على المستوى الظاهري انتهت مسألة اللاجئين والمهاجرين الى نتائج وعواقب غير التي شكلتها المقدمات في الستينات. الهجرة الى أوروبا اكتسبت ملامحها من ملامح الاستقطاب السياسي الأوروبي - الشرق أوسطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية لكنها نحت نحواً متصاعداً مطلع الستينات حين أفصحت الاقتصادات الأوروبية عن عافية وصحة متماديتين حين لم تعد العمالة المحلية قادرة على تلبية حاجات العمل والتطور الاقتصادي للسوق الأوروبية. وكان التحالف الغربي مستعداً، في ظل معادلات الحرب الباردة لتقديم دور الشريك بغض النظر عن حجم ذلك الدور للدول القريبة لذلك التحالف، اذ سمح ذلك بفتح الطريق أمام أفواج الهجرة المنظمة من دول تركيا والمغرب خارج التحالف وايطاليا واسبانيا من داخله. ومع أن المهمات اليومية للعمال المهاجرين من تلك الدول كانت ذات طابع خدمي، ومن مستويات تحتاج الى قوة فيزيولوجية أكثر منها قوة عمل تكنولوجية أو علمية، الا أن الأمر بدا كلفته طيبة تنطوي على روح التضامن وتمهيد لادماج هذه الدول في المخطط المستقبلي للعالم الصناعي الغربي. ومع ذلك تميز المهاجرون من المغرب وتركيا في 1961 و1962 كونهم من شرائح تكاد تكون أمية ومن دون مواهب أو مهارات. وتشير الوثائق التاريخية عن تلك المرحلة الى أن الشركات الهولندية والألمانية كانت تتقصد استقطاب هذه الشرائح من دون غيرها لأنها تشكو من نقص هائل في قطاع الخدمات اليومية التي لم تعد تجتذب المواطن الغربي مهما كان متدني التعليم. ولكن الاطار الاجتماعي والقانوني الذي أطر وجود العمال الأتراك والمغاربة لم يكن أقل كرماً، في البداية، مما كانته قرائنها السياسية، حتى أن هؤلاء كانوا يدعون باسم خاص هو "العمال الضيوف". هذا الوضع تغير وجرت مراجعته تحت ضغط الظروف العالمية والاجتماعية. وحصلت عملية تأهيل غير منتظرة لهؤلاء العمال قبل أن تمضي خمس سنوات على وجودهم في هولندا. فالضيوف المغاربة والأتراك، الذين اعتقد الهولنديون أنهم عائدون لا محالة الى بلادهم بعد حين، أصبحوا بحاجة الى عائلاتهم وابنائهم في البلد الأم بعدما تبين أنهم باقون في البلد. وقبل أن يكتمل عقد على وجودهم تحولت مشكلة تجنس أولادهم الى ظاهرة ذات أثر يتعمق مع مضي الأيام. وبعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، حصلت أول محطة توقف جوهرية لإعادة النظر بوجود هؤلاء المهاجرين بعد فرض الحظر النفطي العربي على عدد من الدول الغربية وفي مقدمها هولندا. حرب تشرين، فتحت الأعين على هشاشة الاقتصاد الأوروبي المعتمد على نفط العرب من جهة، وعلى حقيقة الوجود العمالي لشرائح المسلمين الذين وصلوا الى حالة وسطية لا هي بالاندماج ولا هي التمايز والانفصال عن المجتمع الغربي. عند هذا الحد بدأ الوجود المهجري يرتدي طابعاً سياسياً. لا سيما وأن التشريعات القانونية التي سبقت حرب 1973 سمحت لهم بالحصول على امتيازات اجتماعية متقدمة منها الحصول على الجنسية والحق في لم الشمل مع العائلة، والحق في التزوج من مواطنة من البلد الأم، والحق على المحافظة على بعض التقليد الاسلامي وصولاً الى توفير أماكن للعبادة وممارسة الشعائر. حرب تشرين ومخلفاتها أرست خطوطاً وحدوداً بين المهاجرين وغيرهم، وشكلت أول ملامح عالمين مستقلين سوف يزداد تمايزهما بفعل الأحداث مع مرور الزمن. غير أن تلك الملامح لم تشكل عائقاً أمام الحكومة الهولندية أو غيرها من الحكومات الأوروبية، لاستغلال وتفعيل الوزن النسبي للمهاجرين داخل الجسم السياسي الأوروبي. وفعل، بهذا الصدد، التنسيق السياسي القوي بين الحكومات الهولندية المتعاقبة التي سيطر عليها الحزب المسيحي الديموقراطي، وبين حكومات المغرب وتركيا وغيرها، لتوجيه وتوظيف أصوات مئات الآلاف من المهاجرين لصالح الأحزاب الصديقة. ومع أن مناخ "الحرب الباردة" ومهمات التصدي للمشروع الراديكالي واليساري داخل أوروبا كان واضحاً وبجلاء في سياق نشاط المهاجرين، الا ان بروز "الجيل الثاني" منهم اكسب المعادلة ألواناً أخرى. فهذا الجيل عبر منذ البداية عن استعدادات أوسع للاستيعاب والجدل والنشاط ضمن آلية المجتمع الغربي من دون أن يتخلى بالضرورة عن هويته. وهو الى جانب تزوده بالمعرفة وحصوله على فرص منافسة تختلف نوعياً عن فرص والديه وعائلته، فقد وضع على الطاولة اسئلة وجودية مختلفة تماماً عن اسئلة الجيل الأول. ومن هذه الأسئلة: كيفية موازنة المعطيات السياسية والتاريخية والاعلامية، بما يقربها الى مقاييس العدالة والانصاف ورفض التمييز المسبق. وعنت هذه الأسئلة مراجعة المعطى المماثل في عقول المهاجرين الأوائل والمؤسسات التي تولت مرجعيتهم السياسية والوطنية. وعند هذا الحد بدأ القانون الهولندي يشهد جملة من التطورات والقفزات لتلبية الحاجات المستجدة للجيل الثاني، الذي لم يعد جيل "ضيوف" مؤقتين، بل جيل جديد يتكامل مع غيره من الأجيال المشابهة في الخلفية والديانة مثل جيل السوريناميين المسلمين الذين كان عددهم 30 ألفاً في الستينات وتضخم ليصبح ضعف هذا العدد، فضلاً عن 15 ألف مسلم باكستاني الأصل. واكتشف الهولنديون نهاية السبعينات ان الابناء المتحدرين من جنسيات مغربية وتركية وسورينامية وباكستانية توحدوا من خلال الدين وفي اطار لغوي هولندي، وضمن ثقافة رفيعة تعد من أرفع الثقافات المدرسية في أوروبا. هكذا نجد ان كل عناصر ملف الهجرة تغيرت، وتطورت وتحولت من ظاهرة عابرة، مؤقتة، طارئة، الى حقيقة اجتماعية راسخة يتمثلها ما لا يقل عن مليون مواطن ومقيم يعتنق الاسلام من مجموع 16 مليوناً يشكلون سكان البلاد. ومع هذا الاكتشاف نمت ظواهر بنيوية مرافقة، كانشاء مدارس خاصة بالمهاجرين وبلغاتهم، برامج اعلام ومحطات اذاعة وتلفزيون تعتني برفاهيتهم وتتصدى لمشكلاتهم، مؤسسات وزارية على مستوى البلاد تنظم نشاطهم ومرجعياتهم الدينية والخدمية... ومع الوقت أصبح صوتهم مسموعاً ومميزاً ومثيراً للاعجاب أحياناً، والفزع أحياناً أخرى. وبدا أن الاندماج كسياسة رسمية هولندية، يمضي في الطريق الصحيح والهادئ على خلاف "الاندماج" الذي اتبعته دول أوروبية أخرى تواجه تحديات الهجرة نفسها، كألمانيا وفرنسا.