرارها المباحة والتكوين السيكولوجي في معالجة لونين مختلفين للحصول على لون ثالث غير مرئي. أي إني أعالج اللون حسب طقسه في الكلام وقوته. السر في العمل الفني أولاً وأخيراً كلمته النهائية للحدس. فالحدس مرحلة أعلى من الطاقة العادية للعقل. بل هو تجاوز نفسي له. العقل يبدو تعيساً أمام العظمة السرية للحدس". وعن الوجوه في أعماله يقول المدرس: "وجوه وجوه لا شيء غير وجه الإنسان، إنه مشحون بكل الأزمان التي تتصورها. وجوه الفلاحات في الريف السوري. الفلاحات في البادية السورية، الفلاحات في جبل العرب الوجوه التدمرية، وجوه الجنرالات وجوه الجلادين، وحوش اخترعتها مصنوعة من صفيح ومسامير فولاذية مزودة بابتسامة بلهاء. وجوه الدراويش بقبعاتهم الطويلة من اللباد في عيونهم قبس من وهج الضوء السماوي لا تستطيع رؤية ابتسامتهم أو حسرتهم في بوادي التصوف الخرساء. هذا طفل وهذا وجهه. لا وجود لعينين ولا لأنف أو فم. بقعتان من الأحمر الرمادي. لكن الوجه موجود".