حين تكون المرأة هي الذات والموضوع، الكاتب والمكتوب، لا بد أن يكون النتاج الأدبي المترتب على مثل هذه العلاقة على مقدار كبير من الصدق والدقة في التعبير" فليس هناك أجدر من المرأة في الكتابة عنها، وهي سواء كانت كاتبة ام مكتوبة، ذاتاً ام موضوعاً، متموضعة داخل مجتمع معيّن ومحكومة بعلاقات معينة، ولعل الطرف الأكثر حضوراً في هذه الوضعية هو الرجل. وعلى رغم أن المرأة في تموضعها هذا، وفي علاقتها بالرجل على وجه التحديد هي موضوع قديم طالما طرقه الأدباء منذ بداية هذا القرن المشارف على الأفول. واليوم، ونحن نستعد لاستقبال قرن جديد ينطرح هذا الموضوع في أثرين سرديين جديدين لكاتبتين مصريتين" الأول هو مجموعة قصصية بعنوان "حالات التعاطف"* لنورا أمين والثاني رواية "وشيش البحر"** لأماني خليل. فما هو موقع المرأة في هذين الأثرين؟ وهل تغير هذا الموقع من خلالهما في نهاية القرن عما كان عليه في أوله؟ بداية القرن يرسم قاسم أمين صورة للمرأة تبدو فيها محتقرة، مستضعفة، حقوقها مهتضمة، "خاضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امرأة"، يستعملها متاعاً للذة، "يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطرق متى شاء". فهل تغيرت هذه الصورة في نهاية القرن كما نراها في الأثرين السرديين الآنفي الذِكر؟ في "حالات التعاطف" أربعة عشر نصاً قصصياً تستأثر المرأة فيها بفعل السرد، وتتقاسم البطولة مع الرجل من موقع الضحية التي يقع عليها الفعل في معظم الأحيان فيما يلعب هو دور الجلاد في الغالب، على رغم اختلاف نوعية الفعل من قصة إلى أخرى. ولعل استئثار المرأة بفعل السرد في هذه القصص هو نقطة القوة الوحيدة في علاقتها بالرجل، فتتحكم بقصّ الأحداث والوقائع في الكتابة في الوقت الذي يتحكم هو بصنعها في الحياة. وهكذا، تحاول المرأة التعويض بالقص عن دورها المفقود، وتغدو الكتابة معادلاً للحياة، ولعل خلو معظم القصص من أسماء النساء والرجال يحيل إلى تعميم العلاقات التي تربط بين المرأة والرجل وإلى عمومية النماذج البشرية الواردة في هذه القصص. على أن المرأة التي يقع عليها فعل الرجل والظروف في المجموعة هي ضحية بطرق مختلفة ولجلاّدين كثر" فمرة هي ضحية "العلاقة العصرية" التي تقوم على السطحية والجسدية وتعدّد الأقنعة، وتؤول الى السأم كما نرى في "دراما"، ومرة ثانية هي فريسة العيون التي تلتهم جسدها قطعة قطعة او مجرد آلة لإشباع شهوة الرجل يرميها على قارعة الطريق بعد أن يفعل بها ما يشاء أو مجرد جسد يشتهي الرجال تفاصيله ويشغلون مخيلاتهم به كما في "جول جمال" و"قارعة الطريق" و"حمّالة صدر أخرى"، ولا تخلو القصص الآنفة من نقد العصر والسخرية منه أو نقد النظرة الرجلية إلى المرأة. ومرة ثالثة، تبدو المرأة ضحية الحب وتروح تتدرّب على النسيان كما نرى في "هاتف أخير"، وقد تكون ضحية تواطؤ غير معلن بين الرجل وامرأة أخرى كما في "الصف المنتظم" او تواطؤ معلن بين رجلين الزوج والحبيب ليثبت الرجل انه يمسك بخيوط اللعبة كما في "الطرف الثالث"، وقد تكون ضحية الثقافة والمال فيتركها الزوج النفطي المثقف بعد ان يملأ أحشاءها بطفله لينصرف الى علاقات اخرى كما في "غير صالح للإستعمال"، وقد تكون ضحية المجتمع، مجرد مومس تشرب الخمر لتتفهّم ما ينزله بها الرجال من أذى كما في "حالات التعاطف"، وقد تكون ضحية الفراق تتلذذ به إذ يغادرها الرجال في منتصف الطريق بعد ان فعلوا ما بوسعهم للإيقاع بها كما في "لذة الفراق". وهكذا، يتعدد الجلادون وأفعالهم في المجموعة والضحية واحدة هي المرأة. وإذا كنا نقرّ بواقعية معظم القصص وتجسيدها الصدق الفني، فإن الإكثار من الحديث عن المرأة الضحية في المجموعة يجعلنا نعتقد ان الكاتبة مسكونة بعقدة الإضطهاد والضحية وتحاول حلّها بواسطة القص والكتابة. ثم أليس في مجتمع الكاتبة نماذج أخرى للمرأة قد تمارس فيها دور الجلاد، أو نماذج أخرى للرجل يكون فيها هو الضحية؟ على أن التعدد يتعدى مضامين القصص الى الخطاب القصصي" فتتعدد صيغ الكلام داخل القصة الواحدة، وكثيراً ما تجمع بين المتكلم والمخاطب والغائب، غير أن الصيغتين الأوليين هما الأكثر استعمالاً في قصص المجموعة تتواتران وتنسجان علاقة قصصية بين المرأة - الساردة - المتكلمة والرجل - الآخر - المخاطب، وكأن الكاتبة تريد بهذه العلاقة ان تستحضر في النص ما هو مفقود في الحياة، وأن تحدث توازناً معيناً بين المكتوب والمعيش. ولعل غياب الحوار عن قصص المجموعة يشكل في المقابل معادلاً فنياً لغيابه في الحياة في حالات كثيرة. وإذا كان معظم القصص من النوع الواقعي الممكن الحدوث، فإن اثنين منها على الأقل هما "قارعة الطريق" و"حاجات غريبة" تكسران حلقة الواقع وتحيلان الى اجواء فانتازية غرائبية ينكسر فيها منطق الأشياء وتسلسلها. أما البناء القصصي في المجموعة وهو أحد عناصر الخطاب، فيتفاوت بدوره من قصة الى اخرى، ويخلو في بعضها من اي حبكة قصصية. وتبدو بعض القصص اقرب الى الرسالة منها الى القصة كما في "هاتف اخير" و"قارعة الطريق"، ويفتقر البعض الى اية درامية ويغدو مجرد عرض أفقي لأحداث معينة كما في "لذة الفراق" فيما تبدو إحداها وهي "المصرّون على الفرح" أقرب الى المقالة التي يغلب فيها التحليل على السرد. وهكذا، وبعد مضي قرن من الزمان على الصورة التي رسمها قاسم أمين للمرأة يبدو لنا أن الصورة التي ترسمها نورا أمين لا تختلف عنها سوى في تفاصيل ولمسات معينة، فهل ما زلنا نراوح مكاننا في نظرتنا الى المرأة بعد قرن من الزمان؟ الأثر السردي الثاني الذي تشكل المرأة فيه موقعاً محورياً هو رواية "وشيش البحر" للكاتبة أماني خليل، فهل ترسم الصورة نفسها؟ المرأة في الرواية تبدو مختلفة عن تلك التي وقعنا عليها في المجموعة القصصية. فهي هنا حرة، مثقفة، قادرة على اتخاذ القرار، تقيم مع الرجل علاقات متكافئة، فهو حبيب أو صديق، أو أب أو أخ، تحاوره، وتعارضه، تقبل به او ترفضه، ولا تتورع عن اصطحابه والنوم عنده من دون اي حرج. وهي إمرأة عصرية تعيش آلام العصر وتعاني أمراضه، لذلك، نراها متقلّبة، متناقضة، غامضة كالبحر، تحس بالوحشة والفقد والفراغ، يطاردها الزمن ويتسلل البياض الى رأسها. فبطلة الرواية شابة فقدت والديها وسافر أخوها، تجد نفسها وحيدة تعيش في فراغ كبير وتروح تبحث عن طريقة تملأ بها الفراغ وتعوّض عن أبوة مفقودة، فتمضي أيامها في زيارة المعارض الفنية وارتياد الحفلات واكتشاف الأماكن، وفي العمل والقراءة، وتقيم علاقات صداقة أو حب أو أبوة مع ثلاثة رجال من الوسط الثقافي، وتسد هذه العلاقات مجتمعة حاجة البطلة الى الأبوة، وهي تصرخ بذلك في حوارها الداخلي الموجّه الى أبيها الراحل: "لو كنت معي الآن لما احتجت الى اي منهم، وأنت وحدك تكفيني في هذا العالم" ص80، 81. وهكذا، تختصر الأبوة في الرواية مشاعر الحب والصداقة والحنان معاً. ومن هنا، وتعويضاً عن رحيل الأب تجد البطلة نفسها محوراً في شبكة علاقات ثلاثية الإتجاه، أطرافها محمود الروائي، وسعيد الرسام، وعادل الطبيب. وإذا كانت العلاقات التي تنطلق منها البطلة - المحور الى الاطراف الثلاثة مختلفة وملتبسة، فترى في ضباب الشاعر الغامضة ان محموداً اقرب الى الأب، وسعيداً اقرب الى الصديق، وعادلاً اقرب الى الحبيب، فإن العلاقات التي تعود من الثلاثة اليها متشابهة، ترى اليها مجرد حبيبة، وكل منهم يمني نفسه بالحصول عليها. فلمن تكون؟ وما هو القرار الذي ستتخذه في نهاية الأمر؟ هذان السؤالان يجيب عنهما تطور الأحداث في الرواية. وفي غمرة توزّع مشاعرها على الثلاثة، يكون عليها ان تختار" فمحمود الروائي يحبها ويحنو عليها ويدللها ويعاملها كطفلة، وحين يكلمها بكلام الحب تصرفه عن ذلك معتبرة انه كلام صبية، هو يرى اليها حبيبة ويمني النفس بالحصول عليها وهي ترى أباً. ولذلك، تلازمه حين يمرض وتقلق عليه. غير أنّ عُمْرَ محمود ومرضه يقفان حائلين بينهما، فيخرج محمود اولاً من حلبة الاختيار. ويكون عليها، بعد ذلك، ان تختار بين سعيد الرسام وعادل الطبيب" فالأول شريك رحلاتها، معه تكتشف المدينة، تزور المعارض والحفلات، يرسمها في حالاتها الداخلية المختلفة ويقيم لها معرضاً خاصاً باسم فينوس الشرق، تترجح العلاقة بينهما بين مدّ وجزر، فحين يتفقان يخرجان معاً في رحلات استكشافية، وحين يختصمان يفرغ مشاعره نحوها في لوحات، وإذ تنقطع عنه يقلق عليها، وإذ يتقرّب اليها عادل الطبيب تأكل سعيداً نار الغيرة، وعندما يرى ان المنافسة التي يخوضها خاسرة يؤثر الإنسحاب مكتفياً بالصداقة غير انه قبل ان يفعل ذلك يخطو خطوته الأخيرة فيدعوها الى تناول الشاي في مقهى الفيشاوي، وهناك يخبرها بعزمه على السفر الى إيطاليا، ويعرض عليها الزواج والسفر معاً، فلا تعطيه جواباً نهائياً. اما الثاني عادل الطبيب فيحسّ منذ رآها للمرة الاولى انها له، وأنهما خلقا لبعضهما البعض. ويشعر بالضعف والحيرة وعدم المقدرة على السيطرة على الموقف، وهو الطبيب الذي تعوّد السيطرة على فريق كامل من الأطباء والممرضات والطلبة. يتحول من آلة إلى إنسان، يحسّ بالغيرة والاحتياج ولا يقبل تقاسمها مع الآخرين وخصوصاً محمود، ويسرّ اليها بهذا فيبدأ الشجار بينهما. ويعتمل فيه صراع بينها وبين زوجته، فيرى أنها أعادته الى الحياة وجعلته إنساناً تنتابه المشاعر المختلفة بينما لا تهتم الزوجة بغير الأثاث والديكور والموضة. عند هذا المفترق، يكون على بطلة الرواية ان تقرر لمن تكون، وهنا على رغم ميلها الى عادل وحبّها إياه، تستقيظ فيها المرأة بكل ما فيها من نزوع الى الاستقلالية والإحساس بالذات، فترفض ان تكون جزءاً مكمّلاً لحياة عادل، وتتطلع الى صنع حياتها الخاصة. ولذلك، تقرر الإبتعاد عنه والسفر الى الإسكندرية، وهناك، تنزل الى البحر مساء وتعود في الصباح وقد استيقظ فيها حنين الى الاماكن التي ارتادتها مع سعيد، فتعدّ حقيبتها للعودة الى مقهى الفيشاوي. وهكذا، تقول الرواية مداورة ان المرأة اختارت الحبيب الذي لا يشاركها فيه أحد، اختارت ان تكون كلاً مستقلاً في اتخاذ القرار لا جزءاً مكملاً للآخرين بقرار منهم. وهذا ما يميّز بين هذه المرأة المثقفة، الواعية بما تريد وما تفعل، وبين تلك التي تحدث عنها قاسم امين بداية القرن و"قريبته" نورا في نهايته. هذه الحكاية تقولها الرواية بالسرد والحوار اللذين يتوزعان النص بنسب متقاربة. وكل منهما يتوزع بدوره بين الخارج والداخل، ويتخذ السرد خطاً متكسراً يمضي قدماً راصداً الوقائع، ويعود الى الوراء متذكراً، ثم يتابع سيره بلغة تعنى بالتفاصيل والجزئيات والحركات، وتتلقّح سرديتها بشيء من الشعر، فتقترب من اللغة الأدبية. وبعد، ان صورة المرأة مع نهاية القرن العشرين تختلف بين أثر أدبي وآخر" فقد تكون نسخة طبق الأصل عن تلك التي عرفناها مع قاسم أمين بداية القرن كما في "حالات التعاطف"، وقد تكون مختلفة كل الإختلاف كما في "وشيش ا لبحر"، والأمر يتوقف اولاً وأخيراً على ثقافتها وثقافة الوسط الذي تعيش فيه. وأي الصورتين هي الأصدق تعبيراً عن المرأة في مجتمعاتنا؟ نقول: كلاهما صادقة، فالنموذجان موجودان بين ظهرانينا، غير أن المؤسف أن تكون شرائح كبيرة من هذه المجتمعات ما زالت تعيش بعقلية بداية القرن. * "حالات التعاطف": مجموعة قصصية لنورا أمين، صدرت في سلسلة "أصوات أدبية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، 122 صفحة من القطع الوسط. ** "وشيش البحر": رواية أماني خليل، صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، سلسلة "الكتاب الأول"، 106 صفحات من القطع الوسط.