في عام 1960 قررت الحكومة السعودية في سياق استكمال مؤسساتها التنموية افتتاح مدارس لتعليم البنات على رغم استنكار القوى المحافظة لهذه الخطوة المستحدثة والجديدة على تركيبة المجتمع التقليدية معبرة عن اعتراضها بكل الوسائل المتاحة ابتداء بالتحذير من الآثار الأخلاقية السلبية المحتملة وانتهاء بمجالات من الشغب الاجتماعي، لكن الحكومة لم تتراجع عن قرارها باعتباره الوسيلة الوحيدة لتأهيل المرأة للمشاركة في البناء الاجتماعي واستمرت في فتح المدارس لمن يرغب في تجاوز هاجس الحذر الاجتماعي والدخول في سياق التنمية. ولم يمض زمن حتى أصبح تعليم المرأة ضرورة لكل بيت شأنه شأن الغذاء والمسكن بعد ان اسقطت معطيات التجربة كل المخاوف الاخلاقية. في عام 1999 قررت الحكومة السعودية فتح باب الحوار الاجتماعي الشامل عن عمل المرأة وسبل تنشيط مساهمتها العملية، ورفضت اصدار قرار في الموضوع تأكيداً لقيمة الحوار وانتظاراً لنتائجه. أربعة عقود تفصل بين اشكالية تعليم المرأة واشكالية توظيفها لم تتغير فيها استراتيجية التعامل مع قضايا المرأة لكن تغيرت آلياتها تبعاً لظرفها الزمني والاجتماعي. ويمكن عبر استقراء ملامح التجربة الاجتماعية ما بين مرحلة اصدار القرار الحاسم ومرحلة الحوار المفتوح، رصد أبرز أسباب تغير الآلية: 1- استخدام القرار في تجربة 1960 كان ضرورة بسبب عدم اكتمال تشكل المجتمع المدني، وجدة التجربة وغرابتها على المفهوم المحلي حينها. 2 - أظهرت تجربة 1960 أن القرارات مهما كانت فاعليتها العملية لا تستطيع التأثير في النسيج الاجتماعي، فهي اذ نجحت في تعميم التعليم لم تستطع القضاء على الحساسية الاجتماعية بل لعلها زادتها صلابة. 3 -ان تغير الآلية يجسد حقيقة التطور الاجتماعي ويؤكد فاعلية خطط التنمية تعليمياً وتوعوياً. 4 -ثبتت تجربة 1960 أن المخاوف الاجتماعية لم تكن صحيحة بل أثمر التعليم عن زيادة الوعي الديني والمحافظة عليه. وهو المنجز الذي تستند اليه دعوة 1999. 5 -ان دعوة 1999 تراهن على النضج الاجتماعي وادراكه لمتطلباته التنموية. 6 -ان ترسيخ المشاركة في القرار الاجتماعي يحقق الفاعلية الانسانية في العملية التنموية التي تكمل خطتها السادسة هذا العام. تجربة 1999 منذ أن أطلق ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز دعوته المهمة لتفعيل المشاركة العملية للمرأة ورفضه تهميش "دورها الفاعل في خدمة دينها وبلادها"، والحوار حول عمل المرأة هو جذوة اللقاءات الاجتماعية ومادة الكتابات الصحافية بعد أن كان مثل هذا الحوار يتم عبر ملامسات خاطفة حذرة تستهدف جس النبض في الدرجة الأولى. ومع أن معظم النقاشات الجارية تدور حول الفرص المحتملة لعمل المرأة الا أن جوهر دعوة الأمير عبدالله يرتكز على أهمية استثمار تجربة تأهيلية امتدت أربعين سنة توشك لبعدها عن دائرة الفعل أن تصبح عبئاً حقيقياً على المستويات كافة. وقوله: "لن نترك باباً من أبواب العطاء إلا وشرعناه لها في كل أمر لا مخالفة فيه لديننا وأخلاقنا" يعني التوجه الى إحداث نقلة جذرية في مسارات عمل المرأة تعميقاً لمشاركتها الإجتماعية الفاعلة ولاستكمال عملية التنمية في قيمتها الانسانية التي عانت ولا تزال من معوقات عدة نتيجة غياب مشاركة المرأة وتهميش طاقتها الانتاجية، إن على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، مما يهدد باختزال الطموحات التنموية الحضارية وتطلعاتها المستقبلية وتحويلها الى مظاهر نمو أبرز اشكالها الجانب المادي. وتأكيداً للدلالة التنموية شدد "مصدر مطلع"، في تصريح موسع تضمن شرح دلالات الدعوة ومضامينها وحدودها، على أهمية الحوار لاشراك المجتمع بفئاته المختلفة في اتخاذ القرار ولحماية المعطى التنموي وابراز دور الفرد وتحركه الايجابي في رسم الواقع الاجتماعي. وهو أول مقاصد الدعوة تحققاً وأكثرها أهمية اذ تعددت منطلقات الحوار عن هذه القضية، واخترقت، للمرة الأولى، جدار الحساسية الاجتماعية العازل لقضايا المرأة، وبدأت مناقشة جوانبها المختلفة بحرية وصراحة متجاوزة حدود الحذر السابق في محاولة أبسط نتائجها خلخلة حدود العزلة، وكسر القيمية المطلقة المتولدة من تصورات اجتماعية متشددة اكتسبت مع الوقت صلابة الثابت. وقد تثمر حلقات الحوار قناعة مشتركة قائمة على الإلتزام المطلق بالشريعة والتحرك ضمن اطارها. أي اكتشاف الخيارات المتاحة والمهملة سابقاً لاعادة استثمارها في بلورة مفهوم التنمية. وبحثاً عن هذه النتيجة لم يتم اللجوء الى سن قوانين تفتح مجالات أوسع لعمل المرأة، بل جاء التأكيد، في التصريح التفسيري، على رفض مثل هذه الخطوة لإيضاح أهمية الحراك الاجتماعي ابتداء ليحدد، في حصيلة تفاعلاته، الأطر التنظيمية التي يمكن اقرارها مستقبلاً. ومن غير الممكن حتى الآن، تحديد مسار الحوار الاجتماعي، أو القول باكتمال العملية الحوارية وتفاعلها الداخلي فما يحدث هو تمدد أحادي النسق سيطر عليه،أولاً، المتحمسون لعمل المرأة باختلاف درجاتهم. ثم تبدل الإتجاه بدخول التيار المحافظ بقوة متكئاً على تصريح ثانٍ ل"مصدر مطلع" استنكر الافتئات الإعلامي على مضامين كلمة الأمير عبدالله وتحميلها ما لا يتصل بها من دعوات لتحرر المرأة وغيره. وأن هذه المضامين "أبعد ما تكون عن كثير مما كتب أو نشر حولها وأن ماتناقلته وسائل الإعلام من تفسيرات خاطئة لا تخرج عن كونها اراء شخصية لأصحابها". وهيمن المحافظون على معظم قنوات الخطاب العام في ما بدأ أنصار عمل المرأة يتراجعون قليلاً. ويلاحظ أن الإختلاف في مساريه يستند الى كلمة الأمير عبدالله على رغم أن الكلمة لم تتغير أو تتبدل دلالاتها تبعاً للتصريحين اللاحقين، بل اختلفت التأويلات حولها، من توسيع نطاقها لتوافق أهواء ورغبات خاصة إلى ضغط مجالها لتفقد مضمونها. وهذه التأويلات المتباينة هي التي سببت إرباكاً كلياً في المجتمع. وكشفت، في الوقت ذاته، ضعف آليات الحوار الإجتماعي وميله لحالات من الفوضى والصخب والمزايدة انطلاقاً من بعض نتاج الإعلام المكتوب في الدرجة الأولى، والنزوع الى الأحادية وبعض حالات الضيق بالآخر الى درجة رفضه الكلي ومحاولة خفت صوته وتحجيم حضوره. وهذه الأحادية، المتناقضة مع قيمة الحوار ودلالاته الحضارية، تسم المناصرين والمحافظين بسمتها فلا يتسع لهما مكان واحد وما أن يظهر أحدهما يحتجب الآخر. الحساسية الجديدة ومظاهر الازدواجية في عام 1969 نشرت مجلة "العربي" الكويتية تحقيقاً مصوراً عن منطقة عسير أبرز ما فيه الحضور القوي للمرأة ونشاطها الاقتصادي تأكيداً على استمرارية مشاركة المرأة السعودية الكاملة إلى ما قبل ثلاثة عقود، وأن العزلة التي تعمقت جذورها إنما هي أساساً وليدة نمط جديد من الحساسية الاجتماعية كان أحد تبدلات التركيبة الاجتماعية وتغير مفاهيمها تجاه قضايا كثيرة اتساقاً مع التطور الذي عايشه المجتمع. وترافق نشوء هذا التيار من "الحساسية الجديدة" مع افتتاح مدارس البنات التي رأى انها تشكل خطراً حقيقياً على بنية المجتمع الاخلاقية لكونها بدعة غربية ذات مظهر علماني، تستهدف اخراج الفتاة من أمان المنزل وستره إلى عنف الشارع وانكشافه. وتدفع بها إلى عالم مختلط تضيع في القيم ويكثر الفساد. وهذا الحذر مفهوم في جانبين: الأول أن التخوف من التعليم النسائي مرتبط بالصورة المسبقة عنه في المجتمعات الغربية والعربية المتحررة. وهو في هذا السياق تخوف طبيعي وإن كان لا ينسجم مع التزام الحكومة السعودية الكلي بالشريعة الإسلامية في كل أحوالها. والآخر، أن التعليم يعيد المرأة للحياة العامة مرة أخرى بعد ان بدأت في الاستقرار المنزلي لإنتفاء الاحتياج الإقتصادي لخدماتها. وهذا الخروج الجديد حالة ترف ومغامرة لا يمكن ضمان نتائجه. فالمرأة لا تحتاج من التعليم إلا اليسير جداً الذي ينفعها في معرفة أمور دينها وتربية أطفالها وإجادة طبخاتها. وما زاد عن ذلك فهو إفساد وإضرار. ومع أن واقع التجربة أسقط كل المخاوف الاخلاقية إذ شكل التعليم حصانة للمرأة ضد التعرض لعوامل الانفتاح المتتابعة، فأصبحت أكثر وعياً بذاتيتها وحرصاً على قيمها الدينية والاجتماعية، إلا أن تيار الحساسية الجديدة تمكن مع الوقت من تثبيت مبادئه في الوجدان العام وزرعها ضمن نسق قيم المجتمع حتى أنها اليوم أشد فاعلية وأكثر قوة منها عام نشوئها. ولنجاح هذا التيار أسباب عدة يمكن تحديدها في الآتي: 1- دأبُ هذا التيار واستمراره في تكرار سلسلة التحذيرات الاخلاقية. 2- ان عملية التنمية وما ارتبط بها من انفتاح مفاجئ على ثقافات غريبة، ودخول تقنيات متطورة وجديدة الى الحياة اليومية، وتدفق جاليات كثيفة من جنسيات مختلفة في أول احتكاك من نوعه، أيقظ حذراً اجتماعياً عاماً كان للمرأة النصيب الأوفر منه واستدعى بقاءها في المنزل. 3- ان النفط ونتائجه المتمثلة في الوفرة المادية وتوفير حياة مريحة ومرفهة، صرفت المرأة عن العمل استمتاعاً بوسائل الترفيه الجديدة والمتنوعة. 4- رسّخ القطاع العام سيطرة التيار نتيجة قدرته السابقة على استيعاب كل الوظائف النسائية في مؤسساته ذات الطابع النسائي الكلي مما جعل اي محاولة أخرى، وإن كانت مقاربة، انشقاقا وتجاوزاً وهو الأمر الذي حقق عبره رسوخاً جذرياً لطروحاته الاجتماعية. 5- هيمنته على الخطاب العام ووسائله المختلفة مستفيداً من انشغال المجتمع بقضايا النمو والتنمية. ولا شك في أن المطالبة بضرورة مواجهة حساسية التعامل مع المرأة بالحوار المباشر، تعي أن جذور المشكلة تكمن في "تواطؤ" اجتماعي عام له أسباب مختلفة، بعدم مناقشة هذه القضايا مهما كانت الظروف. وإن امكانية اعادة تشكيل الصورة بما يتفق وحاجات المجتمع الآنية والمستقبلية ضمن السياق الشرعي الصحيح تستلزم كسر هذا الصمت والدخول في صخب حواري يفضي بالضرورة إلى التعرف الكامل على جوانب القضية وتحديد آلية التعامل معها بشكل صحيح. أما الهدف الأكثر أهمية فهو أن الحوار سيمتد ويتسع ليكشف في احتكاكاته المختلفة جوانب "الازدواجية" الطاغية في السلوك الاجتماعي ما يسهل عملية تفتيتها. والازدواجية هي المعوق الحقيقي لعمليات التنمية، والتواصل الاجتماعي البناء، وإذا لم يثمر الحوار القضاء علىها فلربما أثبت أن المعالجة تستدعي البحث عن طرق ووسائل اخرى. ومظاهرها كثيرة جدا لكن من أبرز الشواهد: السماح للمرأة بالتعليم حتى وإن كان في دول أجنبية ثم منعها من العمل مهما كانت الحاجة اليه اقتصاديا. قبول خروج المرأة مع سائق اجنبى والاختلاء به ووجوده في منزلها، أما قيادة المرأة للسيارة فهي انحراف وخلل أخلاقي خطير. سلوك الفرد في السفر وفي الداخل، وتباين قناعاته النظرية عن سلوكه الاجتماعي. الاعتراف بحق الخطيب رؤية المخطوبة ورفض تطبيق ذلك في الأسرة. استنكار خروج المرأة للسوق مع السماح لها في الوقت ذاته بالعمل في أماكن نائية تبعد عن منزلها اكثر من 200 كيلومتر للحصول على بعض دخلها. وغير ذلك من الشواهد المماثلة. وهذه الإشكالية لا يمكن حلها إلا بمواجهة العوامل المسببة لها. واختيار عمل المرأة مدخلاً وحافزاً يعود لكونه المظهر الازدواجي الأكثر وضوحاً. والمشترك بين كل فئات المجتمع. إضافة الى أنه من الضرورات الاقتصادية لدى اسر كثيرة. ارهاصات الحوار والواقع الحالي أول محاولة نسوية موثقة للمطالبة بحق العمل كانت لسيدة سعودية أرادت دخول مجال استثماري ففوجئت بأن النظام لا يسمح لها بذلك لأنها مواطنة وليست مواطن. وعندما أصرت على حقها في اعتبار أن النظام لا يفرق في نصه بين مواطن ومواطنة ما لم يعلن الاستثناء صراحة لم تجد أي إستجابة فبادرت الى الاتصال بخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الذي أكد صحة تفسيرها وحقها تالياً. وارتفع، بعد ذلك، عدد سيدات الأعمال وكثرت شكاواهن على التمييز السلبي في المعاملة، والمطالبة بتعديل السلوكيات الادارية وتسريع الاجراءات، والحصول على الحق الكامل في متابعة أعمالهن مباشرة لحماية استثماراتهن وضمان حقوقهن. وأثمرت هذه الضغوط، منذ ثلاث سنوات، تنظيم أول مناقشة علمية ومنهجية لعمل المرأة وآفاقه من طريق ندوات ومحاضرات ولقاءات، أشرفت عليها جهات علمية وشبه رسمية، تبحث طبيعة المعوقات الموجودة ووسائل تجاوزها. كما أنها نجحت، الى حد ما، في رصد ردود الفعل المحتملة، والتعرف الأولي على الاعتراضات والمحظورات القائمة. ثم توجت هذه الأنشطة في العام الماضي بمحاضرة شاملة ألقاها في الرياض الباحث الاقتصادي الدكتور عبدالعزيز الدخيل دعا فيها الى ضرورة نشوء "حوار ايجابي وهادئ حول عمل المرأة ودورها في التنمية الاقتصادية" يشترك فيه الجميع خصوصاً الرجل "لأن دوره في اعاقة تقدم المرأة أكبر". ويمكن القول إن هذه الأنشطة توازت مع جهد رسمي مماثل اذ أكد وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز العام نفسه أن عمل المرأة محل اهتمام الملك فهد والأمير عبدالله والنائب الثاني وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز، موضحاً أن مجلس القوى العاملة قام بجهود مكثفة وصلت الى دراسة متكاملة، وليس هناك أي مبرر يمنع عمل المرأة خصوصاً في بعض المجالات. كما تشكلت، قبل سبعة أشهر، لجنة حكومية عليا لبحث أوضاع ومتطلبات الشباب والفتيات السعوديين في كل مراحل تعليمهم وحتى خروجهم الى سوق العمل وتوظفهم. وأهمية هذا الموضوع متصلة بالنمو السريع لمساهمة المرأة الذي ارتفع من 92 عاملة عام 1961 الى 225.804 عام 1997، منهن 181653 سعودية، اضافة الى نمو العمالة النسوية السنوي بنسبة 4.8 في المئة مقابل 3.9 في المئة للذكور، وهيمنة المرأة على التعليم العالي بنسبة 53 في المئة. وهذه الأرقام توضح حجم المشكلة المستقبلية، ان لم يتم تدارك الوضع وايجاد مخارج أخرى ملائمة. استطاع القطاع العام في الفترة الماضية استيعاب نحو 82 في المئة من العمالة السعودية تركزت بشكل أساسي في مجال التعليم 89 في المئة والصحة 7 في المئة، الا أن هذين المجالين تشبعا الى الحد الأقصى. ولم يعد ممكناً توظيف ثمار مرحلة التنمية الحالية والمتمثلة في 78.7 ألف عاملة يقفن على باب العمل منهن 40.9 ألف جامعية الا بايجاد مجالات جديدة في القطاعين الحكومي والخاص. والحديث عن التشبع الوظيفي ليس دقيقاً كلياً إذ لا تزال بعض المجالات مفتوحة ولم يتم استثمارها لأسباب مختلفة يعود بعضها للمرأة مثل التخصص النظري وعدم توافقه مع حاجات الوظيفة، أو تعالي المرأة على بعض الوظائف، أو اعتراضها على ساعات العمل، أو اصرارها على وظيفة حكومية. وقد يتحفظ المجتمع على وظائف المستشفيات لحساسية اجتماعية. كما توجد عوامل اعاقة خارجية مثل بعد مكان العمل عن المنزل، أو توافره في مدينة أخرى، وصعوبة المواصلات، وضعف الدخل وانعدام الحوافز. واذا تمت معالجة هذه الأسباب ومعظمها ذات جذر اجتماعي مع فتح مجالات جديدة فإنه سيكون من اليسير تجاوز هذه الاشكالية خصوصاً وأن معظم المجالات المحتملة والمتداولة في الحوارات الاجتماعية لا تخرج عن النطاق التقليدي للعمل وإن تطلب بعضها مرونة اجتماعية مثل العمل في المستشفيات وما إليها. ومن أهم المجالات المقترحة فتح فروع نسائية في الجهات الحكومية والأهلية لاتاحة الفرصة لها لمتابعة أعمالها خصوصاً في المحاكم والشرطة والبلديات ووزارة العمل والشركات الكبرى والهاتف والخطوط السعودية والخدمات الفندقية والسياحة والترجمة ووظائف الحاسب الآلي وغيرها. وذهبت بعض الطروحات النسائية الى المطالبة بحق الرئاسة في المؤسسات التي لا يقل تأهيل المرأة فيها عن الرجل مثل بعض ادارات الجامعات والعمادة في الكليات، والأقسام والادارات الطبية. أما أكثر المطالب طرافة وحيوية في الوقت ذاته، فلقد نادى باخراج الرجال من الرئاسة العامة لتعليم البنات وتسليمها للنساء لوجود التأهيل ولطبيعة الاختصاص ومنع اختلاط الرجال بالنساء. واللافت أن مسألة الاختلاط لم تحظ باهتمام حقيقي والاشارات حولها نفت حدوثها خارج إطار الحدود الموجودة والضرورية بسبب المرجعية الشرعية للحكومة، وطبيعة المجتمع المحافظة. كما برهنت التجربة العملية على عدم منطقية مثل هذا التخوف اذ تعززت القيم المحافظة بل أن التمسك بالحجاب أكثر شيوعاً بين الطبيبات والصيدلانيات والممرضات، وهي الفئة الأكثر اتصالاً بالجمهور من الجنسين. قيادة المرأة للسيارة والمفارقة الاجتماعية لا يشكل عمل المرأة على رغم الصخب حوله هاجساً اجتماعياً له قيمة بالمقارنة مع مسألة قيادة المرأة للسيارة التي بلغت حساسيتها درجة تجاهلها كلياً في الكتابات الصحافية التي خاضت في عمل المرأة بجرأة وانتشاء مبالغ فيه وبحماس بلغ حد التطرف أحياناً. وتراجعُ درجة عمل المرأة في سلم الحساسية يحدد أن أولوياته تتبدل في كل حالة، فاذا كانت القضية المطروحة أحادية كان لبعض جوانبها الأولية، أما اذا تداخلت مع قضية أخرى فان الأقل أهمية منهما تصبح خارج دائرة الاهتمام. وهذه المفارقة اذ تكشف جانباً من الازدواجية الاجتماعية، تؤكد أن الحساسية المتأصلة هي في الدرجة الأولى، ضد كل ماهو جديد وطارئ خصوصاً إن كانت له علاقة بالمرأة. ووفق هذا الفهم فإن عمل المرأة ليس بدعة مستحدثة بل هو قائم أصلاً ومألوف وله فوائده الاقتصادية المباشرة التي لا يمكن تجاهل دورها في رفع مستوى معيشة الأسرة وتحسين وضعها المادي، والعمل الوظيفي له نطاق جغرافي محدد وزمن محسوب. وأية اضافات محتملة لن تتجاوز ادراج مجالات جديدة تمتلك، الى درجة كبيرة، مواصفات م اسبقها، وتتولاها حكومة أكثر حرصاً من شعبها على الالتزام الشرعي. أما قيادة السيارة فهي تجربة جديدة وغامضة. فيها صفات التمرد على السيطرة. وكسر حاجز حدود المكان. وتغذية نزعات الاستقلالية والقيادة. وتأكيد عوامل المساواة وحرية القرار. وقد تؤدي اذا ترافقت مع العمل الى انقلاب في معادلة التوازن الأسري. وهي انكشاف كلي للمرأة على الآخرين يزيد من درجة اتصالها بالرجال والتعامل المباشر مع نوعيات متباينة منهم مما يخرجها من استتارها ويعوّدها على استسهال الحديث مع الأغراب والاتصال بهم. كما أن تداخل المرأة والرجل في الطرق يسبب الحوادث بما فيها القصدية بغية الاحتكاك المباشر مع المرأة. وهي في حال الاعطال والحوادث محرومة من الآمان المنزلي والحماية الأسرية ومعرضة، تالياً، لكافة أشكال الانتهاكات اللفظية والسلوكية. أما الجانب الأكثر خطورة فهو أن حصول المرأة على حق قيادة السيارة بعد يأس سيشجعها على المطالبة بامتيازات أخرى تؤدي في النهاية الى ذوبان هوية المجتمع وضياع قيمه وتفكك أواصره. كل المبررات السابقة هي نسق المجتمع المحافظ في التحذير من كل جديد والحث على تجنبه للسلامة من عواقبه المجهولة وأضراره الكامنة، مع عدم الالتفات الى أية جوانب ايجابية. من جهة أخرى يرى أنصار القيادة، ان السيارة لا تختلف في جوهرها عن أية وسيلة نقل أخرى. وهي النقطة التي أدركتها البدوية السعودية فاستبدلت السيارة بالجمل لأنها، بكل بساطة أسرع وأوفر مساحة. ولو كانت تعرف أن سلوكها العفوي هذا هو صورة حداثة نسائية وتعبيراً عن التمرد والانشقاق لأحرقت سيارتها في اللحظة ذاتها. واذا كانت محاذير قيادة المرأة بهذه الخطورة فمن الأولى منعها من التحرك بصحبة سائق أجنبي يصاحبها معظم وقتها ويعرف تفاصيل حياتها أكثر من أي فرد في أسرتها لأن الخطورة في هذه الحال مضاعفة سواء بوجود السائق نفسه، أو لجرأة المتحرشين الذين يستأنسون بوجود السائق وعدم قدرته على مدافعتهم. والقبول بوجود سائق مع استنكار قيادة المرأة للسيارة دلالة على فقدان الثقة وغلبة الشك في سلوكها، فيكون السائق هو البديل لاستلام راية الحماية وهو الذي يقرر حدود ثقة الرجل بأهله كيفما شاء. وإذا كانت المحاذير القائمة صحيحة، كلها أو بعضها، فانها متحققة في وجود السائق،ان لم يزد عددها وتتحقق احتمالاتها. لذلك من الأولى قيادة المرأة للسيارة حماية لها وتأكيداً للثقة وتقليصاً للنفقات الاضافية المرهقة. وسط هذه الأجواء المتوترة تسود قناعة أولية باحتمال تطبيق الفكرة تغذيها اشاعة راجت منذ سنة عن قرب قيادة المرأة للسيارة، وأشعلت النقاش حينها لفترة طويلة، وهو نقاش كان في بعض حالاته يتناول الاحتمالات الممكنة عند بدء التطبيق وراوحت بين السماح لغير السعوديات أولاً الى أن تصبح رؤية المرأة تقود سيارة أمراً مألوفاً، أو استقدام سائقات محل السائقين لتحقيق الهدف ذاته. أما بالنسبة للسعوديات فيتم الأمر تدريجياً عن طريق تحديد النطاق الجغرافي الآمن، وعدم السماح للمرأة بالقيادة في الطرق الطويلة أو أطراف المدينة، وأن تكون الفترة المسموحة بين السابعة صباحاً والسابعة مساء، ويقتصر الإذن على الموظفات اللاتي يحملن رخصة قيادة دولية وجاوزن سن الأربعين. وهو ما طمأن البعض الى عدم حدوث الخطوة أصلاً لأنه ما من امرأة ترضى بكشف حقيقة عمرها لجيرانها وأقاربها وزميلاتها خصوصاً إذا جاوزت سن الصبا. خلاصة الحوار الدائر حالياً لا يزال، كما سلف، أحادياً وهو يتحرك على مستويين: أحدهما علني منشور يتصل بعمل المرأة وآفاقه، والآخر شفهي مستتر عن قيادة المرأة للسيارة ما عدا تحقيق صحافي ونقاشات ملتهبة في نوادي الإنترنت. وتتولد داخل كل مستوى تفرعات عدة تصطدم ببعضها أحياناً وان كانت متفقة على المبدأ لما يشوبها من حماس واستعجال، وتأكيد للحضور والمساهمة، والرغبة في الاستئثار بالريادة الاجتماعية والقدرة على المبادرة. وهو ينقسم أيضاً الى مستويين نسائي ورجالي. تغلب على النسائي لغة دعاوية استعراضية منتشية بالاهتمام ومتعلقة بالاحتمالات الوردية في جانب، وتخوف أو رفض لمغادرة المنزل والقبول بالبدع الجديدة. وتتعدد صورة الرجالي بين متحمس باندفاع أو معتدل متوازن الرؤية أو متوقف يلاحظ ويراقب ويلامس الى مواقف رافضة ومحذرة. وعلى رغم هذه الضبابية، تبلورت بعض القناعات المشتركة، عن عمل المرأة تحديداً. تؤكد حقها في العمل وضرورة مشاركتها الموسعة مع تباين في تحديد درجات المشاركة وحدودها. وتحدد بعض هذه الطروحات منطلقاتها عبر تأكيد الدلالة التنموية المتحققة من امتلاك المجتمع معظم مفاتيح طاقته. واعتماده على مقوماته البشرية جميعاً. والأثر الاقتصادي الايجابي لعمل المرأة بالنسبة للأسرة أو المجتمع. وتقليص العمالة الأجنبية وتدوير رأس المال محلياً. وتأكيد الذات في القدرة على الانتاج. ان ما يحدث من حوار يمتد في جانب ويتراجع في آخر لا يمكن الجزم بما سينتج عنه فقد تتناغم طبقاته وتتناسق صورته، وقد تتشعب به الاتجاهات حتى تتقطع سبله. لكن المهم ماذا سيحدث عملياً وكيف سيكون، وما هي ردود الفعل الحقيقية لأي ممارسة جديدة التي ستختلف حتماً عن الطموحات النظرية ارتكازاً الى الازدواجية وتناقضاتها التي لا تكشف عن حقيقتها الكامنة الا في حال المواجهة المباشرة. ان ما يجمع كل الأطراف هو القناعة الكامنة بأن ما سيحدث مهما كانت طبيعته، سيبقى داخل أطره الشرعية بعد تنقيتها من الالتصاقات والهوامش الاجتماعية الطارئة. أما حال التدفق في الحوار والانتعاش فهي بسبب احساس كل كاتب بأن فكرته قد تكون نواة قرار أو مقدمة لتغير يحدث في وضعية المجتمع يكون مساهماً فيه ومحرضاً عليه. وهو الطموح الذي يدفع الى الساحة بمزيد من المشاركين. ويبقى أن الحقيقة الظاهرة في هذا الخضم، حتى الآن، هي أن المواجهة تحققت ربما من دون أن يعي بعض المشاركين بدورهم وتأثيرهم في احداثها لإنشغالهم بالتفاصيل. وأن المحاور المطروحة تتولد، أحيانا، من مساراتها الذاتية لتدخل في تشعبات تضيع معها نقطة الإنطلاق وتعود لتلمس طريقها مرة أخرى.