في مطلع الستينات وبعض مضي اعوام قليلة على الاستقلال، وجد المغرب نفسه في موقع الاعتماد على الذات، اذ كان مطلوباً في آن واحد استكمال الوحدة الترابية التي كانت لا تزال اجزاء منها تحت السلطة الاسبانية في الشمال والصحراء، وبناء اقتصاد وطني مستقل عن فرنسا وتسريع وتيرة التنمية الاجتماعية ومغربة الادارة والنشاطات الانتاجية والمرافق المالية والتجارية. وعلى رغم الموارد الطبيعية التي يزخر بها المغرب، كان النقص المادي وتدني مستوى التعليم حاجزاً اضافياً امام تلك التحديات. وقامت جهود "الانعاش الوطني" باستصلاح 25 الف هكتار من الأراضي الزراعية وبناء 15 الف كلم من الطرق والمسالك و2260 حجرة دراسة و35 الف كلم من قنوات الري وتشييد الآلاف من المساكن وغيرها من البنى التحتية. التعليم والزراعة والسدود لكن المغرب كان يواجه مشكلة اخرى اكثر تعقيداً هي قلة الموارد والكوادر والأطر المحلية. ولم يكن عدد الحاصلين على شهادة البكالوريا الثانوية العامة يتجاوز 155 شخصاً في تلك السنة وكان عدد المهندسين والأطباء المغاربة بضع عشرات في بلد يبلغ عدد سكانه نحو عشرة ملايين نسمة، كان 75 في المئة منهم يعيش على الزراعة في ظل انتاج ضعيف يبلغ ستة قناطير للهكتار الواحد. كانت معركة التعليم والزراعة والاستقلال الاقتصادي اكبر الورش التي دشنها المغرب مطلع الستينات في سباق مع الزمن لكسب معركة التنمية. وهكذا انتقلت موازنة التعليم الى نحو 26 في المئة من اجمالي الناتج المحلي اذ اصبح التعليم إلزامياً للأطفال ذكوراً وإناثاً منذ عام 1963. وأدرك المغرب مبكراً اهمية الزراعة في تحقيق الاكتفاء الغذائي وتحسين وضعية السكان. لكن تقسيم العمل الذي نفذه الاستعمار اضر بطبيعة الانتاج الذي كان في مجمله موجهاً للتصدير على حساب السوق المحلية. وخلال الخطة الخمسية التي نفذها المغرب 1960 - 1964 ثم في المخطط الثلاثي 1965 - 1967 سارعت المملكة في تنفيذ خطة طموحة لتوزيع الأراضي على صغار المزارعين وتقوية بنى الري عبر سياسة السدود التي تبناها المغرب في نهاية الستينات في اكبر تحد ضد الفقر والتخلف. ومكنت الجهود الكثيفة المبذولة في مجال البنى التحتية من انجاز 90 سداً بسعة اجمالية تقدر حالياً ب14 بليون متر مكعب من الماء و13.7 بليون متر من السطحية والقنوات وفي اقل من عقدين تحول المغرب من بلد مستورد للغذاء الى بلد مصدر له عزز مفاوضاته مع الاتحاد الاوروبي منذ عام 1969 غداة توقيع اول اتفاق تجاري. ويعتز المغرب بانجازاته في الميدان الزراعي اذ تمكن من كسب الرهانات التي كان سطرها عام 1967 بري مليون هكتار سنة 2000 وبناء سد كل سنة. ويعتقد المغرب ان معارك القرن ال21 ستدور حول ثروة الماء. وكان الملك الحسن الثاني جدد هذا الكلام امام وفد المنظمة العالمية للزراعة في مطلع شباط فبراير الماضي بالتأكيد ان شح المياه سيؤجج صراعات دولية خصوصاً في الشرق الاوسط وشمال افريقيا التي تضاعف سكانها بين 1965 و1990، وستشهد المنطقة نقصاً في الموارد المائية وينخفض نصيب الفرد من 3500 الى 600 متر مكعب فقط سنة 2025. ويعتبر المغرب بلداً زراعياً بامتياز ويملك اكبر مساحة زراعية في المنطقة المغاربية، وهو ينتج في المتوسط عشرة ملايين طن من الحبوب و40 مليون طن من المزروعات الصناعية و105 ملايين طن من الحوامض، ومثلها من البواكر ويحقق الاكتفاء الذاتي في جل الحاجيات الغذائية. وتساهم الزراعة في المتوسط بين 17 و20 في المئة من اجمالي الناتج نحو عشرة بلايين دولار، وتقدر صادرات المغرب من المنتوجات الغذائية بما فيها الصيد البحري بنحو بليوني دولار بعد ان كان المغرب في بداية الاستقلال يستورد اغلب الحاجيات مثل الحبوب والزيوت والسكر والألبان. التنمية والظروف الدولية قامت جهود التنمية في البداية على مداخيل الفوسفات اضافة الى السياحة والمهاجرين الذي كان المصدر الأساسي للعملة الصعبة في المغرب. واستفاد المغرب من ارتفاع اسعار المواد الأولية في السوق الدولية عقب نتائج حرب اكتوبر العربية - الاسرائيلية عام 1973. وتضاعفت موازنة المغرب اكثر من ثلاث مرات وانتقلت من 5.2 بليون درهم عام 1972 الى 15.7 بليون درهم عام 1975. ووصل سعر الفوسفات المعالج الى 340 دولاراً للطن فاحتل المغرب المرتبة الاولى لجهة التصدير والثالث لجهة الانتاج وراء الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي. وزادت مجموع الصادرات من 1792 مليون درهم عام 1960 الى 8292 مليون درهم عام 1974. وشكل ارتفاع الاسعار زخماً للاقتصاد المغربي الذي حقق نمواً فاق 20 في المئة من اجمال الناتج توسع في اطاره دور القطاع العام وزاد الانفاق الحكومي ضمن سياسة المشاريع الكبرى التي استهدفت تقوية البنى التحتية وتطوير الصناعات المحلية والاعتماد على الزراعة كمحرك أساسي للاقتصاد المحلي في اطار سياسة السدود التي خطها المغرب منذ اواسط الستينات. واتجه الاقتصاد المغربي في تلك المرحلة الى سن رسوم جمركية عالية لحماية الصناعات المحلية التي كانت مكلفة وتدار بطريقة غير تجارية والاعتماد على ايرادات الفوسفات والصادرات الزراعية لتغطية الواردات المصنعة. والعمل بنظام جديد لقوانين الاستثمار القطاعية. ورافق هذه الخطة توسع واضح في الطلب على القروض الأجنبية بفعل الحاجة الى استثمارات ضخمة كبناء السدود وتشييد المطارات والموانئ والتجهيزات الكبرى. ويقول صندوق النقد الدولي في تقريره حول التجربة المغربية ان المملكة راهنت في السبعينات على استمرار ارتفاع اسعار المواد الأولية في السوق الدولية ومنها صادرات الفوسفات كما راهنت على تحصيل قروض ميسرة في ظل الفائض المالي الدولي وطفرة النفط في الشرق الاوسط. ونتيجة ذلك تراكمت ديون المغرب على مدى سنوات لتنتقل من 800 مليون دولار عام 1970 الى 2.3 بليون دولار عام 1976 ثم قفزت الى 6.5 بليون دولار عام 1979. وعند حلول عقد الثمانينات كان اجمالي ديون المغرب الخارجية يفوق 7.6 بليون دولار في حين تراجع الاحتياطي النقدي الى نحو شهر من تغطية واردات السلع والخدمات وارتفع عجز الموازنة الى نحو 15 في المئة من اجمالي الناتج وتراكمت مستحقات الديون غير المسددة فضلاً عن صعوبات في تمويل التجارة الخارجية. ويبدو ان تضافر عدد من العوامل الضاغطة والمؤثرة ساهم في تعقيد وضعية الاقتصاد المغربي في مطلع الثمانينات. ويضيف صندوق النقد الدولي: "كانت الأزمة العالمية حادة بشكل تراجعت معه عائدات الفوسفات التي كان يعتمد عليها المغرب بشكل رئيسي في ايرادات الخزينة في وقت واصل المغرب برنامج توسع النفقات ومواكبة جهود التنمية. وهكذا انتقل عجز الموازنة من 3.9 في المئة الى 18.1 في المئة من اجمالي الناتج المحلي في حين تحول فائض الميزان التجاري الذي كان في حدود 2.5 في المئة من اجمالي الناتج عام 1974 الى عجز بلغ 14.9 في المئة في عام 1976. ولمواجهة تلك الأزمة عمد المغرب الى اعتماد برنامج التثبيث الاقتصادي مدة ثلاث سنوات ابتداء من عام 1978 وزدات اسعار الضرائب والجبايات وتقلصت الاستثمارات العمومية وانخفض مستوى النفقات الجارية وبدأ الالتجاء الى السوق المالية الداخلية المصارف لتمويل عجز الخزينة ما ساهم في ارتفاع اسعار الفائدة المحلية. لكن عوامل داخلية وخارجية لم تكن مساعدة لتحقيق اهداف الخطة اذ اندلعت ازمة النفط الثانية عام 1979 عقب الثورة الايرانية ما زاد في اعباء الميزان التجاري وصادف المغرب موسماً زراعياً سيئاً نتيجة جفاف قاس. برنامج التقويم الهيكلي ودور الجماعات المحلية شرع المغرب في تطبيق برنامج التقويم الهيكلي في صيف عام 1983 بعد اتفاق مع صندوق النقد الدولي تم توقيعه في العام نفسه بعد ان وصلت ازمة المديونية وعجز الموازنة حالة من الفاقة المالية. وبدأ تطبيق اجراءات تصحيح الاقتصاد بعد ان اقرها البرلمان في نيسان ابريل عام 1986، ونتيجة ذلك زادت مداخيل الدولة الضريبية بنسب تراوح بين 10 و16 في المئة وفي كانون الثاني يناير 1989 تم تخصيص ثلث مداخيل الضريبة على القيمة المضافة لفائدة الجماعات المحلية التي اوكلت اليها مهمة تنمية البلديات وتجهيز البنيات الأساسية لتحل الجماعات تدريجاً محل الدولة في قطاعات عدة على المستوى الجهوي. وقد بدأ العمل بنظام الجماعات المحلية منذ ايلول سبتمبر عام 1976 في اطار تطوير اللامركزية وتعزيز الادارة المحلية والجهوية لتكون قاعدة الديموقراطية. وتشكل الجماعات المحلية حالياً نحو ستة في المئة من اجمالي الناتج المحلي وتمثل استثماراتها نحو 25 في المئة من اجمالي الاستثمارات العمومية. ومنذ عام 1996 دخلت الجماعات في برنامج التدبير المفوض لخدمات الماء والكهرباء والتطهير يمنح للشركات الخاصة ادارة تلك الخدمات مدة معينة ضمن عقد استغلال وتحصيل الرسوم. التجأ المغرب الى تحرير التجارة والمبادلات الخارجية رغم مكامن الضعف التي كانت تتجلى في نقل الاقتصاد المغربي من اقتصاد الكفاية المحلية الى اقتصاد الطلب الخارجي في مناخ اتسم في تلك المرحلة بسيادة التكتلات الاقتصادية الجهوية واحتدام المنافسة. وكان على الاقتصاد المغربي ان يتأقلم مع كل تلك التحولات غير المستحبة ويواصل جهود الاصلاح الاقتصادي منفرداً، ويستجيب في آن لشروط الاسعار والجودة والانتاجية التي فرضتها علاقات التجارة الدولية. وهكذا تم اعتماد تحرير المالية الخارجية كاجراء اضافي لتطوير الانتاجية من جهة وتنشيط الصادرات من جهة ثانية، واعتمد كذلك تشريعات جديدة لتبسيط الاجراءات وتخفيف الثقل الاداري في المعاملات الاقتصادية والتجارية وتحرير حركية رؤوس الاموال من خلال السماح باعادة تصدير رأس المال والأرباح. وفي عام 1993 قام المغرب بتحرير صرف العملة وجعل الدرهم عملة قابلة للتحويل طبقاً للفصل الثامن من ميثاق صندوق النقد الدولي وجاء الاجراء عقب التحسن الذي طال الاقتصاد المغربي في مطلع التسعينات. وارتبط التاريخ ببداية برنامج التخصيص الذي كان المغرب اول دولة عربية تنفذه. وساهم رصيد الشركات العمومية التي انشأها المغرب في فترة الطفرة في منتصف السبعينات في طرح اصول نحو 114 شركة للبيع. وكان توسيع القطاع العام في اواسط السبعينات سمح بانشاء نحو 600 شركة عمومية في وقت كان القطاع الخاص المحلي في بداية نشأته، وهو ما يفسر صغر حجم القطاع العام المغربي 27 في المئة من إجمالي الناتج مقارنة بدول عربية اخرى. وتم الغاء المتقضيات المتعلقة بقانون المغربة في مطلع الثمانينات بهدف دعم وانعاش الاستثمار الاجنبي في المغرب واستعادة الشركات الدولية مواقعها التي كانت تملكها من قبل وهو ما حدث في مطلع التسعينات عندما استعادت شركات النفط العالمية فروعها في المغرب غداة تحرير قطاع المحروقات وتخصيص شركات التوزيع التي ظلت تملك فيها الشركات الدولية حصة 50 في المئة من الأسهم. ونتيجة ذلك تضاعف حجم الاستثمار الأجنبي ثلاث مرات بين 1983 و1986 وبلغ 1055 مليون درهم عام 1988 ثم انتقل الى 1921 مليون درهم عام 1990. وفي عام 1993 كان معدل الاستثمار السنوي في المغرب يفوق 500 مليون دولار ليرتفع في عام 1997 الى 1200 مليون دولار. واستفاد المغرب كذلك من تسهيلات قدمها صندوق النقد الدولي ما بين أعوام 1980 و1993 بهدف الاستجابة الى حاجيات التمويل الخارجي وحماية العملة المحلية التي تم خفضها مرتين في اطار برنامج التقويم آخرها كان عام 1990. كما استخدم المغرب تسعة اتفاقات مع صندوق النقد الدولي ضمن ما يعرف بنظام "ستاند باي" بلغت في مجموعها نحو ثلاثة بلايين من حقوق السحب الخاصة SDR لم يستعمل منها سوى 1.733 بليون منها 351 مليوناً حقوق سحب تمت تحت غطاء نظام تسهيلات المقاصة المالية. كما استفاد من برامج معالجة الديون التي كان اطلقها وزراء الخزانة الأميركية منتصف الثمانينات لمعالجة ديون 17 من الدول النامية، مثل البرازيل والارجنتين وفنزويلا. وهكذا تمكن المغرب من جدولة ما قيمته 6.9 بليون دولار من الديون المستحقة لناديباريس ديون عمومية ونحو 6.7 بليون دولار من الديون المستحقة لنادي لندن للديون التجارية أي ان مجموع حصيلة مسلسل الجدولة التي امتدت بين 1983 و1992 بلغت 13.6 بليون دولار تضاف اليها اعتمادات قدمها البنك الدولي منذ عام 1950 بقيمة 5.4 بليون دولار كما قامت المملكة العربية السعودية بشطب نحو ثلاثة بلايين دولار عقب أزمة الخليج الثانية. ومكنت جدولة الديون من تحقيق مكاسب كبيرة للاقتصاد المغربي إذ تراجعت القيمة قياساً لاجمالي الناتج المحلي من أكثر من 100 في المئة عام 1985 الى دون 70 في المئة عام 1993 ووصلت النسبة الى 50 في المئة سنة 1999 وفرت للحكومة موارد مالية اضافية ساعدتها في سد جزء من المضاعفات الاجتماعية التي خلفها تطبيق برنامج التقويم الهيكلي. ونتيجة ذلك استطاع المغرب ان ينقل اجمالي الناتج المحلي من بليوني دولار عام 1960 الى 40 بليوناً سنة 200. انها قصة الاعتماد على الذات.