ما اسم القرن الأدبي والحضاري الذي ينقضي في ثقافتنا، عملاً بتقليد نسب القرون، منذ القرن التاسع عشر، إلى سمات اعتقادية؟ أسيقولون عنه إنه عصر "الحداثة" بعد عصر "النهضة" الملازم للقرن التاسع عشر؟ هل يطلقون عليه اسماً، أم يكتفون بتحميله رقمه العددي وحسب، كالقول ب"أدب القرن العشرين" أو "مسرح القرن العشرين" وغير ذلك، مبتعدين عن التسميات الاعتقادية والإيديولوجية الشديدة؟ لكن الناظر إلى كتب التاريخ الأدبي العربي يلاحظ بأن هذه "الحيادية" الظاهرة لا تنسجم مع حدة الجدل الذي دار قبل مئة عام على التقريب في الكتابات العربية المنشغلة بالتاريخ، بل بتأسيس هذا النوع الكتابي في الثقافة العربية. والعودة إلى معطيات هذا الجدل ترينا حقيقة الانتقال من عالم كتابي إلى آخر، من عالم "التراجم" إلى عالم التاريخ والتصنيف، ومن هذا إلى عالم الدراسات الذوقية والنقدية واللسانية، غير العابئة في عقود هذا القرن الأخيرة بشواغل الكتابة التاريخية. والوقوف عند عدد من الكتب منذ أواسط القرن التاسع عشر يظهر لنا سبيلين في الكتابة النقدية عموماً: سبيل يتوخى شرح أبيات الشعر، وسبيل تعليمي يقوم على التعريف بعلوم العربية. وهي كتب، وإن بدت تقليدية في مبانيها وتأكيداتها، إلا أن بعضها ما خلا من تجديد في النظر، أو من تطويع للمادة القديمة، وفق مقتضيات ناشئة تجد أصولها في سريان منظورات نقدية أوروبية في الكتابات العربية. لكن قراءة غيرها، منذ نهايات القرن التاسع عشر، تظهر لنا سبيلاً ثالثاً، يتحدد في نوع كتابي جديد، هو التاريخ الأدبي، من دون أن يخلو متنه من الشرح أو من العرض التعليمي. فماذا عن السبيل الجديد؟ علوم، عصور وأدوار يعدد جرجي زيدان في مقدمة كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" كتباً قديمة مختلفة ضمت تراجم العديد من الكتاب المسلمين، ولا يلبث أن يضيف: "لكنها أي الكتب لا يصح أن تسمى تاريخاً لها بالمعنى المراد بالتاريخ اليوم". ثم يؤكد أن المستشرقين هم الأوائل الذين ارتادوا هذا الميدان، وأنه هو "أول من فعل ذلك" بين العرب، حين بدأ بنشر فصول في هذا الميدان الذي أطلق عليه، هو قبل غيره، اسم "تاريخ آداب اللغة العربية". ثم يفيدنا في المقدمة نفسها قسمته لهذا التاريخ بين ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، وفقاً ل"عصور" تحددها "الانقلابات السياسية"، طلباً ل"بيان ما يكون من تأثير تلك الانقلابات عليها". والعصور هي: صدر الإسلام، الأموي، العباسي، المغولي، العثماني، فالعصر الحديث.، وقسم كل عصر إلى "أدوار" حسب الاقتضاء. ولقد توصل لويس شيخو إلى النتيجة نفسها في مقدمة كتابه "تاريخ الآداب العربية"، إذ يقول: "ومن عجيب أمور اللغة العربية أنك لا تجد حتى اليوم تاريخاً ممتعاً لآدابها مع وفرة كتبتها وتعدد مصنفاتها في كل أبواب العلوم واتساع دائرة نفوذها". ويضيف قائلاً في مسعى زيدان المذكور: "وكذلك جرى على آثارهم أي الأوروبيين بعض كتبة الشرق في مصر فاستقوا من مناهلهم أخصهم المرحوم جرجي زيدان في كتابه تاريخ الآداب العربية الذي انتقدنا أقسامه تباعاً في مجلة المشرق". وكان الأب اليسوعي قد شرع في نهاية القرن التاسع عشر بنشر فصول، بدوره، عن تاريخ الآداب العربية في ذلك القرن وحسب، ونشرها تباعاً في مجلة "المشرق"، وما لبثت أن صدرت مجموعة في كتاب بعنوان "الآداب العربية في القرن التاسع عشر". لكن ملاحظة الكاتبين لا تجيب أو لا تظهر كفاية حقيقة اللحظة السجالية التي احتدمت خصوصاً بين زيدان والرافعي وغيرهما حول كيفية تصنيف علوم العرب القديمة وتاريخها. فقبل مشروعي الرافعي وزيدان صدرت، سواء في بيروت أو في القاهرة، بعد باريس وبرلين ولندن وغيرها، مشروعات أو مساع تاريخية "جامعة" لتوضيب التاريخ الحضاري والأدبي العربي- الإسلامي، منها مشروع يوسف هامر بورجستال، الذي اعتبره بروكلمان "أول محاولة" لتقديم الأدب العربي "في عرض كامل"، والتخطيط المختصر الذي رسمه فون كريمر في كتابه عن تاريخ عمران المشرق في عصر الخلفاء، وهو التخطيط الذي يدين له بروكلمان، على ما يعترف، "بكثير من التوجهات"، منذ محاولته الأولى في وضع هذا التاريخ. وكانت قد صدرت، قبل اللحظة السجالية التي سنتوقف عندها، كتابات بالعربية يمكن ذكر بعضها: إدوارد فانديك وفيليبيدس قسطنطين في "تاريخ العرب وآدابهم"، ومحمد دياب في "تاريخ آداب اللغة العربية"، ومحمد روحي الخالدي في "تاريخ علم الأدب عند الافرنج والعرب"، وجرجي زيدان في "تاريخ اللغة العربية باعتبار أنها كائن حي تام خاضع لناموس الارتقاء"، وحسن توفيق العدل في "تاريخ آداب اللغة العربية"، ومحمد عاطف بركات والشيخ محمد نصار وأحمد ابراهيم وعبدالجواد عبد المتعال في "أدبيات اللغة العربية"، وحفني ناصف في "تاريخ الأدب"، أو "حياة اللغة العربية" وغيرها الكثير. فماذا عن اللحظة السجالية؟ أعلنت الجامعة المصرية في العام 1909 عن مسابقة من أجل إعداد كتاب في "أدبيات اللغة العربية"، مقابل مئة جنيه، وفي سبعة شهور، فباشر مصطفى صادق الرافعي بوضع كتابه "تاريخ آداب العرب"، لكنه تأبى عرضه على اللجنة، وأصدره قبل شهر أو شهرين على كتاب زيدان، الذي كان قد عرض الجزء الأول من كتابه المعروف "تاريخ آداب اللغة العربية" على اللجنة وفاز بالجائزة. والعودة إلى منظوري الكتابين، بل المشروعين، تظهر لنا حقيقة السجال الذي تعدى نطاق المؤرخين والدارسين ليتناول، واقعاً، نشأة هذا العلم الجديد في العربية: التاريخ الأدبي. يجد الرافعي ضرورة لوضع مقدمة وكلمة تمهيدية، بل تعليلية لكتابه "تاريخ آداب العرب"، وراعنا في هذه المقدمة انتقادها، وإن الضمني، لكتب في التاريخ الأدبي، سواء في مساعي "المستشرقين" أو "المستغربين" حسب لفظه، ممن اتبعوا الطرق الأوروبية في وضع تواريخ الآداب. وتفيدنا قراءة هذه الكلمة وغيرها في الكتاب في الوقوف على "لحظة" سجالية، نستجمع عناصرها وتفيدنا عن نقد جلي وواقع في أسباب وضع كتب التاريخ، في خياراته العلمية والثقافية والحضارية. ذلك أن ما ينتقده الرافعي في مساعي سابقيه ومجايليه لا يقتصر على نقاط أو تفاصيل مثل وضع علم الفلك مع فن الشعر في كتاب واحد، مثلما حصل في كتب المستشرقين، وفي كتاب زيدان بعدهم، ولا يحقق إضافات على ما سبق طرحه، وإنما يطاول مباني العلم هذا، الذي هو قيد الإنشاء والتحقق، ما يضيء بالتالي فسحة السجال وهي فسحة التأسس والخلاف في آن. يقوم الرافعي، في الكلمة وغيرها، بنقد متعدد الأوجه للسبيل التاريخي مثلما سارع إلى اعتماده وتجريبه عدد من الكتاب العرب، بمن فيهم المصريين. وهو سبيل ينتسب في حسابه إلى نوعين: "أعجمي الوضع والنسب" حسب لفظه، و"هجين في نسبته إلى أدب العرب" حسب لفظه، ما يعني "استعجام نسق التأليف". وهو يستغرب صدور مثل هذا النوع الكتابي، إذ "أغفله من سلف"، عدا أن العثور على مواده صعب، إذ ذهبت بعض آثاره، كما أن دراسته في صورة سليمة تتطلب الوقوف - المتأني طبعاً - على ما هو موجود في بطون المؤلفات، وهو ما لا يفعله العجولون. كما يسخر الرافعي من تسمية غيره لهذا العلم بتسميات "فاسدة"، مثل حديثهم عن "تاريخ أدبيات اللغة العربية"، أو التي يستبدلونها بلفظ "الآداب" أحياناً، منتقداً لفظ "الأدبيات" نفسه، "الركيك" والمأخوذ من المدلول الأجنبي للفظ littژrature. لا يقر الرافعي بتقسيم "العصور"، لأنه لا يصلح في تاريخ آداب اللغة، وإن يصلح في القسمة السياسية، فما هو ممكن في ضروب الاجتماع وأشكاله أي تغير الأحوال السياسية ليس ممكناً في آداب العربية. فالتاريخ السياسي زمني، واقع في حوادث البشر، أما تاريخ الآداب فلا يخضع للزمنية نفسها، إذ أن القرآن الكريم بلغ "مبلغ الإعجاز على الدهر"" ويعني هذا أن العربية بلغت خلودها ما أن طوت عصرها الأول. إلى هذا، فان الرافعي يجد سبباً إضافياً لرفض قسمة العصور المقترحة، وهو أن الآداب، بخلاف الفنون العملية، لا تعرف نمطاً تطورياً يمكن تتبعه في قسمة زمنية الطابع، ولا تشبه آداب غيرها من الأمم "على وضع واحد". ولهذا يرى بل يدعو إلى أن يكون تاريخ الآداب في كل أمة "مفصلاً على حوادثها الأدبية لأنها مفاصل عصوره المعنوية". ونتحقق بالتالي من أن الرافعي يرى إلى التاريخ السياسي رؤية حدثية، زمنية، إذا جاز القول، فيما يرى إلي التاريخ الأدبي، نظرة محلية مخصوصة، وفنية، لا تستبقي في حساب التاريخ "إلا ما أحدث تغييراً ملموساً"، لا الزمني بالتالي. واللافت في رؤية الرافعي هذه هو أنه يرى إلى التاريخ الأدبي الأوروبي في صورة متسقة يتيحها تاريخه نفسه، فيما يرى أن التاريخ المحلي "متقطع"، فضلاً عن "تداخل أدواره"، وذهاب بعض متونه أو انقطاع التأليف فيه. وهي أسباب متعددة تجعل كتابة التاريخ الأدبي العربي مهمة صعبة، ولا تناسبها - وفقاً للتعيينات هذه - طريقة المستشرقين، إذ "يستحيل أن تنضد كل حوادثه في متعاقب أزمانه أو تنزَّل على مراتب عصوره". ويخلص الرافعي من ذلك كله إلى تبيان أن آداب العرب مخالفة، في غير وجه، للآداب الأوروبية، ولا يجوز بالتالي وضح تاريخ لها مناسب لتاريخهم: فأدبهم يستند إلى الحوادث، فيما الآداب العربية لا تستند إليها، كما ان الآداب الأوروبية تتعلق برجالها أي بما يصنعونه فيها، ويقدرون على ذلك، فيما يتعلق أدباؤنا بأدبهم أي المرجعية القرآنية، واقعاً، لا هو بهم. وهو ما يصوره في تشبيه شديد القسوة، إذ يجعل الأدباء الأوروبيين "متصرفين في اللغة"، فيما ينزل الأدباء العرب "منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية". وهذا يعني - من دون أن يوضحه الرافعي في صورة جلية - أن التجديد الأدبي غير ممكن عربياً، طالما أن "قِبلته" سابقة عليه تاريخياً، ومتحققة سلفاً في صورة فنية في "الإعجاز" القرآني. ويخلص الرافعي من نقده هذا إلى وضع تصور بديل للتقليد الناشىء، وهو مذهب يقوم على الجمع بين مواد كل فن، من مبتدئه إلى منتهاه، "متقلباً على كل عصوره سواء اتسقت أم افترقت فلا تسقط مادة من موضوعها ولا تقتصر على غير حقيقتها ولا تُلجأ إلى غير مكانها". الفنون بدل العصور الفنون أو العلوم الأدبية، إذن، بدل العصور الأدبية" وهو ما يقررة الرافعي في أبواب الكتاب، إذ يبدأ باللغة مصدراً، وصولاً إلى التاريخ الوقائعي إذا جاز القول" كما يبدأ من القرآن وصولاً إلى الآداب. وهي نظرة تصنيفية، كما نرى، وترى إلى التاريخ على أنه محل اعتقاد واجتهاد في الدرس والترتيب. فالرافعي لا ينطلق من تاريخ وقائعي، فيسعى إلى توضيبه وفقاً لما هو عليه، بل ينطلق من تسليم بأن معنى التاريخ ومصائر البشر تعينت في صورة قبلية وتتعداهم، أي سابقة على حوادثهم وأفعالهم، عدا أن هذه تابعة، لاحقة، لا تبلغ مرتبة الفعل-الأساس: الحدوث القرآني، على أنه حدوث معين زمناً وغامر للتاريخ بعده. اقترح الرافعي تصنيفاً للعربية لن تحتفظ به الكتابات اللاحقة، و"مقاومته" التقليدية، ذات السند القوي، لم تصمد أمام منظور جديد أعاد عملياً ترتيب الحضارة العربية من جديد: هذا يصح في الآداب كما في الفنون. واستجاب التغير الحادث لمقتضيات المثاقفة التشبه بدراسات أوروبا، بما فيها دراساتها عن العرب، ولأسباب واقعة في التعليم "العصري" كذلك، في المدرسة والجامعة، لا في "حلقة" المسجد أو في دار العالم. ولقد أدخل هذا المنظور العربية، وعلومها بالتالي، في "تاريخية" لا تني عن التأكد في أسباب كتابتنا الحالية، وإن تغيرت ظواهرها وأسبابها وطرقها التأليفية. هذا ما يمكن قوله عن عهد النقد الأدبي في صيغه المدرسية والفنية والفلسفية، مع ميخائيل نعيمة وطه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد النويهي وإحسان عباس وأنطوان غطاس كرم وحسين مروة وغيرهم. أو في عهد النقد التاريخي، "الوطني" الذي تناول في "دولة" بعينها فناً وحسب، مثل الشعر، أو "العربي الجامع" الذي درس في غير دولة عربية، أو في حقبة من تاريخها المشترك، فناً معيناً. أو في العهد الحالي من الدراسات، الذي نطلق عليه تسمية "عهد اللسانية". عهود متباينة في التاريخ الأدبي، لا يتوانى عهد عن الإطاحة بما سبقه، في نزاعات يظهر فيه التأثر الشديد بمجريات الدرس والتحليل في الدراسات الأوروبية، من دون أن تزيد معرفتنا بالضرورة بهذا التاريخ، ولا بمواده، عدا أن دراستنا له تكاد تقتصر على الشؤون الأدبية الصرفة من دون الوقوف على جوانبه الأخرى. فما سيقول التاريخ الأدبي عن حاصل القرن المنتهي في ثقافتنا؟