عندما دخل نيلسون مانديلا السجن، كان همُّه الأكبر ألا يدع النظام العنصري البغيض يصادر كرامته بعد أن صادر حُرِّيته، وألا يُلغي وجودَه كإنسان بعد أن صادره كمواطن. ويحكي زملاء مانديلا في سجنه أنه منذ لحظته الأولى خلْف القُضبان، دخل في اشتباك ذكي وصارِم مع ضُبَّاط السجن وإدارته. كان يواجههم مُنْتصب القامة مرفوع الرأس إذا جاؤوا لأخذه في الصباح، فُيلقي عليهم تحية الصباح بكل احترام وهدوء، ويسأل عن أولادهم وزوجاتهم وكيف كانت لَيلَتهم، ويتمنى لهم يوماً سعيداً. واستطاع مانديلا ورفاقه أن يرسُموا خطوطاً حمراء، ويثبتوا أقدامهم أمامها بكل المهارة والصلابة اللتين تميز بهما هذا المناضل النبيل ورفاقه. وعندما رأيت نيلسون مانديلا شخصياً، وصافحتُه واستمعت إليه، تعرفت على هذه الموهبة الخارقة التي تجعله قادراً على خلق علاقة حميمة مع الناس بسُرعة الضوء. زار مانديلا المؤسَّسة التي أعمل بها، وعندما علم العاملون فيها، وهم من جنسيات متعددة، اصطفُّوا عند كل موقع سيمرُّ به في جوْلته، ثم ما لبثت أن اتصلت الصفوف على طول الممرات والطُّرقات. كانوا متشوقين إلى مصافحته والتحدث إليه وأخذ صورة معه والحصول على توقيعه. سبَح مانديلا بين هذه الأمواج البشرية بانسياب ونعومة. وبدا لي كما لو كان هو الحريص على مصافحتهم والتحدث إليهم وأخذ صورة معَهم. واستغلَّ بعض العاملين هذه الأريحيَّة، فلم يكتفوا بمصافحته مرَّة واحدة فانتقلوا الى موقع آخر ليُصافحوه من جديد. ولم يبدُ عليه أي تذمُّر أو تبرُّم. وعندما كان يتعرف على بعض الوجوه التي كان قد صافحها من قبْل، كان يبتسم ويقول: آه، أنت صديق قديم... أظن أنني تشرفت بمقابلتك من قبل. وعندما تعرَّف على بعض العاملين من أصل جنوب أفريقي قال لهم: أدعوكم إلى العودة لكي نبني بلدَنا جنوب أفريقيا... معاً. قلت له: يا فخامة الرئيس، ها أنت تقوم بعمل مكتب توظيف لجنوب أفريقيا. قال: يا صديقي العزيز، من أجل بلدي وشعبي أتشرف بأن أكون عامل نظافة بالدرجة نفسها التي أفخر بأن أكون رئيساً للجمهورية. هذا الحب والتواضع والحميميَّة وحب الإنسان والقدرة على التسامح والعفو هي التي تميز مانديلا. لقد سرَق السجن العنصري أزهى سنوات عُمره، وسرَق الإرهاب والاستبداد العنصري من أبناء شعبه سنوات كثيرة من الحياة الكريمة... لكنه خرج من السجن بعد ثماني وعشرين سنة من دون أن يُصيبهُ عطبُ الحقد ومرض الانتقام والاستبداد. أعطاه العنصريون السّجن فخرج ليُعطيهم الحرية، وفرضوا على أبناء شعبه التمييز والفصل العنصري فأراد لهم المساواة، وسامُوه الظُّلم فمنحهم الحق والعدالة، وسرقوا منه الماضي والشباب فعقد العزم على أن يبني لهم ولأطفالهم المستقبل الكريم. لقد ضرب مانديلا مثلاً نادراً مدوّياً بتضحياته ومُعاناته. لكنه ضرب مثلاً أكثر روعة في التسامح والنُّبل والعفو وصفاء السريرة. لقد كان ولا يزال رجل العصْر، ورجُلاً لكل العُصُور.