يعتبر الحق في الحياة جذر وأساس كل حقوق الانسان. فهو سابق على كل الحقوق الاخرى، وهو الفرضية الأساسية التي تشدد عليها بقية الحقوق، وهذا ما يجعل منه حق الحقوق جميعها، والسند المؤسس لها، اذ لا معنى ولا قيام للحقوق/ الحريات ولا للحقوق الاجتماعية، ولا للحقوق الثقافية الا على اساس الحفاظ على هذا الحق الأساسي وضمانه وحمايته. يتراوح الحق في الحياة بين مدلولين. اولهما المدلول الضيق ويشمل الحياة بمعنى محدد، اي الحفاظ على بقاء الفرد على قيد الحياة واستمراره فيها. اما المدلول الموسع فيشمل لا فقط الحياة بمعنى النشاط العضوي البيولوجي، بل ايضاً مختلف الانشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاعلامية للفرد، اي امتلاكه للخيرات واستمتاعه بها، وحصوله على العمل والأمن، والقدرة على التفكير والتعبير، وتوفره على حرية الاختيار والسلوك، وتمتعه بالقيمة والاحترام والمساواة، وحصوله على التعليم والتكوين، واكتسابه للثقافة والاخبار والمعلومات. وفي هذا المعنى الواسع تبدو الحياة وكأنها تتجاوز الشرط البيولوجي لتشمل كل الفعاليات والانشطة الاخرى. وهذا المعنى الموسع يدعم الفرضية الرئيسية المتمثلة في ان الحق في الحياة هو أساس كل منظومة حقوق الانسان. والحق في الحياة ذو ابعاد ثلاثة: حياة الفرد، وحياة الجماعة، وحياة النوع البشري ذاته. الاخطار التي تتهدد حياة الفرد هي الاعتداء او العنف الجسدي والاجهاض، والانتحار، والقتل الرحيم L'euthanasie. اما الاخطار التي تتهدد الحياة الجماعية فهي الحروب، وحركات الابادة الجماعية، في حين ان ما يتهدد حياة النوع هو الحروب بأدواتها ووسائلها التخريبية المعاصرة، والتقدم العلمي والتقني في ميدان البيولوجيا وعلم الجينات. وقد حاولت شرعة حقوق الانسان الصادرة عن الأممالمتحدة والهيئات التابعة لها، حماية الحق في الحياة بالنسبة للعديد من الجماعات كالأقليات واللاجئين، وذلك بتحريم الابادة الجماعية، واعتبارها جريمة يعاقب عليها القانون مثلما نص على ذلك قرار جمعية الأممالمتحدة سنة 1948 باعتبار الابادة الجماعية جريمة في حق الانسانية. والتشريعات الدولية الجديدة بدورها تحمي الحياة والحق في الحياة نتيجة التقدم الذي حققته العلوم البيولوجية المعاصرة، وأصدرت قراراً يحمي الجينوم Le genome او التركيبة الوراثية للانسان. وأمام ما يتهدد الحياة الفردية من مخاطر سعت القوانين الدولية الى التنصيص على ضرورة الحق الفردي في الحياة. لكن الخلاف والاختلاف ظلا قائمين بصدد العديد من الحالات المخلة بهذا الحق الفردي كالاجهاض، والاعدام، والقتل الرحيم، والتعقيم. وأقرت الديانات كلها تقريباً مبدأ الحق في الحياة ودعت الى احترام الحياة البشرية ورعايتها انطلاقاً من ان الحياة سر يهبه الله لبني البشر، ولا يحق لأحد سلبه منهم. فالله تعالى هو الذي يهب الحياة ويقدر الموت. ومخالفة هذا المبدأ انتهاك لاحدى اقدس القواعد في معظم الديانات. وقد أدى هذا المبدأ الديني الى الحد من غلواء النزاع والتقاتل الذي يطبع حياة البشر. فالناس يتنازعون ويتقاتلون باستمرار، لأن الحياة الجماعية تتسم بالصراع من اجل الخيرات والممتلكات، والجنس والسلطة والحظوة والكرامة لدرجة ان العنف ظل سمة رئيسية في كل المجتمعات. ومن المؤكد ان للعنف اسباباً اقتصادية وسياسية وعرقية ولغوية وغيرها، لكن له جذوراً عميقة في النفس البشرية. وبيّن التحليل النفسي ان غريزة الموت Thanatos هي من بين اقوى الغرائز في الانسان، وان الحياة يخترقها ميل عميق ودفين نحو الانتقال من المرحلة العضوية الى المرحلة اللاعضوية. ولعبت الديانات دوراً كبيراً في مناهضة مظاهر العنف، ودعت الى احترام الحياة البشرية. فالتراث الاسلامي يتضمن في نصوصه الاساسية من قرآن وحديث وسنة ثقافة متكاملة تدعو الى احترام الحياة وتحرم قتل النظير وقتل الآخر عموماً بما في ذلك الذمي او الغريب. وهناك عشرات الآيات القرآنية في هذا الباب نقتصر على ايراد ثلاث منها: "…من قتل نفْسا بغير نفس او فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً…" سورة المائدة، الآية 32. "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق…" سورة الاسراء، الآية 33. ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغَضِبَ الله عليه ولَعَنه وأعدّ له عذاباً عظيماً" سورة النساء، الآية 93. وأوجز "البيان العالمي لحقوق الانسان في الاسلام" موقف الاسلام من حق الحياة في قوله "حياة الانسان مقدسة... لا يجوز الاعتداء عليها بأي حال. ولا تسلب هذه القدسية الا بسلطان الشرعية، وبالاجراءات التي تقرها". اما فلسفة الحق الطبيعي فهي النواة الفلسفية الأولى التي نشأت وتبلورت في اطارها فكرة وفلسفة حقوق الانسان. ويقصد بها الفلسفة التي تنظر الى الحق على انه نابع من طبيعة الانسان ذاتها، حتى وإن لم يتعرف الحق الطبيعي على نفسه في الحق الوضعي. والحقوق المتولدة عن الحق الطبيعي تبدو بديهية لكل من يفكر فيها لأنها صالحة لكل الناس، ولكل البلدان، ولكل الأزمنة لمجرد انها مباطنة وملازمة للانسان نفسه وموجودة في ضمير كل فرد ومن ثمة فهي ثابتة وأبدية. واعتبر جون لوك، احد كبار رواد مدرسة الحق الطبيعي، ان الحقوق الطبيعية هي الحق في الحياة، وفي الصحة، وفي الحرية، وفي الملكية. بل ربط الحرية بالحياة ووضع الأولى شرطاً لحماية الثانية لأن من الضروري ان يكون الانسان حراً حتى يمتلك القدرة على الحفاظ على حياته. والعبودية محرمة لا فقط لأن الناس ليسوا مجرد اشياء، بل لأن الحياة غير قابلة للسلب او التفويت او التنازل، فهي نعمة وهبتها الطبيعة للانسان، وبالتالي فهي تنحدر من قانون طبيعي. والقانون الأساسي للطبيعة موضوعه الحفاظ على النوع الانساني، وبالتالي فإن الحق الطبيعي هو حق النوع الانساني اي حق الحياة. وهكذا فإن على كل فرد ان يحافظ على حياته وأن يتملكها، وليس للسلطة الحاكمة حق الحياة وحق الموت على الفرد. ونصت الاتفاقيات الدولية جميعها على ضرورة حماية الحق في الحياة كحق اساسي للفرد وللجماعة وللنوع. فالمادة 3 من "الاعلان العالمي لحقوق الانسان" المصادق عليها في 10 كانون الأول ديسمبر 1948 من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة تنص على ان "لكل فرد حق في الحياة، والحرية، وفي الامان على شخصه". كما تنص المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اقرتها الجمعية العامة في 9 كانون الأول ديسمبر 1948 على معاقبة كل من ارتكب جريمة الابادة الجماعية التي تعني "التدمير الكلي او الجزئي لجماعة قومية او اثنية او عنصرية او دينية بصفتها هذه". وفي ما يخص حماية الحق في الحياة بالنسبة الى النوع البشري برمته فإن الادبيات الدولية زاخرة بالنصوص الداعية الى الحد من المخاطر التي تهدد حياة النوع، سواء تعلق الأمر بالمخاطر التكنولوجية او العسكرية او في ميدان البحث العلمي بالنسبة للبيولوجيا وعلم الموروثات. في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1997 صادقت الجمعية العامة لمنظمة اليونيسكو على "الاعلان العالمي حول الجينوم البشري وحقوق الانسان" وورد فيه ما يلي: "المادة الأولى: التركيبة الوراثية للانسان تشكل الوحدة الاساسية لكل افراد العائلة البشرية، وكذا الاعتراف بالكرامة الصميمية وبالتنوع الخاص بها. وبمعنى رمزي فان الجينوم هو التراث المشترك للبشرية جمعاء". وهناك اشارة الى ان تطبيقات البحث العلمي في مجال البيولوجيا، مدعوة الى ان تتوجه نحو "تخفيف الألم، ونحو تحسين صحة الفرد وصحة النوع البشري برمته". والى "حماية الصحة العمومية" المادة 15. كما تدعو المادة 19 الى ضرورة "تقويم المخاطر والمكاسب المرتبطة بالبحث العلمي حول التركيبة الوراثية للبشر، وحماية هذه الاخيرة من اشكال التجاوز وإساءة الاستعمال". كما حمت المواثيق الدولية حق الحياة بإحاطة حكم الاعدام بالعديد من التحديدات والشروط كالحق في محاكمة عادلة متمتعة بكل الضمانات القانونية. فقد نصت الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الانسان في مادتها الثانية على ان "حق كل انسان في الحياة يحميه القانون. ولا يجوز اعدام شخص عمداً الا تنفيذاً لحكم قضائي بادانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة"، بينما حدد المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة الضمانات التي تكفل حقوق الذين يواجهون عقوبة الاعدام في قراره ليوم 25 ايار مايو 1984 اذ نص في مادته الثانية على انه: "لا يُحكم بالموت على - الاشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة. - ولا ينفذ حكم الاعدام في الحوامل او في الامهات الحديثات الولادة. - ولا في الاشخاص الذين اصبحوا فاقدين لقواهم العقلية". وهذه الجملة الاخيرة تشمل المجانين كما تحتمل الشيوخ المسنين. وينص القانون المغربي، كمعظم القوانين في العالم، على عقوبة الاعدام في العديد من الجرائم الجنائية والسياسية. فالقانون الجنائي المغربي ينص على عقوبة الاعدام في حق من يقوم بالاعتداء على شخص الملك الفصل 163 او على ولي العهد الفصل 165 او على احد اعضاء الأسرة المالكة الفصل 167. كما يعاقب هذا القانون خيانة الوطن بعقوبة الاعدام الفصلان 181 و182، ويطبق العقوبة نفسها على من قام بأعمال تجسسية لصالح دولة اجنبية الفصول 185 و201 و203، وعلى من اتهم ودين بالمس بسلامة الدولة الداخلية الفصل 103، وعلى من دين بالعنف وبإلحاق الأذى بأحد رجال القضاء او احد الموظفين العموميين او رجال القوة العمومية خلال ادائهم لمهامهم، وخاصة اذا ادى ذلك الى القتل. وتسري عقوبة الاعدام كذلك على جرائم القتل العمد المرفقة بسبق الاصرار والترصد، وكذا قتل الوليد، او استعمال السم ووسائل التعذيب المفضية الى الموت 392 - 411. كما تطبق هذه العقوبة على كل من اتهم وأدين بقتل الأب او الأم الفصل 422، وعلى كل من أدين باختطاف او حبس او احتجاز شخص ما الى ان تسبب له في الموت. كما تسري هذه العقوبة على كل من ادين بتعريض طفل او عجوز للخطر المفضي الى الموت 463، وعلى كل من ارتكب جريمة التخريب والتعييب والاتلاف عن طريق ايقاد النار الفصول 580 - 591. وأحاط المشرع المغربي هذه الاجراءات بجملة احتياطات وضمانات نظرية على الأقل تضمن للمتهم الحق في محاكمة عادلة كما تضمن له الحق في اختيار محام يؤزارة الى غير ذلك من الاجراءات التي يتراوح تطبيقها بين الالتزام والتحرر حسب الظروف والملابسات الخاصة. والملاحظ ان التشريع المغربي قد هجر عملياً حكم الاعدام، ولم يُبْق عليه الا كرادع قانوني، لا يطبق الا في الحالات القصوى. وعقوبة الاعدام محط نقاش وموضع تراجع من طرف العديد من الدول، وذلك بموازاة تطور وازدهار وتوسع ثقافة حقوق الانسان في كافة المجتمعات. كانت عقوبة الاعدام مرتبطة بقانون القصاص الذي يعني العين بالعين والسن بالسن. واستخدمت على وجه العموم لتحقيق جملة اهداف كترهيب وتخويف المجرمين، وتحقيق ادانة فعلية للفعل الاجرامي، وإقصاء المجرم او المجرمين من دائرة المجتمع بل من مسرح الحياة، وتحقيق القصاص والجزاء. الا ان هذه العقوبة عرفت جدالاً كبيراً في مدى جدواها، وهل الاعدام هو وسيلة الترهيب والعقاب الأكثر نجاعة. في تشرين الأول اكتوبر 1995 انعقدت في تونس ندوة علمية دولية حول "عقوبة الاعدام في القانوني الدولي وفي التشريعات العربية"، بتنسيق بين المعهد العربي لحقوق الانسان والرابطة الدولية للبرلمانيين والمواطنين من اجل الغاء عقوبة الاعدام. وبعد العروض والمناقشات اصدرت الندوة بياناً يندرج في سياق الحملة العالمية لمناهضة عقوبة الاعدام جاء فيه ان المشاركين قد اتفقوا على النقاط التالية: 1 - التمسك بالغاء عقوبة الاعدام كخيار استراتيجي. 2 - القسوة الشديدة التي تتصف بها عقوبة الاعدام. فهي سالبة للحق في الحياة، ولا رجعة فيها، ولا يمكن بعد تنفيذها تدارك اي خطأ قد يحصل عند اصدار الحكم. 3 - الشك في التأثير الرادع للعقوبة. 4 - تعرض الفئات المهمشة في المجتمع لمخاطر هذه العقوبة اكثر من بقية الفئات. 5 - النقص الكبير في تحليل الاسباب العميقة للجريمة علمياً، ووضع الحلول الجذرية للظواهر الاجرامية. 6 - عدم وجود عوائق حقيقية داخل المرجعية الثقافية للحضارة العربية يمكن ان تحول دون تطور التشريعات الوضعية نحو الحد من عقوبة الاعدام والغائها. وتحمل هذه القرارات المفاصل الأساسية للنقاش الدائر عالمياً اليوم حول مدى جدوى عقوبة الاعدام. ويقوم الأساس الفكري لهذا النقاش على الصراع بين حقين، حق طبيعي هو الحق في الحياة، وحق اجتماعي هو الحق في الأمن. فالمجتمع المهدد يضحي بالحق الأول في سبيل اقرار الحق الثاني. والنقاش الدائر حول الغاء عقوبة الاعدام يدور في العمق حول كيفية ضمان الحق الثاني دون التفريط في الحق الأول، او حول كيفية التوفيق بينهما لمصلحة الطرفين معاً. * كاتب مغربي.