الأدب شعور وإيمان، وكذلك الدين شعور وإيمان، فالعلاقة بين الدين والأدب علاقة حميمة فكلاهما ينبع من جوهر النفس البشرية، والإيمان مصدره القلب والشعور تماماً كما الحال مع الشعر والأدب. الدين والأدب يهدفان الى قيم معنوية ومثل انسانية عليا وحقائق روحية ثابتة. وبصورة عامة فالفن الأصيل يتصل في أساسه بالدين وفي رحابه السمحة يترعرع، كما أن الوحي الالهي يدفع الانسان الى الإيمان وطلب الخلود والحقيقة. الشاعر والأديب في عصرنا - كما كان حاله في كل عصر من عصور التاريخ - عليه أن يكون باعثاً للمتعة الروحية بكل معنى الكلمة، وليس فقط واعظاً اجتماعياً ومعبراً عن مثل سياسة آنية. وليس هناك من فردوس للقارئ البرم ولا عذر للأدب غير الجذاب الذي لا يثير القارئ أو يسمو بروحه فيعطيه المتعة ولذة السمو الروحي ليهرب من واقع العالم الأليم. إلا أنه صحيح ايضاً ان الأديب الجاد في عصرنا عليه ان يكون مهتماً بقضايا زمانه. فلن يفوته ملاحظة ان الدين - وبالتحديد الإيمان - أضعف اليوم مما كان عليه في عصور سابقة من عصور التاريخ الانساني. ان العديد من أطفال اليوم ينمون في عالم فقد معنى الإيمان الحقيقي بالله، ويجد هؤلاء انفسهم من دون أي احساس بمعنى العقاب والثواب، أو إيمان بخلود الروح وبقائها، ويفقدون بالتالي أي إيمان بجدوى الأخلاق وضرورتها في الحياة. والأديب الأصيل لا يمكنه تجاهل الحقيقة المؤلمة المتمثلة في زوال القاعدة الروحية للعائلة وبالتالي انهيار الصرح العائلي نفسه. وانسان اليوم يشعر بخيبة أمل عظمى تفاقمت منذ الحرب العالمية الثانية على رغم كل الانجازات العلمية والتقنية التي أبدعها الانسان في نصف القرن الأخير، وبات يشعر بوحدة وبكثير من النقص وبخوف عميق من الحرب والثورة والارهاب. لم يفقد الانسان المعاصر الإيمان بالعناية الالهية فحسب، بل فقد إيمانه بالإنسان نفسه وبمؤسساته ايضاً، وفقد ثقته في اولئك الذين هم أقرب الناس اليه. وفي غمرة هذا اليأس يتوجه العديد من الذين فقدوا الثقة بأولئك الذين يقودون المجتمع الى الكاتب - صاحب الكلمة - يحدوهم الأمل في أن يتمكن هذا الانسان الموهوب أو الحساس من انقاذ الحضارة، وذلك ان قبس الإيمان يكمن في قلب الأديب في نهاية الأمر. فكلما اشتدت حلكة الظلام واعتقد معظمنا في استحالة ايجاد طريق للخلاص، يبزغ أمل جديد مشيراً علينا ان الوقت لم يفتنا جميعاً فيحثنا على التمسك بخيوط الأمل ويفرض علينا أن نأخذ كل شيء بعين الاعتبار لنصل الى قرار يهدينا الى الخلاص. فالإيمان بقوة الاختيار لا يمنع أبداً من قبول فكرة ان الكون خلق ليحقق هدفاً معيناً، فالعاقل الحصيف لا يمكنه قبول فكرة ان الكون ما هو الا صدفة من صدف الطبيعة أو الكيمياء أو أنه جاء نتيجة تطور أعمى. فهناك بعض الحقائق الروحية التي لا بد لنا ان نعترف بها جميعاً في يوم ما على رغم كل ما تعرفنا عليه من كذب وكلام أجوف وأصنام خلقها العقل البشري فافسدته وغررت به. فلا بد ان هناك وسيلة للانسان لكي يتمتع بكل ما حباه الله من متع الدنيا ولذاتها، ويغترف من ثمار المعرفة التي تغدقها عليه الطبيعة، من دون أن يكون ذلك على حساب إيمانه بالله جل جلاله أو القيام على عبادته وخدمته - لأن الله يتحدث بالأفعال لا بالأقوال، وما الكون الا حروفه وكلماته. والأدب الأصيل قادر على خلق آفاق ومنظور جديد في الفلسفة والدين والجمال والاجتماع. والأدب العربي قديمه وحديثه حوى قيماً، والشاعر مؤمن بالله بحكم فنه الأصيل، وفي تشاؤمه وتفاؤله أخلاقية تكمن في إيمانه بأن هناك طريقاً لخلاص الانسان من العبودية والفناء. وبينما يخلق الشاعر المتعة الروحية فإنه يسعى أيضاً ليكشف لنا عن حقائق ازلية وعن جوهر الوجود بأسلوبه هو وبطريقته الخاصة، ويسعى نحو حل الغاز الزمن والتحول، ويستقصي أسباب المعاناة، ويكتشف المحبة في غياهب الظلم. والشاعر غالباً ما تراوده الفكرة بأنه كلما انهارت النظريات الاجتماعية، وتركت الحروب والثورات الانسانيةَ في ظلام دامس، يأتي الشاعر الاصيل الذي طرده افلاطون من جمهوريته لينقذنا. * اكاديمي لبناني، استاذ كرسي جبران خليل جبران في جامعة ماريلاند في الولاياتالمتحدة.