تتطابق سياسة الدنمارك مع سياسات دول الشمال، خصوصاً الشقيقتين الاسكندنافيتين السويد والنروج، ازاء الأجانب الوافدين إليها. فهي من الناحية الرسمية تحظر الهجرة، لكنها من الناحية الاجرائية تتساهل كثيراً مع القادمين إليها كلاجئين سياسيين أو فارين من بؤر التوتر والصراع والأزمات الخطيرة. والدنمارك هي الدولة الأصغر من حيث المساحة في شمال أوروبا، إذ لا تزيد عن 23 ألف كيلومتر مربع، يدخل في نطاقها جزيرة جوتلند وجزيرة غرينلادن وجزر الفارو. ويبلغ عدد سكانها خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، يمتون بصلات عرقية وثقافية عميقة للشعوب الاسكندنافية وينحدرون من أصلاب الفايكنغ القدامى، ويتحدثون لغة شديد الشبه مع اللغتين السويدية والنرويجية. ومن المعروف أن الدول الثلاث إضافة إلى ايسلاندا تشترك في مجلس تعاون اقليمي يعد إطاراً لتنسيق السياسات القومية في مختلف المجالات الداخلية والخارجية. وهذا هو مصدر التطابق في ما يتعلق بقواعد وتشريعات الهجرة واللجوء. فمع أنها جميعاً تحارب الهجرة وترفضها جذرياً، إلا أنها تتسامح إلى حد كبير مع اللاجئين انطلاقاً من الاحترام البالغ الذي يصل درجة التقديس لمضمون ورسالة معاهدة جنيف الدولية الخاصة بحقوق اللاجئين وبقية التشريعات الدولية ذات الصلة بقضايا حقوق الإنسان عموماً وحقوق الإنسان في ظروف الحرب والصراعات خصوصاً. ولذلك فقد كانت معدلات تدفق الأجانب إلى الدنمارك - مثلها مثل الدول الأخرى - محدودة جداً طوال العقود السابقة حين كانت الأوضاع العالمية تمتاز بالاستقرار والثبات، على عكس ما هو الحال في العقد الأخير. وتشير الاحصاءات الحكومية الرسمية إلى ان اجمالي الأجانب في الدنمارك حتى مطلع الثمانينات لم يكن يزيد على بضع عشرات الألوف وأكثريتهم الساحقة من مواطني الدول الاسكندنافية والأوروبية المجاورة، ويليهم اللاجئون الأوروبيون الفارون من الدول الشيوعية، مثل بولندا والمجر ويوغوسلافيا. أما الأجانب، من الدول غير الأوروبية، فأعدادهم نادرة حتى ذلك الوقت. لقد حدثت القفزة الكبرى في معدلات اللجوء أو الهجرة المقنعة على مرحلتين الأولى خلال الثمانينات حيث قفز الرقم الكلي إلى مئة ألف على ايقاع الثورات والحروب والتصدعات السياسية التي بدأت تشتد وتكثر في أرجاء مختلفة من أوروبا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية فضلاً عن افريقيا، إلى جانب ظهور واستفحال الأزمات الاقتصادية الخانقة في الدول الفقيرة والنامية. ولذلك نلاحظ بوضوح ان غالبية المهاجرين أو اللاجئين إلى الدنمارك خلال الثمانينات كانوا من بولونيا ولبنان والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان وتركيا ويوغوسلافيا وسريلانكا بالتحديد. وهي جميعاً شهدت اضطرابات عنيفة من نوع ما. أما العقد الحالي، التسعينات، فقد حدثت فيه قفزة أعلى، ما يشير بوضوح إلى ان القانون الهندسي المتوالي هو الذي بات يحكم تطورات ظاهرة الهجرة واللجوء إلى هذه المنطقة. ففي الأعوام السبعة أو الثمانية الأولى من هذا العقد تضاعف اجمالي الأجانب في الدنمارك مرتين، أي ما يفوق مجموع اللاجئين الذين وفدوا في غضون أربعين سنة مرات عدة. وبنظرة فاحصة نجد ان التدفقات الرئيسية وافدة من مناطق الأزمات السياسية والاقتصادية، كالشرق الأوسط والقرن الافريقي وآسيا الوسطى، والمغرب العربي وأميركا اللاتينية. وتقدر أعداد المهاجرين إلى الدنمارك حالياً بحوالى 280 ألف أجنبي، بينهم حوالى 75 ألف عربي وضعف هذا العدد من المسلمين. ويأتي في مقدم الجنسيات العربية في الدنمارك المهاجرون الفلسطينيون حوالى 30 ألف ثم العراقيون عشرة آلاف والصوماليون عشرة آلاف والمغاربة عشرة آلاف، واللبنانيون 7-8 آلاف والمصريون خمسة آلاف والسوريون 3 آلاف، وهناك حوالى أربعين ألف تركي وخمسة عشر ألف إيراني وحوالى ثلاثين ألف بوسني وألباني وعشرة آلاف باكستاني وبنغالي. وعلى رغم الارتفاع المضطرد بحجم الهجرة الآسيوية والافريقية في الأعوام الأخيرة، فإنه لم يرق إلى مصاف نظيره من الأوروبيين ولا سيما الاسكندنافيين الذين يشكلون الكتلة العظمى ويصل عددهم إلى حوالى 70 ألف من السويد والنروج وايسلندا وفنلندا، وهناك مثل هذا العدد من دول وسط وشرق أوروبا والبلطيق وبقية دول الاتحاد الأوروبي الذي كانت الدنمارك من أوائل المنضمين إليه على صعيد شمال أوروبا. وكذلك الأمر بالنسبة لانضمامها إلى ما يسمى اتحاد غرب أوروبا. وبطبيعة الحال كان لهذه الخطوة اثر كبير على السياسة الخاصة باستقبال اللاجئين في الدنمارك، إذ تعين عليها الالتزام منذ وقت مبكر بقواعد السياسة الأوروبية في هذا المجال، وهي مختلفة إلى حد كبير عن سياسة الدول الاسكندنافية. نتيجة للتضخم المفاجئ في حجم الهجرة، أخذت الحكومة الدنماركية تواجهها بتدابير مختلفة تماماً عما كانت عليه في الماضي. إذ بدأت في تشديد الاجراءات على دخول الأجانب وإقامتهم ووضع شروط اضافية لم تكن معهودة. فاعتباراً من كانون الثاني يناير 1999 سرى مفعول قانون جديد أقره البرلمان في نهاية العام المنصرم، يسمى قانون الاندماج يتضمن تخفيض المساعدات المالية والاجتماعية التي تمنح للمهاجرين وأفراد أسرهم، واعطاء الإدارة حق التدخل في توزيع المهاجرين على المدن بحسب المصلحة العامة وإسكانهم وفق خططها، وإلزام الأجانب كافة بتعلم اللغة الدنماركية. واعتبار ذلك من شروط الحصول على الجنسية، وتفعيل القانون القديم الذي يشترط على كل طالب للجنسية التخلي عن جنسيته السابقة. وهناك أيضاً قانون جديد خاص بسياسة التشجيع على الهجرة المعاكسة، ما زال قيد المناقشة في البرلمان. لقد أحدثت الهجرة الملونة الضخمة صدمة قوية للدنمارك على المستويات السياسية والاجتماعية. فظهرت ردة فعل شعبية تمثلت بتفاقم حجم وتأثير الحركات العنصرية الجديدة والنازية بتأثير من الجار أو الشقيق الألماني في الجنوب، وبشكل موازٍ للشقيق الشمالي السويدي. ووقعت جرائم عدة في الأعوام الخمسة الأخيرة. إلا أن السياسة العامة للدولة ما تزال ملتزمة بمبادئ حقوق المهاجرين في الإقامة والعمل والمساواة أمام القانون والسعي إلى دمجهم واستيعابهم في سوق العمل. وكانت هذه التطورات قد تأثرت في الوقت نفسه بأكبر أزمة اقتصادية عرفتها الدنمارك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ودفعت الرأي العام لإعادة النظر في الكثير من القناعات والخيارات والتوجهات، بما في ذلك العلاقة مع أوروبا والنظرة إلى الآخر، وكذلك النظرة إلى المستقبل. وهناك انقسام واضح بين الناخبين الدنماركيين وعدم اجماع على الظاهرة. وعلى رغم بروز مشاعر الكراهية والعداء للأجانب بوضوح في قطاعات الشعب الدنماركي الدنيا، فإن الأحزاب السياسية الرئيسية الممثلة في البرلمان متفقة على أن المهاجرين الذين دخلوا البلاد أصبحوا جزءاً من سكانها ومن كيانها، بل وعنصراً أساسياً من عناصر هويتها الثقافية. وقد كان لافتاً على سبيل المثال للاهتمام ان كوبنهاغن حين أصبحت "عاصمة أوروبا الثقافية" عام 1997 اعتنت بصورة ظاهرة وبالغة وأكثر من أي عاصمة أوروبية سبقتها، بإبراز تعدديتها الثقافية والدينية والاثنية التي احدثتها الهجرة على تركيبها المجتمعي والحضاري. فكان للثقافة الإسلامية حضور مميز في سائر النشاطات التي اقيمت، وكان كذلك للثقافات الشرقية والافريقية حضور ساطع بالدرجة نفسها. ويشتكي المهاجرون والأجانب المقيمون في الدنمارك، حالهم كحال أمثالهم في الدول الأخرى، من محدودية فرص العمل والامكانات الشحيحة المتاحة لهم لتطوير سوياتهم المهنية والاقتصادية، ومن صعوبة التفاعل مع المجتمع الدنماركي. لكن القانون وسياسة الحكومة لا تدخر جهداً في سبيل تصحيح تلك الاشكاليات النمطية والمتكررة، على رغم معدلات البطالة القياسية التي وصلت في عام 1996 إلى أكثر من 15 في المئة. وكان للمهاجرين نصيب أعلى منها، وتأثير مسبق في مفاقمتها. وابتكرت الحكومة الدنماركية خططاً وأساليب مثيرة للقاء على هذه الظواهر في سوق العمل، كتشجيع العاملين على طلب اجازة لمدة سنة بأجر أقل، للتفرغ لدورات إعادة التأهيل والدراسة، بينما يملأ أماكنهم الشاغرة عمال من جيش البطالة، وذلك بهدف تخفيض أعدادها ومعدلاتها وتوزيعها بشكل شبه عادل على الجميع، ورفع مستويات العمال... والدنمارك، مثل السويد، في انفاقها السخي على دورات التثقيف وإعادة التأهيل المخصصة لتطوير قدرات السكان، ولا سيما ذوي الاصول الأجنبية كي يتمكنوا من ملاحقة التقدم التقني والإداري في قطاعات العمل المستحدثة، خصوصاً قطاع الخدمات وانتشار الوسائط المعلوماتية في بقية القطاعات... الخ.