يمكن القول ان ما يسمى "الحلم الاميركي"، ذلك التعبير الشائع المعروف، هو الموضوع التقليدي لأكثر الروائيين المعاصرين الكبار، امتداداً من فيتزجيرالد في "غاتسبي العظيم" الى نورمان ميلر في "الحلم الاميركي" وفيليب روث في آخر رواية له صدرت العام الما ضي "رعوية اميركية". وحتى بول بولز الذي لم يكتب رواية تقع أحداثها في اميركا، كان يكتب عن "الحلم" باستراتيجية مختلفة عن الآخرين: فهو يقذف بأبطاله الاميركيين في محيط "آخر" حقاً هو عادة، المغرب أو اميركا اللاتينية بعد ان يجردهم من حصانة المجتمع الاميركي، بل من آخر علائم الحضارة الغربية كما فعل في "السماء الواقية"، حيث تنتهي بطلة الرواية، في هودج قافلة تعبر الصحراء نحو مصيرها المجهول وتكاد تفقد حتى ذاتها فلا تعود تعرف من هي. ويمكننا ان نرى ذلك، بلسان بولز نفسه، في رسالة كتبها الى صديقه الروائي جيمس ليو هيرليهي مؤلف "كاوبوي منتصف الليل" و"الكل يسقط" في 1966: "ما يعجبني في كلا الكتابين، عدا الأسلوب، هو الطريقة السهلة التي تقبض بها على الولاياتالمتحدة وجوهرها الخاص، لكن من دون ان تعبر عن أي رأي ليس من صميم القصة، ومن دون لمحة تنم عن عدم الرضا. مذهل! وأفترض ان هذا يؤثر فيّ لأنني كنت دائماً أخاف من الكتابة عن اميركا. فأنا أعرف تماماً ان كراهيتي ستظهر على رغم كل التحوطات. لقد قضيت سنوات أفكر بألف وجهة نظر قد تعينني على تغطية مشاعري وبذلك تسمح لي بأن استعملها كموقع في رواية، لكن يبدو ان هذا غير ممكن. يمكن ان لا تحمل العواطف الاجرامية تجاه اميركا لكن المعجزة، في كلا الحالين، واقعة. إما أنك وجدت الطريقة الصحيحة في النظر اليها منذ البداية أو وجدت طريقة ما لإخفاء حقدك. في الحالة الأخيرة، هي مهارة أدبية، وفي الأولى، يمكنك ان تعتبر نفسك محظوظاً قبل كل شيء". في جميع هذه الروايات، ينقلب "الحلم" عادة الى كابوس تنهار فيه القيم والركائز والثوابت من حيث لا يدري أبطالها، كأنها بيوت من ورق، تحت ثقل ما يسميه روث "البيرسيرك" الفلتان، الجنون الاميركي American Berserk أو كما يقول نك كاراواي الراوية في "غاتسبي العظيم" عن الاشخاص الذين يقابلهم: "كانوا يحطمون الاشياء والمخلوقات ثم ينسحبون الى مآلهم أو لا مبالاتهم الهائلة، أو الى أي شيء آخر يربط بينهم ويتركون للآخرين ان ينظفوا بقايا الحطام الذي خلفوه وراءهم"! ويمكن اعتبار "رعوية اميركية" لفيليب روث خير مثال على ذلك، بل يمكن اعتبارها صيغة اخرى، معاصرة، "غاتسبي العظيم". فعلى رغم جميع مساعي بطل الرواية في العمل على تحقيق حلم الرفاه له ولزوجته وابنته ماري، وعلى رغم ايمانه الكامل بقيم الطبقة المتوسطة، المجزية عادة، وتفانيه في خدمتها، تجازيه اميركا بالإجحاف والمرارة. "رعوية اميركية" تروي قصة سيمور لفوف الملقب "بالسويدي" لأنه شديد الشقرة وهو يهودي اميركي من ثالث جيل يبدو في البداية كأن حياته تجسيد مثالي للحلم الاميركي لكنها سرعان ما تتدهور حتى تكاد تشبه حكاية أيوب، مع فارق واحد هو غياب كل أمل بالخلاص وغياب الحضور الإلهي، فأميركا هي الكل، وهي صماء ولا تصغي ولا تبالي. سيمور لفوف يرث معملاً لصنع القفازات في نيوارك نيوجيرزي ويصبح مليونيراً، بالإضافة الى كونه لاعب بيسبول لامعاً يحقق جميع أحلامه تقريباً فهو يتزوج ملكة جمال سابقة، ويقتني قصراً "رعوياً" في الريف وله ابنة جميلة مدللة. ثم تنتهي فترة الخمسينات وتبدأ الستينات بكل عنفها وصخبها الثوري. وعندما تقسم حرب فيتنام البلاد قسمين تبدأ ابنته فاري، مثل كثير من أبناء الأسر الثرية باستهجان الثراء واحتقار القيم التي يؤمن بها أبواها، فهي تشارك في حركة المقاومة ضد حرب فيتنام وهي في السادسة عشرة، وذات يوم تفجر دائرة البريد بقنبلة فتقتل رجلاً بريئاً وتختفي عن الأنظار. لكن سلسلة الفواجع لا تنقطع: فنيوارك مدينة غالبية سكانها من السود تمزقها الاضطرابات والحروب العنصرية، وماري تعود بعد خمس سنوات من الضياع والتشرد لتكسر قلبه ثانية. ويدور القسم الأخير من الرواية حول حفلة عشاء تنقلب الى كارثة، وتكشف عن هاوية الكذب والنفاق والخيانة التي تكمن تحت سطح العلاقات في "الجنة الرعوية" المزعومة التي كانت حتى الآن، تمثل ملجأ من الجنون الدائر في الخارج، وتوهم بالحماية. إنه العام 1974 وعندما يبدأ والد البطل لو، وهو رجل بسيط غير مثقف لكنه يتحلى بأخلاق صارمة بمهاجمة نيكسون والاحتجاج ضد أفلام البورنو والتدهور الأخلاقي الشامل، تفقأ زوجة الصديق السكرى عينه بشوكة الأكل وفي الوقت نفسه يكتشف البطل ان زوجته تخونه مع الصديق. ولكي يجعلنا روث ندرك أبعاد هذه النهاية، يختتم "الحفلة" بضحكات ضيفه، محايدة هذه المرة، تنطلق مجلجلة ناعبة كأنها غراب البين. انها رواية مكتوبة بلغة العاطفة والصرامة والهجاء المُرّ، على عادة فيليب روث، وبلهجة دينية واضحة كأنه نبيّ من انبياء التوراة القدامى ينادي بالويل والثبور على اطلال سدوم وعامورة. بول أوستر كاتب من صنف مختلف تماماً "هذا كاتب تشعّ اعماله بالأصالة والذكاء" كما قال عنه دون ديليّو. وعندما كتب روايته "موسيقى الصدفة" اختار اسلوب الأليغوريا او الأمثولة كما نجدها عند كافكا، خصوصاً في روايته "القلعة". بل ان ثيمة "القلعة" تتردد في الرواية بشكل جديد تماماً، فالمليونيريان المجنونان، فلاور وستون، يشتريان قلعة حقيقية خربة دمّرها أوليفر كرومويل في القرن الخامس عشر، من نبيل مفلس، ويشحنان احجارها على متن سفينة من وادٍ مغمور في ايرلندا الى قصرهما في بنسلفانيا من دون ان يعرفا ماذا يفعلان بها. ولا شك ان النبيل الايرلندي المسكين شعر بالاحتقار لهذين الاميركيين اللذين يريدان ان يشتريا التاريخ، ولكن كما يقول ستون، المليونير السمين: "المال يتكلّم". بطل الرواية، جيم ناش، يعيش في عالم قدريّ غريب يبدو له فجأة بلا معنى ويترك وظيفته كإطفائي بعد ان يرث بعض المال، بل يترك زوجته وابنته ويقضي سنة كاملة "لا يفعل شيئا سوى الطواف عبر اميركا في سيارته بانتظار ان ينفد المال. بلا هدف ولا غاية حتى تحدث "الصدفة" التي تغير كل شيء، واذا به وجهاً لوجه مع حقيقة العالم الذي يعيش فيه: انه الشرّ المطلق، و"موسيقى الصدفة" أمثولة عن الرأسمالية بكل جشعها وسوقيتها بل ولا معناها في النهاية. يتغيّر كل شيء عندما يلتقي ناش في طوافه بمقامر محترف هو جاك بوزي، متهوّر وطائش ومفلس لكنه ماهر في لعبة البوكر، يقنعه بأن يستثمر ما تبقى لديه من المال، وهو عشر آلاف دولار في لعبة مضمونة النتيجة مع مليونيرين غريبي الأطوار يهويان البوكر، وسبق له ان غلبهما بسهولة ذات مرّة. وهكذا يخاطر ناش بكل ما يملكه على مائدة القمار. لكنهما يخسران، وتتخذ الخسارة أبعاداً مصيرية بالنسبة الى كليهما عندما يقامر على سيارته، بل وعلى عشرة آلاف دولار ا ضافية، وفي النهاية يخيّرهما المليونيران بين السجن او ايفاء الدين بطريقة كافكوية: ان يبنيا جداراً هائلاً من احجار القلعة المهملة في الغابة عقاباً لهما، جداراً لا معنى له سوى ان المليونير ستون، كما يقول، يعتقد "ان الجدار شيء جميل". ويعطي بول اوستر شخصيتي المليونيرين في روايته بُعداً رمزياً واضحاً يربطها مباشرة بالثقافة الاميركية السائدة خصوصاً ثقافة هوليوود. فهما يشبهان الكوميديين لوريل وهاردي، السمين والنحيل، ولكن من دون فكاهة بل بالعكس، انهما باردان وصارمان الى حد القسوة والقتل. وهم مُحدثا نعمة فقد كانا فقيرين لكنهما ربحا اليانصيب فجأة واذا شراهتهما في جمع المال لا تعرف الحدود. ان عبثية العقاب الذي يُنزلانه ببطلي الرواية تدفع بالأخير الى اليأس ومحاولة الهرب والموت، بينما يرحب ناش بهذه الفرصة ليستعيد ذاته، او بالاحرى ليكتشف ذاته الجديدة، وان يجد الحرية في القبول بتأدية العقاب، لكنه يفشل ويكاد ينهار عندما يكتشف سلطة الشرّ التي تتحكم بمصيره واذ يتفاقم غضبه وسخطه لا يبقى امامه سوى الانتقام لكن بشرط: ان يقدّم نفسه ضحيّة. رواية "موسيقى الصدفة" هي أمثولة الرأسمالية الاميركية بامتياز. حلم الرفاه ينقلب الى مسخ، والرغبة في الاستعباد من اجل ذاته لا تولّد سوى التمرد والموت. وبول أوستر في روايته هذه ليس متشائماً بقدر ما هو فنّان خارج اللعبة ينظر اليها بعدسة مقرّبة، ويسلّط ضوءاً حادّاً على خيوطها الخفيّة التي تحرك اللاعبين. دون ديليّو روائي بارز آخر يحاول ان يكشف قوانين هذه اللعبة الفريدة. فرواياته ضجيج ابيض، كلب يركض، ليبرا على رغم شخصياتها الغنية التي تستحوذ على الذاكرة يكمن همّها الرئيسي في تصوير الشخصيات، كما عند روث مثلاً، بقدر ما يكمن في سعي الكاتب الى استدعاء قوى وسلطات خارجية تستحوذ عليها، خالقاً بذلك توترات صادمة بين حيواتها الباطنية وبابل الثقافة السائدة التي تُرعد من حولهم وتنفذ الى اعمق الزوايا وأخفاها. وروايات ديليو عبارة عن خطوط وأصداء متعارضة، مصادفات منذرة بالويل، وايحاءات بالمؤامرة انها في الواقع تدور حول تحولات أميركا ووجوهها المتقلبة. و"الانفلات" أو التفكك هو بالذات ما يحاول ديليو ان يعطيه شكلا، في أكثر رواياته، خصوصاً في روايته الأخيرة "العالم السفلي" ذات الصفحات المتشابكة الملتفة في نثر يميل الى النبوءة والعرافة. فديليو، مثل جيمس جويس في "يولسيز" سيد من سادة النثر الروائي ورواياته في النهاية بنى لغوية خارقة، مليئة بالسر والمعنى. وإذا كان ماركيز وبقية كتّاب أميركا اللاتينية أبدعوا مفهوم الواقعية السحرية في الرواية، فإن بعض الروائيين الأميركيين الجدد اخترعوا مفهوماً جديداً يمكننا ان نسميه "الواقعية الموسوعة" وهو شيء آخر تماماً. وأفضل من يمثله توماس بنشون الذي يعتبر كثير من النقاد روايته الضخمة "قوس قزح الجاذبية" أعظم رواية اميركية كتبت في القرن العشرين. ودون ديليو ينحو في كتابته منحى بنشون، أي الرواية التي هي، في النهاية، "كون من الوقائع" أكثر من كونها سرداً محايداً لتلك الوقائع. كل شريحة من شرائح الثقافة السائدة تمثل شهادة حية ومعنى بالنسبة الى هذا الروائي. و"العالم السفلي" في محاولتها لاستجلاء معادلة أو نظرية يمكنها أن تحتوي عماء العالم وتعالج في تفاصيلها موضوعة الحرب الباردة وروح الاستهلاك والتبديد، وحياة المدن السرية، والعصر النووي، وكما في أكثر رواياته الأخرى، أشكال الثقافة الشائعة التي لا تكف عن التحول والاستيلاء والتناسخ الى ما لا نهاية. على أن علامات النذير، والقوى التي تسطّح الشخص وتكاد تمحقه في بنية الأحداث التي لا تلوي على شيء، كل هذا كان سيكون مجرد ابتذال للواقع أو تجميع لا على التعيين لامتلاء الحياة وفيضها لولا أن ديليو يجترح تفاصيلها ووقائعها بدقة وتصويب كبيرين. و"العالم السفلي" على رغم انها يمكن أن تقرأ كحلم عرّاف غارق في دخان رؤياه، مؤسسة على تسجيل حي للوقائع، مليئة بحس فكاهي وانساني مُلهَم، فهو مرة بعد أخرى، وفي كثير من الحالات عندما لا يتوقع القارئ ذلك، يتجاوز الوصف الى قلب الوضعيات التي يجد أبطاله أنفسهم فيها وجهاً لوجه مع العالم اليومي بكل فوضاه ومطالبه وأزماته، يقول مارفن لوندي مثلاً، من شخصيات الرواية: "ما معنى ان تستيقظ في الصباح، إذا لم تحاول أن تجابه هول القوى التي تعصف بالعالم، عن طريق شيء قويّ أيضاً موجود في حياتك أنت؟". لوندي شخصية قلقة لا تجد الراحة في عالمها كما هو. ويعتقد ان المستقبل مكتوب في الشامة التي تزيّن صلعة غورباتشوف مثلاً، كما يتعجب مشككاً لماذا لا نجد غرينلاند، مثلاً، في المكان نفسه على خارطتين مختلفتين! انه ضحية البارانويا ولا شك، لكن ديليو يرينا أيضاً ان منطق البارانويا، في نهاية الأمر، لا يختلف كثيراً عن منطق الفن. فالوهم، كما التحفة الفنية، محاولة لفرض النظام على عماء التجربة وزخم المحفزات والوقائع. ويصور ديليو، بتعاطف مرهف مع أبطاله، كيف أن منطق مارفن لوندي يكمن وراء وساوس إدغار هوفر، مدير وكالة التحريات أف بي آي وانهماكه الجنوني بجمع الملفات السرية عن الآخرين، وراء أوهام السيادة والبطولية في ذهن قاتل يرتكب سلسلة من الجرائم، ووراء الحوافز التي تدفع رسام غرافيتي على جدران نيويورك وقطاراتها الى الإمعان والتفنن في رسمها، وما يدفع فنانة أخرى هي كلارا ساكس الى تحويل طائرات قديمة من الحرب العالمية الثانية، كانت قاذفات للقنابل والموت، عن طريق رسمها، الى أشياء تمتلك نوعاً من الجمال. وهو الدافع الذي يجعل ديليو يحفر في مناطق التاريخ الهامشية لينقب عن صلب التجربة الأميركية ويلمّ أشلاءها من كل مكان لعله يعيد صياغة الحلم من جديد، أو على الأقل يرينا تجلياته الخلاّبة اللانهائية المليئة بالأسرار.