الحديث عن الإسلام والتنمية ليس حديثاً عن كل من الإسلام والتنمية بصفتيهما مصدرين للمعرفة، مستقلين او متداخلين، او محاولة في "التوفيق" بينهما لربط الإسلام بالتنمية وايجاد وحدة عضوية بين الموروث والوافد، كما قد يوحي حرف العطف "واو". ولكنه حديث في ملامح التصور الاسلامي للإنسان والعلم بما يتضمنه التصور من مقومات للتنمية، او محاولة في بناء مفهوم إسلامي للتنمية عبر قراءة لأهم العناصر المكونة للتنمية في القرآن الكريم من حيث كونه المصدر الأول للفكر الإسلامي. صحيح ان لفظ تنمية لم يرد في القرآن، وورد في السُنة في صيغة اسمية نماء بمعنى تطور وخير وأمل، وذلك كما في: "حسن الخلق نماء وسوء الخلق شؤم"، وفي "والعمل بما فيه نماؤه ومصلحته وكراب ارضه"*. ولكن الصحيح ايضاً ان الفاظاً وردت في القرآن لها من الدلالات ما يشير الى "موضوع" التنمية. ولعل اهم الالفاظ ذات الدلالة: الارض، بما فيها وما عليها. والارض واضحة وبارزة في القرآن الكريم، تقرن ب "الله" وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: "قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قُل أفلا تذكرون" المؤمنون: 84- 85، وفي قوله سبحانه: "رب السموات والارض وما بينهما ورب المشارق" الصافات: 5، وقوله تعالى: "فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين" الجاثية: 36. بل إن لفظ الارض ورد وتكرر في القرآن مئات المرات 465 مرة، معظمها بألف ولام التعريف 451 مرة من دون ضمائر ملكية 453 مرة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على ان "الارض" ميدان للسعي والكد والكدح والعمل والانتاج ك "ملكية عامة". وهي مسألة ذات دلالة في ما يتعلق ب "موضوع" التنمية، إذ لا توجد تنمية بلا ارض تكون موضوعاً لتنمية الموارد. وإضافة الى ان صورة "جنات النعيم" إنما جاءت، في القرآن، على منوال "جنات الارض"، فان القرآن يقدم لنا اكثر من مثال ذي دلالة يتعلق ب "مضمون" التنمية كعملية "مستقبلية". فمن حيث ان التنمية عملية مستقبلية، يكفي ان نتأمل، كمثال، قوله سبحانه وتعالى: "يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع الى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تُحصِنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وفيه يَعصرون" يوسف: 46-49. هنا يبدو "تأويل" يوسف لما رآه فرعون في منامه بضرورة الاستعداد في اعوام الرخاء لأعوام القحط بتخزين الحبوب. ومن ثم، وعبر تأمل هذا "المثال" القرآني، يمكن تلمس مفهوم المدخرات العينية. هذا بالاضافة الى المدخرات المالية من الخراج والزكاة والصدقات. فكل ثمر يثمر له "حق" يؤدى وقت الحصاد، وكل ارض لها خراج، وكل مال عليه زكاة، ضد الجوع وسوء التغذية والقحط والفقر، اي ضد "مفاجآت" المستقبل، او بالاحرى "استعداداً للمستقبل". أما من حيث مضمون التنمية، فيكفي ان نتأمل، كمثال آخر، قوله سبحانه وتعالى: "وأوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعْرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون" النحل: 68- 69. هنا، يبدو كيف ان الله تبارك وتعالى ألهم النحل اموراً ثلاثة: كيف يسكن، وكيف يأكل، وكيف يكون حراً، ثم عقب سبحانه بأن الامور الثلاثة هذه، متى تحققت في حياة النحل، فان هذه "الحشرة" الصغيرة ستعطي للانسانية والوجود الانساني عسلاً مختلفاً الوانه "فيه شفاء للناس". وبالتالي، وعبر تأمل هذا "المثال" القرآني، او الاصح عبر "التفكر" في هذه الآية الربانية، هل لنا ان نقول: هذا هو "مضمون التنمية... النحلية"، او ان نقول: من دون امتلاك النحل لتلك "الكيفيات" الثلاث، ما كان ليستطيع ان يمتلك "المقدرة" على ان يخرج من بطونه: "شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس"؟ الوصول الى الهدف، إذن، لا يتم، ولا يمكن ان يتم، إلا عبر امتلاك المقدرة على الوصول اليه. وان هذه الاخيرة، المقدرة، لا يمكن ان تتحقق الا من خلال توافر "كيفيات" تحقيقها. يكفي ان نتأمل، كمثال اخير، للدلالة على قولنا الاخير هذا، قصة موسى والعبد الصالح في سورة الكهف. يقول سبحانه وتعالى: "فانطلقا حتى اذا أتيا اهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه قال لو شئتَ لاتخذتَ عليه اجراً" الكهف 77. فماذا قال العبد الصالح في "تأويل" هذا الحدث؟ يقول سبحانه: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحاً فأراد ربك ان يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبراً" الكهف: 82. وهنا، يبدو ان الارادة الالهية شاءت ان يظل الكنز مخفياً، حتى يبلغ الغلامان اشدهما، ويستخرجا كنزهما. وهكذا، وعبر تأمل هذا "المثال" القرآني، يصح القول ان استخراج الغلامين للكنز ما كان يمكن ان يتم، حسب الارادة الإلهية، من دون ان "يبلغا أشدهما" أي من دون ان يبلغا، حسب ما يشير اليه لفظ "أشدهما" من دلالات، المقدرة على استخراج الكنز، سواء كانت هذه المقدرة بدنية او معرفية في حال من الرشد. وينبغي ان نلاحظ، هنا، ان تأويل العبد الصالح للحدث، والذي مؤداه ان الغلامين: "يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما"، بناء على الارادة الإلهية، وفي إطار "رحمة من ربك"... ليس تأويلاً شخصياً من قبل العبد الصالح، ولكنه "علم" من المولى عز وجل. يقول تعالى، حول بداية اللقاء بين موسى والعبد الصالح: "فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" الكهف: 65. في هذا السياق، سياق ما تشير اليه الامثلة القرآنية السابقة، فان اول الملامح التي يمكن التوصل اليها بشأن بناء "مفهوم اسلامي للتنمية"، هو ان التنمية عملية ذات بُعد مستقبلي لا تتم الا من خلال امتلاك المقدرة على الانجاز، سواء كانت هذه المقدرة "مادية" او "معرفية". فكيف، اذن، يمكن امتلاك المقدرة هذه؟ لعل مقاربة التساؤل المطروح يمكن ان تتم عبر ملاحظة "البُعد المستقبلي" للتنمية الذي تعلمناه من "تأويل" يوسف لما رآه فرعون في منامه. إذ، عبر ملاحظة هذا "البعد المستقبلي"، يمكن القول ان التنمية عملية ضرورية من اجل تحقيق هدف محدد مواجهة السنوات العجاف، او خروج العسل، او استخراج الكنز... كأمثلة قرآنية. من هنا نكتشف انه مهما يكن ما نريد ان نحققه فانه لا يتحقق الا في المستقبل، بعد الواقع ولو بلحظة من الزمان. بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر الزمان البعد المستقبلي في التنمية، نلتقي بأول وأهم شروط تحقيقها وامتلاك القدرة على إنجازها. وما دمنا نبدأ من الواقع للوصول الى هدف محدد في المستقبل، فان إمكان الوصول الى هذا الهدف لا يكون متوقفاً على مجرد إرادتنا وعملنا، بل - قبل الارادة والعمل - على ما اذا كان الواقع الذي نبدأ منه، أو الاصح الاشياء والظواهر التي يتكون منها هذا الواقع، منضبطة في حركتها الى المستقبل بقوانين أو نواميس- حتمية - أم لا. فهل الاشياء والظواهر منضبطة في حركتها بقوانين او نواميس حتمية؟ وإن كانت، فهل يمكن - في سبيل الوصول الى الهدف المنشود - قطع الامتداد التلقائي لحركتها حتى لا تُترك على حالها في اطار هذه النواميس وتلك القوانين؟ ثم، اين دور الارادة الإنسانية، إن كان لها اصلاً دور؟ في مواجهة هذا التساؤل ذي الشعب، لا بد من التعرض لنقاط ثلاث اساسية: النقطة الاولى، لو لم يكن كل شيء خاضعاً في حركته لقوانين او نواميس حتمية لما استطاع اي انسان تحقيق شيء أراده او يريده، ولما استطاع انسان ان يقول إنه "سوف" يشعل عوداً من الثقاب وأن يشعله فعلاً، ولما استطاع الناس ان يعدوا بالنزول على سطح القمر وان يصمموا ويصنعوا أداته المتفقة مع ظروفه وان ينزلوا عليه في الموعد الذي حددوه. ولا نعتقد بأن في ما نقوله جديداً، بل لا نغالي اذا قلنا ان "الحتمية" اي: انضباط حركة الاشياء والظواهر على قوانين او نواميس لا تتبدل لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى مسلماً. فقد اتخذ الإسلام من انضباط نظام الكون ونواميسه حجة على الذين لا يؤمنون، يقول سبحانه وتعالى: "سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا" الاحزاب: 62، ويقول سبحانه وتعالى: "ولا تجد لسنّتنا تحويلاً" الاسراء: 77، ويقول تعالى: "إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون" البقرة: 124، ويقول: "قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون" القصص: 71-72. وهكذا نجد ان جانباً كبيراً من آيات القرآن يكاد يكون مقصوراً على تعليم الناس، بصيغ شتى، مدى ما في الكون من اتساق ونظام محكم. وهو، وإن كان يأخذ من هذا دليلاً على وجود الله وعلى وحدانيته كما في قوله: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" الانبياء: 22، فإنه، في الوقت نفسه، يدعو الناس الى ان يتأملوا ما في الكون من آيات او سنن لا تتبدل، لا لمجرد التأمل، ولكن لمعرفتها والعمل وفق نظامها في اطارها لتحقيق أهدافهم. النقطة الثانية هي أن الوصول الى تحقيق هدف محدد في المستقبل يتطلب ضرورة تدخل الإنسان لتغيير الواقع الذي يبدأ منه، أي قطع الامتداد التلقائي من الماضي الى المستقبل لحركة الاشياء والظواهر التي يتضمنها هذا الواقع لأنه اذا ما تركت الاشياء والظواهر على حالها فسوف ينعدم إمكان تحقيق الهدف المراد بلوغه لو ترك الناس المعادن على حالها لما استطاعوا ان يصمموا ويصنعوا سفينة الفضاء التي نزلوا بها على سطح القمر، ولو ترك العبد الصالح الجدار على حاله لينقض لوجد الناس الكنز ولما استطاع الغلامان "بعد ان يبلغا اشدهما" ان يستخرجاه... بناء على ذلك، فان التغيير المطلوب لا يعني قبول او متابعة التحولات التي يقدمها الواقع تلقائياً، بل يعني تحقيق مضامين نريدها ونعمل على تحقيقها، لأنها غير متوقعة الحدوث في الواقع - طبقاً لما نريد تحقيقه من اهداف - من دون تدخلنا. وما هذا "الواقع" الذي تكرر في حديثنا، والذي يمثل - في حقيقته - المجال "الفعلي" لعمل الانسان وتدخله، سوى "الارض" أو "الطبيعة المادية" كما يقول المحدثون. ومن ثم، فما كان يمكن للتدخل الانساني ان يتم إلا اذا كانت الاشياء والظواهر التي يتكون منها هذا الواقع منضبطة في حركتها على قوانين ونواميس حتمية، بمعنى ان يكون الواقع، او بالاحرى الطبيعة المادية، وبالاصح الارض، طيّعة للانسان ومسخرة له. قولنا الاخير هذا ينبني على ان مفهوم التسخير في القرآن هو مفهوم رئيسي وردت مشتقات لفظ "سخر" في القرآن 26 مرة يحدد علاقة الإنسان بالارض الطبيعة. يقول سبحانه وتعالى: "الله الذي خلق السماوات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار" ابراهيم: 32، ويقول تعالى: "وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار" ابراهيم: 33، ويقول: "وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا" الجاثية: 13. واذا كانت "الارض" او "الطبيعة" هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله، فان في استعمال القرآن تعبير "السخرة" للدلالة على هذه العلاقة ما يؤكد - بشكل قوي الدلالة - على ان الإنسان هو "القادر" و"المسؤول" عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه. النقطة الثالثة هي أن قدرة الانسان ومسؤوليته على تغيير واقعه وتحقيق اهدافه إذ مهما يكن التغيير الذي نريد ان نحدثه في الواقع، فهو اضافة ليست قابلة للتحقق تلقائياً من دون عمل الانسان، هما امران يتطلبان "الإرادة الإنسانية الحرة" وهل الإنسان أقل من النحل؟!. بيد أن ثمة تساؤلاً يطرح نفسه وهو: هل هناك تناقض ما بين حتمية السنن الإلهية اي التي لا تتبدل وبين حرية الإرادة الإنسانية؟ إنه التساؤل الذي عُرف في تاريخ الفكر الإسلامي بمشكلة "الجبر والاختيار"، والتي قسمت الفقهاء والفلاسفة والمتكلمين الى مدارس عدة. ولسنا نريد، هنا، الدخول الى تفصيلات هذه المشكلة. ولكن يكفي ان نشير الى ان انصار "الجبرية" ألغوا حرية الإرادة الإنسانية، واستندوا في هذا الى عديد من آيات القرآن قالوا إنها تسند الإرادة والفعل كليهما الى الله، وتحيل الإنسان أداة لا إرادة لها ولا خيار: "إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم ان يستقيم. وما تشاؤون الا ان يشاء الله" التكوير: 27- 29، "والله خلقكم وما تعملون" الصافات: 96، "ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلّهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس: 99. أما أنصار "القدرية" قدرة الانسان على الاختيار والفعل، فمع تسليمهم بانضباط الوجود بسنن مُحكمة لا تتبدل، أسندوا الارادة والفعل الى الانسان، واستشهدوا على هذا بعديد من آيات القرآن التي تضع الانسان امام مسؤولية ما يختار ويفعل على اساس ان الحرية في الاختيار هي مناط المسؤولية: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الكهف: 29، "كل امرئ بما كسب رهين" الطور: 21، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" البقرة: 286، "ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون" يس: 45. وإزاء صراحة النصوص القرآنية، لا يكون عسيراً ان نهتدي الى الوضع الصحيح للمسألة: فهم حرية الارادة الانسانية في نطاق حتمية سنن الله ونواميسه، فهم الخاص في نطاق العام، او فهم الحرية في نطاق الضرورة كما يقول المحدثون. فكأن "الرأي" هو ان القدرة الالهية كما تجسدها سنن الوجود التي لا تتبدل هي الشرط الاول لمقدرة الناس على ان يختاروا وأن يفعلوا. والله على هذا الوجه هو "خالق ما يفعلون". أما الناس، فوثوقاً منهم بثبات ذلك الشرط وعدم قابليته للتبديل يختارون ما يفعلون على مسؤوليتهم عن الاختيار والفعل. وبقدر ما يلتزمون سنن الله، بقدر ما يوفقون في تحقيق ما يريدون. في هذا الاطار، إطار الدائرة المكونة للنقاط الثلاث المشار اليها، فان ثاني الملامح التي يمكن التوصل اليها بشأن بناء "مفهوم إسلامي للتنمية" هو ان التنمية عملية ذات بُعد انساني لا تتم إلا من خلال امتلاك حرية الارادة الانسانية، المشروطة بنطاق حتمية السنن الالهية التي لا تتبدل. فكيف، إذن، يمكن امتلاك حرية الارادة هذه؟ من نافلة القول أن "الانسان الفرد" غير موجود بمفرده في الواقع، ولكن الموجود أفراد ينتسبون الى نوع الانسان. إنهم محمد أو احمد أو صلاح أو عائدة أو سعاد وكلهم انسان، فالانسان لم يوجد قط في غير "مجتمع". وتكفي الملاحظة المجردة من اي علم، لنعرف ان "الفرد الواحد" او "الإنسان الفرد"، لا وجود له الآن، ولم يعثر عليه من قبل، ولو تصوراً، الا تلك الفترة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، والتي بقي فيها "آدم" وحيداً قبل ان تخلق حواء. بل تكفي الملاحظة ذاتها لنعرف ان كل فرد هو جزء من مجتمع، ولو كان الولد الوحيد لوالديه. وأن الإنسان، كل "إنسان"، قد خلق من ذكر وأنثى، وهما كافيان لتكوين مجتمع صغير لن يلبث ان يزيد افراده عدداً. قال الله تعالى: "يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" النساء: 1، وقال سبحانه: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" الحجرات: 13. الإنسان، اذن، عضو في مجتمع. وتطلق كلمة "المجتمع" حيثما يكون "اجتماع" ومكان "جامع" وروابط "جامعة"، او بالاحرى حيثما تكون "جماعة" من الناس، يعيشون "معاً" في واقع معين "واحد". وعندما نعرف ان الواقع المعين الواحد، زائد جماعة من الناس افراداً متعددين، يساوي واقعاً مشتركاً ما بين افراد هذه الجماعة... نعرف بالتالي ان اهم ما يميز "المجتمع" ويتميز به تمييزاً وليس امتيازاً هو اشتراك افراده المتعددين في واقع معين واحد. ونعرف، من ثم، أن المجتمع لا يحيل الإنسان باعتباره عضواً فيه "شيئاً" جامداً، ولا يحول الناس الى "قطيع" من الحيوان. إذ "العام، وان كان يشمل الخاص، الا انه لا يلغيه". المجتمع، إذن، جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك في ما بينهم. قد تكون الجماعة او المجتمع اسرة او عشيرة او قبيلة او شعباً لا يهم. المهم، انه عندما يتعدد الناس في واقع معين "واحد"، يصبح هذا "التعدد" بما يتضمنه من "مشاركة" جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان، يصبح واقعاً "اجتماعياً"، لا بمعزل عن اي انسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه. ولا عجب، والحال هذه، ان يكون ضمن الشروط الواجب توافرها لكي يمتلك الانسان "المقدرة على الإنجاز" من خلال امتلاكه "حرية الإرادة" على الفعل، ذلك الشرط الخاص ب"الحق في الوجود"، الحق في وجود الانسان كإنسان. إذ من دون توافر هذا "الحق - الشرط"، لما كانت هناك "إرادة" ولما كان هناك "إنجاز" ولما كانت هناك تنمية في الاصل. * كاتب مصري.