طوال الستينات ومعظم السبعينات كانت الخلايا الحزبية في جامعات لبنان، خصوصاً في الجامعتين اللبنانية والاميركية، ترقب بدقة الطلاب الجدد لتدرس اوضاعهم وانتماءاتهم الاجتماعية والاقتصادية لتتوزّعهم، من طريق تقديم بعض المساعدات لهم في مجال التسجيل والكتب والتأقلم مع الحياة الجامعية، وذلك تمهيداً لدعوتهم و"تأطيرهم" في هذا الحزب او ذاك حسب تعبير تلك الأيام. كان هذا الأمر محطّ تنافس بين الأحزاب السياسية، على تنوّعها، يصل احيانا الى نزاع حاد وساخن يرفع حرارة الحياة الطلابية ويشحنها بنوع من الصخب السياسي كان يعصف يومها بتجمعات الطلاب في الملعب والمطعم والزوايا وعند مداخل الجامعات وفي المقاهي القريبة منها، من دون اعفاء قاعات الدراسة من ذاك الصخب الذي كان أحيانا يعطل الدراسة لساعات وربما لأيام. وهذا الوضع جعل المجال الطلابي الجامعي الحلقة الثانية وأحياناً الأولى في عمل الأحزاب. ومرت الحرب بلبنان، فكانت حرب الجميع ضد الجميع، وأصاب الجامعات ما اصاب غيرها، بل ووقع عليها الكثير من اعباء النزاع المسلح فتعطلت صيغها الجامعية وتحولت الى مجرد مؤسسات تجمع بين جدرانها طلاباً، ولكن من دون صخبهم ذاك، خالية من الروح على حد قول واحد من "الحرس الحزبي الطالبي القديم". وكانت الأحزاب لاعباً وداخل اللعبة في آن واحد، وبدا كأن صورتها اهتزت بعض الشيء بعد الحرب في تلك الجامعات. يقول بعض ذاك الحرس القديم ان طلاب هذه الأيام قطعوا مع الماضي لأنهم جهلة، في حين يقول اجتماعيون مختصون ان طلاب هذه الأيام هم طلاب على عجلة من أمرهم سطّحتهم الحرب قسراً، فلم تعد النظريات تصل اليهم، واذا وصلت لا يفهمونها. لقد قطعوا مع الماضي فعلاً، ولكن، ليس بسبب جهلهم، بل لأن الماضي كله اهتز احزاباً ونظريات وممارسات وقضايا كبيرة لأن رموزه كلها اهتزت. تُرى ما صحة هذا الكلام؟ قياس رأي، في اطار عملية احصائية شاملة، تناول اتجاهات الطلاب بشأن عدد من الموضوعات كشف الكثير من مواقفهم الطلاب من الأحزاب. وقياس الرأي جرى العام الماضي في الجامعتين اللبنانية والاميركية من طريق الاستمارات، أي لائحة الاسئلة المحددة سلفاً، التي جرت الاجابة عنها مباشرة وحضورياً او بعد تسليمها ثم اعادتها بعد يوم او يومين. الاستمارة للجامعة اللبنانية وزعت على 175 طالباً وطالبة بطريقة عشوائية، وكان عدد استمارات الاجابات الصالحة 134. اما في الاميركية فكان عدد الاستمارات 167 والاستمارات الصالحة 113. وكانت نتيجة الاجابات اللبنانية على النحو الآتي: 52 في المئة اجابوا ان لا علاقة لهم بالأحزاب التي كانت قبل الحرب وخلالها، و13 في المئة لا يعنيهم الانتماء للأحزاب، 14 في المئة متعاطفون مع تلك الاحزاب لكنهم غير منتمين اليها. 11 في المئة ينتمون الى تلك الأحزاب، 10 في المئة ينتمون الى جماعات حزبية جديدة، يسميها البعض احزاباً تقليدية معدلة مثل "اليسار الجديد"، "حزب الشعب"، التجمع حول العماد ميشال عون، "جماعة المستقبل" المحسوبة على رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، "حزب الخضر"، الى جانب روابط اجتماعية جامعية. وتبين ان 39 في المئة من ال 52 في المئة الذين لا علاقة لهم بالأحزاب يطالبون بأحزاب جديدة مختلفة عن احزاب الحرب وما قبلها، يكون لها وزن اجتماعي وتكون واضحة في برامجها وفي الوسائل التي ستتبعها لتحقيق اهدافها خصوصاً بشأن لبنان ثم المنطقة العربية والاسلامية. وهؤلاء، نسبة الى 39 في المئة، عندما تقوم هكذا احزاب يفكرون بالانتساب اليها. وفي الجامعة الاميركية تبيّن ان 69 في المئة لا علاقة لهم بالاحزاب التي كانت قبل الحرب وخلالها، و15 في المئة لا يعنيهم الانتماء للأحزاب، 3 في المئة منهم متعاطفون مع تلك الاحزاب وغير منتمين اليها، و3 في المئة ينتمون لتلك الاحزاب، و13 في المئة ينتمون الى جماعات حزبية جديدة كما ورد سابقاً، اضافة الى "جماعة مكافحة المخدرات". 55 في المئة من ال69 في المئة يطالبون بأحزاب جديدة ذات وزن مع المواصفات نفسها التي وردت سابقاً. وجرى تحييد حزب الله من استقصاء الرأي باعتباره رديفاً للمقاومة الاسلامية في الجنوب اللبناني، والاستفتاء عليه قد ينال من المقاومة ويضعها رهن النقاش وهو أمر غير مناسب في هذه المرحلة. هل احزاب ما قبل الحرب وخلالها مسؤولة عن التسبب بتلك الحرب وفي أي مرتبة تقع تلك المسؤولية؟ في الجامعة اللبنانية: لا يمكن انكار مسؤولية تلك الاحزاب، لكن مرتبة تلك المسؤولية تتراوح بين السادسة او السابعة، ونسبة تلك المسؤولية لا تتعدى ال10 في المئة. في الجامعة الاميركية: مسؤولية تلك الاحزاب كبيرة، وكانت لاعباً مهماً فيها وتقع في المرتبة الثالثة من المسؤولية، ونسبة تلك المسؤولية تصل الى 40 في المئة. اما نسبة الدقة في استقصاء الرأي هذا فتصل الى 60 في المئة لأن اجابات كثيرة كانت تعطى بسرعة وبنوع من رد الفعل. كذلك فان هناك خوفاً من ان يكون الطلاب الذين جرى استفتاؤهم جاهلين بالأحزاب اللبنانية ككل، او على الأقل غير مُلمّين بتاريخها الحديث، او ان تكون لديهم افكار مسبقة وثابتة عنها متجمعة من المحيط العام وليست نتيجة معرفة واطلاع مباشر. وعلى رغم ذلك يشكل استقصاء الرأي هذا دليلاً الى وقوع الاحزاب التقليدية، اذا صح التعبير، خارج دائرة الفعل والتأثير في الأوضاع اللبنانية والعربية عامة، وانها لم تعد محط استقطاب كما كانت سابقا. كما تدل النتائج الى الحاجة الى صيغ حزبية جديدة او لأحزاب جديدة حتى وان كانت مستنبتة من احزاب سابقة او نسخة معدلة لها تأخذ في الاعتبار ما مر بها وبلبنان وما مر بالمنطقة العربية ككل.