«الحسكي».. مكونات سياحية بمحمية الإمام تركي بن عبدالله    ازدهار متجدد    5.7% زيادة بالأرباح الموزعة لأرامكو السعودية    مشروع رؤية 2030.. أول الغيث    «مطار القدّيّة»    9146 ريالا زيادة سنوية بنصيب الفرد من الناتج المحلي    مجلس الوزراء يقر إطار ومبادئ الاستثمار الخارجي المباشر    عن العرب الإسرائيليين    سان جرمان وبايرن يسعيان للعودة إلى سكة الانتصارات    التعاون في ضيافة ألتين أسير التركماني    بيولي: النصر يستهدف اللقب الآسيوي    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على العين    الفحوصات الطبية تحدد موقف لودي من لقاء الاتفاق    وزير الحرس الوطني يصل إلى كوريا في زيارة رسمية    الحوادث المرورية.. لحظات بين السلامة والندم    الزائر الأبيض    تبكي الأطلال صارن خارباتي    سلام مزيف    فلسفة الألم (2)    الممارسون الصحيون يعلنون والرقيب لا يردع    د. الذيابي يصدر مرجعًا علميًا لأمراض «الهضمي»    انقطاع نفس النائم يُزيد الخرف    15 شركة وطنية تشارك بمعرض الصين الدولي للاستيراد    الصناعة: فوز11 شركة برخص الكشف بمواقع تعدينية    وقعا مذكرة تفاهم للتعاون في المجال العسكري.. وزير الدفاع ونظيره العراقي يبحثان تعزيز العلاقات الدفاعية وأمن المنطقة    أمير الشرقية يستعرض استراتيجية محمية الملك عبدالعزيز    القيادة تهنئ رئيسة مولدوفا    المنتخب السعودي .. وواقعية رينارد    فالنسيا تعلن فقدان أثر 89 شخصاً بعد الفيضانات في إسبانيا    Apple تدخل سوق النظارات الذكية لمنافسة Meta    محمية الغراميل    اتفاقية بين السعودية وقطر لتجنب الازدواج الضريبي.. مجلس الوزراء: الموافقة على الإطار العام والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    ثري مزيف يغرق خطيبته في الديون    الألم توأم الإبداع (سحَر الهاجري)..مثالاً    مجلس الوزراء يستعرض مسارات التعاون والعمل المشترك مع دول العالم    أول قمر صناعي خشبي ينطلق للفضاء    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    يا كفيف العين    اللغز    خبراء يؤيدون دراسة الطب باللغة العربية    رأس اجتماع مجلس الإدارة.. وزير الإعلام يشيد بإنجازات "هيئة الإذاعة والتلفزيون"    عبدالوهاب المسيري 17    إلزام TikTok بحماية القاصرين    أداة لنقل الملفات بين أندرويد وآيفون    همسات في آذان بعض الأزواج    الاحتلال يواصل قصف المستشفيات شمال قطاع غزة    X تسمح للمحظورين بمشاهدة منشوراتك    معرض سيتي سكيب العالمي ينطلق الاثنين المقبل    تأثيرات ومخاطر التدخين على الرؤية    التعافي من أضرار التدخين يستغرق 20 عاماً    رئيس هيئة الترفيه يدشّن استوديوهات «الحصن بيج تايم» في الرياض    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    أبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بخريطة "إنها طيبة"    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة مضاوي بنت تركي بن سعود الكبير    أمطار غزيرة متوقعة على جنوب المملكة وسحب رعدية في مكة    كلمات تُعيد الروح    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة التعايش الأندلسي بين تبخيس يهودي وتضخيم إسلامي
نشر في الحياة يوم 02 - 04 - 1999

مع أواسط القرن الرابع عشر، اضطهد في اسبانيا الكاثوليكية عدد من اليهود أكبر كثيراً ممن اضطهدوا في انكلترا وفرنسا، فأخضعوا للمذابح الموسمية وللتحويل الاجباري عن الدين، فضلاً عن التعريض لهجمات الرعاع. وانتهى الأمر في آخر المطاف بطردهم في 1492 الذي تزامن مع اكتمال هزيمة المسلمين في شبه الجزيرة الايبيرية، فهرب معظم المهاجرين واللاجئين إلى تركيا وأراضٍ مسلمة أخرى.
لكن هذه المعاناة المشتركة سبقها قدر من الاطمئنان والرفاه النسبيين عرفه الطرفان المسلم واليهودي. ففي اسبانيا المسلمة بدأ العصر اليهودي الذهبي شعراً عبرياً وقواعد وفلسفة. ذلك أنه مع سقوط الخلافة الأموية فيها بعد موت المنصور في 1002 ونشوء دول الطوائف الكثيرة، انطلقت تجربة لم تتدهور إلا بقيام حكم المرابطين 1086-1090 ومن ثم الموحدين بعد 1147.
والواقع ان العيش المشترك خضع لاحقاً لتضخيم إسلامي وتبخيس يهودي. فالكتّاب المسلمون الأكثر اعتداداً وصفوه كأنه واقعة التسامح التي لا سابق لها ولا تالي عليها. أما الغلاة من اليهود فاعتبروا الأمر كله أكذوبة ملفقة في تاريخٍ لم ينقطع من العداء لليهود، تاريخٍ شاركت فيه الشعوب والأديان جميعاً كل بقسطه. وكان المؤرخ اليهودي بنزيون نتانياهو بين مروّجي هذه الخرافة التي ترددت أصداؤها في الكتابات القليلة والتي لا تحمل كبير معنى لنجله بنيامين، رئيس حكومة اسرائيل الحالي.
والراهن أن الطوائف اليهودية في الأندلس كانت عنصراً مهماً لمجتمعها بقدر ما كانت عنصراً مهماً في الزمن السابق على الفتح الإسلامي، إلا أن الاضطهاد الذي لقيته آنذاك جعلها، منذ البداية، تتواطأ مع الفاتحين العرب حتى ليرى أحد دارسي تلك الحقبة، ريتشارد فلتشر، ان "الدور الذي لعبته قيادات الطائفة اليهودية في التمهيد للفتح المغربي لا يمكن معرفته بالضبط، لكنهم ربما لعبوا دوراً في التفاوض حول المعاهدات المحلية". وبنبرة أشد حماسة ووضوحاً يضيف دارس عربي لتاريخ الأندلس، هو محمد عبدالله عنّان، ان اليهود كانوا "يعاونون المسلمين في كل هذه الفتوح، وهم ساعدوا الفاتحين المسلمين وقت الفتح وتعاونوا معهم في حفظ المدن المفتوحة وإدارتها".
ولئن وُجدت لاحقاً جبهات داخلية بين المسلمين والمسيحيين في اطراف الأندلس، مثلما وجدت جبهة خارجية فصلت ممالك الطوائف عن الأمراء المسيحيين في شمال اسبانيا، فما من جبهة كهذه ظهرت بين المسلمين واليهود. أما الطوائف اليهودية الكبيرة التي عاشت في المدن، فتمتّعت بحرية عبّر عنها وجود ما لا يقل عن اثني عشر كنيساً في طليطلة توليدو. وتقترح الوثائق المسجلة الحية، بحسب فلتشر، "وجود طائفة بورجوازية مزدهرة. فرجال الأعمال اليهود في اسبانيا تاجروا مع أبناء دينهم ومع آخرين، في المغرب وتونس ومصر وصقلية والبروفانس".
ولا يفوت عنان أن يلاحظ، بدوره، كيف أن الرعاية الإسلامية اتسعت لنشاط يهودي شمل، بين ما شمله، الدين نفسه من غير أن يطرح الأمرُ أيةَ مشكلة على الإسلام المعتقدي. ف "في ظل هذه الرعاية وفد كثير من العلماء والأدباء اليهود إلى قرطبة، أيام الناصر وولده الحكم، وقامت في ظل نشاطهم مدرسة قرطبة التلمودية، ومؤسسها الرابي موسى بن حنوش، وازدهرت في ظلها البحوث التلمودية، وغدت مركز الرياسة والتوجيه لهذه البحوث. واستمرت الخلافة الأموية، ومن بعدها حكومات الطوائف، على رعاية الأقلية اليهودية وتشجيعها. وكان يهود قرطبة يلبسون الزي العربي، ويتخلّفون بالعادات والتقاليد العربية، ويمتازون بثرائهم ومظاهرهم الفخمة".
وفعلاً لعب أفراد يهود كحسداي ابن شبروت، أحد وجوه طائفته، دوراً بارزاً في القرن العاشر كمستشار ووزير مال للخليفة عبدالرحمن الثالث، وكمفاوض عن العرب مع الأوروبيين. وفضلاً عن كونه من سكولائيي الأندلس والطبيب الشخصي لعبدالرحمن، عُرف هذا الرجل المميز برعاية الشعراء اليهود الأندلسيين، "فكان شهادة مميزة للطابع الكوزموبوليتي لبلاط الأندلس ... وللذرى التي كان يمكن لليهود ان يبلغوها في خدمة ذلك البلاط"، بحسب فلتشر.
واستطاعت إحدى الطوائف اليهودية الاسبانية أن تستقطب للعمل لديها معلماً من شرقي فرنسا ربما كان تلميذاً للاستاذ الكبير راشي أوف ترويس ]أو: دو تروي[ 1040-1105. كذلك درج الطلاب اليهود من اسبانيا على أن يقصدوا ماينز ليدرسوا على السكولائي الشهير غيرشوم. وفعلاً تقدم التعليم اليهودي داخل اسبانيا، مثله مثل الإسلامي، وكان من ذلك بروز سليمان ابن غابيرول كأحد أساتذة المرحلة. ففي سياق حياته القصيرة، هو الذي توفي في أوائل ثلاثيناته حوالي 1055، درس الفيلسوفَ ابن مسرّة، وألف عملاً فلسفياً اسمه "ينبوع الحياة" أثّر لاحقاً، وعبر ترجمته إلى اللاتينية، في أوروبا الغربية كلها. كذلك ترك شعراً زمنياً ودينياً رأى شارحوه والمعلقون عليه أنه بالغ الخصوصية والتميّز، فيما ظهرت في أشعاره العبرية آثار الشعر العربي.
وكان المعلم الأول لابن غابيرول، ياقوتيال ابن حسان، وهو يهودي تولى منصباً رفيعاً في بلاط سرقسطة حتى إعدامه بعد مؤامرة بلاط في 1039. وعلى أثر ذلك وجد معلماً له في شخص إسماعيل صموئيل ابن نغراله. وابن نغراله هذا كان رمزاً ليهود بارزين ونافذين في القرن الحادي عشر عرفتهم مدن الطوائف الاسبانية. فهو المولود في قرطبة، غادر مدينته في 1013 فاراً من متعصبي البربر وشاقاً طريقه إلى غرناطة حيث دخل في خدمة حكامٍ بربر بدورهم، لا سيما منهم الأمير حبوس بن ماكسن. وهناك ترقّى صموئيل بسرعة إلى مناصب عليا في السلطة.
وبوصول "مرشحه" باديس ابن حبوس إلى العرش في 1038، صار الوزير الأول الفعلي لإمارة غرناطة، بل أول رئيس لوزرائها باسم إسماعيل الرئيس أو شموئيل هنيقاد. واستمر يزاول عمله حتى وفاته في 1056، فبرهن في أدائه وفي جوانب حياته الأخرى، عن تعدد مدهش. ففضلاً عن قيادته القوات في الجبهة، وإدارته الدولة في غرناطة، كان أيضاً سكولائياً وحاخاماً موقراً لورعه وشاعراً موهوباً، بل أحد أعظم شعراء العبرية في كل العصور. وعندما كتب عبدالله، حفيد باديس، يومياته أتى على ذكره باحترام كبير، حتى إذا رحل نجح نجله يوسف في وراثته وزيراً أولاً لباديس.
وهنا، مع صعود يوسف، اضطربت الأحوال ولاح للتعايش في الأندلس وجه قبيح. فمثل "الرجال الفقراء" بين مسيحيي أوروبا، ظهر مسلمون عاميّون ومهتاجون قادهم فقيه غرناطة المتعصب أبو اسحق الألبيري. وكما في كل حركة من هذا الصنف يفضي الاحباط والمرارة إلى البحث المتوتر عن أكباش المحارق.
وفعلاً ففي 1066 عبّأ أبو اسحق الرأي المسلم ضدهم وضد يوسف بالتحديد. فاليهود، عنده، هم الذين يحكمون المسلمين بالضد من تعاليم الإسلام التي تُنكر على أهل الذمة مثل هذا الامتياز. وفعلاً نشر الفقيه المذكور آراءه عبر قصائد لاسامية مبكرة حرص على توجيهها إلى باديس، محرضاً سكان غرناطة كي "ينقلبوا على اليهود".
وفي إحدى قصائده التحريضية التي نشرها عنان كاملة في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس - العصر الثاني"، 1988 ص 135-136، ورد التالي:
"وقد أنزل الله في وحيه/ يحذّر من صحبة الفاسقين
فقد ضجّت الأرض من فسقهم/ وكادت تميد بنا أجمعين
ولا تحسبنْ قتلهم غدرةً/ بل الغدر في تركهم يعبثون"
وأصاب أبو اسحق هدفه فارتُكب بوغروم ليهود غرناطة لطّخ تسامح الأندلس، فلم ينافسه في هذا إلا ترحيل المرابطين اللاحق للمسيحيين إلى المغرب. وبحسب تأريخ عنان، فإن ما حصل في غرناطة حيث تولت الحشود الهائجة صلب يوسف، أن الناس تخاطفوا "السلاح وهجموا على بيوت اليهود في كل مكان، وأمعنوا فيهم تقتيلاً وتعذيباً، ونهبوا دار يوسف ابن نغراله وكانت غاصّة بالنفائس والذخائر، ووُجد له فيما وُجد خزانة جليلة من كتب العلوم الإسلامية، ونهبوا سائر دور اليهود وحوانيتهم، وطاردوهم وفتكوا بهم في كل مكان، واستولوا من أموالهم على مقادير هائلة. وهلك من اليهود أكثر من ثلاثة آلاف أو أكثر من أربعة آلاف على قول آخر".
مع هذا تبقى اللطخة محدودة حين تقاس بمجمل القرن الحادي عشر الذي كان زمناً للسلم والازدهار بالنسبة إلى اليهود الاسبان، كما كان زمناً خصباً للحيوية الثقافية. وفي الاحوال كافة فانها دائماً تبقى محدودة بالقياس إلى التجربة المسيحية الأوروبية مع اليهود.
بيد أن هذا كله لا يكتم وجهاً سوسيولوجياً صريحاً. فدول الطوائف إنما تأثرت بإسلام متوسطي، متأثر بدوره بالحضارات والبيئات القديمة في المنطقة. لكن ما هددها بالعنف شرع يتجسد في تعصب ما لبث أن حمل المرابطون لواءه. فمع نموهم، بدأ هؤلاء الأخيرون يتوسعون بسرعة وقوة في أواسط القرن الحادي عشر، يتزعمهم ابن ياسين ويحرّكهم تزمّت أصحاب الدعوات الأولى.
لقد كانوا "خارجيين، أناساً من الريف، رجال قبائل غير متحذلقين، وكانوا مُفقرين مادياً وثقافياً". أما قائدهم العسكري يوسف بن تاشفين فانعكست فيه صفاتهم إلى حدها الأبعد: "لبس الجلد المسلوخ الذي فاحت منه رائحة الجِمال، ولم يكن يتكلم إلا العربية، وبصعوبة. كان من الصعب أن نتخيل وجوده في الأمسيات الأنيقة لبلاط العبابيد في اشبيلية. والحق - وهذا حاسم - أنه ما كان له أبداً أن يتصور وجود مثل هذه الجَمْعات التي لا إله لها. لقد كانت قيادة المرابطين بيوريتانية، متزهدة ومتأججة حماسة. ورأى المرابطون إلى دورهم بوصفه تطهير العبادة الدينية عن طريق فرض أكثر قوانين الإسلام السياسي صرامةً إن لزم الأمر"، على ما وصف فلتشر.
وقد اكتسب المرابطون، ومن بعدهم الموحدون، قوتهم من استعانة الإمارات بهم لردّ المسيحيين الاسبان ابان المرحلة الحاسمة من حرب الاستعادة Reconquista بين 1045 و1250. ولما كانوا من البربر الوافدين حديثاً إلى الإسلام، ردّ ليون بولياكوف سلوكهم وحماستهم المتقدة إلى جدة تحولهم تاريخ اللاسامية، ج2.
لكن هؤلاء الاصوليين المبكرين مارسوا حكمهم بما يناقض روح دول الطوائف وحكامها مناقضة تامة. فإذا درج أمراء الطوائف الضعفاء على دفع "جزية" لبعض حكام أوروبيين مجاورين وأقوياء، تمسك المرابطون بمعتقد أن المسلمين مَن يقبض الجزية لا من يدفعها. وفيما اهتم أمراء الطوائف برعاية العلوم، خصوصاً الفلك، استثمر المتعصبون ومن على شاكلة ابي اسحق عواطف المؤمنين الذين اعتبروا أن الدين مدار العلم الوحيد، فكيف وان الفلكي الرسمي لقرطبة كان حاخاماً. واستناداً إلى حديث نبوي كفّر الفقهاء علم الفلك وكل من يتعاطاه، مسلماً كان أم غير مسلم. وأخيراً كانت إمارات الطوائف المتسامحة حيال اليهود نموذجاً مضاداً للذي قدمه المرابطون والجمهور الذي حرّكه أبو اسحق.
وهذه، بدورها، كانت غيمة كبيرة في صيف التعايش المهدد دوماً بالخريف. ففي أندلس عبدالرحمن الثالث بزغ المجتمع التعددي الثقافة الذي رأينا امتداده اللاحق في بلاطات أوروبية كبلاط جيمس الأول الأراغوني. وإذا صحّ أن أوروبا عرفت، هي الأخرى، حالات مبكرة ازدهر فيها التسامح، فالصحيح أيضاً أنها بقيت فترات مبعثرة ووجيزة. فالمسلم والمسيحي واليهودي عاشوا معاً في صقلية، وفي بعض إمارات أقامها الصليبيون في سورية وفلسطين. غير أنه لم يبق من الدول والدويلات الصليبية إلا ظلال ما كانته ذات مرة. وكانت عكا آخر حبّات العنقود غير أنها جفّت في سياق الحروب والمعارك الصليبية - الاسلامية الطاحنة. ومن جهتها لم تدم الحال الصقلية طويلاً، إذ رُحّل المسلمون على يد فردريك الثاني في ثلاثينات القرن الثالث عشر.
والشيء الآخر في رصيد الأندلس أن التيار العريض للحياة الأوروبية عهدذاك كان يرفض كل تسامح مع "الانحراف عن الصراط المستقيم"، أجاء من فرق "الهراطقة" المسيحيين أم من اليهود. وبقدر ما تسامحت تجربة المسلمين مع الآخرين، فإنها اغتنت بهم وبمساهماتهم التي بدت مساهمة واحدة لأندلس واحدة. وواحداً أيضاً كان الفصل الختامي والمأسوي: فبعد اسابيع قليلة على سقوط غرناطة، أمرت السلطة الكاثوليكية بطرد اليهود من اسبانيا. وتحولت محاكم التفتيش جهازاً مخيفاً في دلالته على قوة السلطة الناشئة ووحشيتها. فقد تعرض سكان ملقة المسلمون للغزو وتم استعبادهم وبيعهم، أما اليهود فطُردوا بينما استُخدم مفهوم "نقاء الدم" للتخلص من الآلاف أو إذلالهم.
وكان للحظة اللقاء بين الحروب الصليبية والصراع على اسبانيا أن أثمرت وليداً ملتبساً، ككل أبناء الحروب. وفي إحدى الفترات التي غدا فيها وضع اليهود صعب الاحتمال اندفعت اشبيلية، هي الأخرى، في شغب لاسامي تولى الشاعر ابن زيدون اطفاءه. كذلك أصدر الخليفة عبد المؤمن في أواخر عهده قراراً بنفي اليهود والنصارى من الأندلس إلا مَن اعتنق منهم الإسلام. وهرباً من الجو هذا، المتزمّت والعديم التسامح، غادر قرطبة في 1150 رجلٌ أجبرت عائلته على التحول إلى الإسلام، ومعه ابنه المراهق. أما الاب فتوجه إلى افريقيا ومنها إلى فلسطين.
واما الابن، وهو موسى بن ميمون، أو ميمونيدس، فحط به المطاف في مصر. ومع مرض صلاح الدين في قاهرة أواخر القرن، كان ان ميمون، اليهودي الأندلسي، طبيبه الخاص ومُقرّبه. ونشأت في لحظات عدم التسامح، هجرة غير مألوفة من ديار المسلمين إلى ديار المسيحيين في الشمال، فكان جوداه هاليفي "أمير الشعراء اليهود" بين من هاجروا.
لكن ليون بولياكوف هو من يخبرنا أنه كلما كانت الأمور تستتب، وكلما كان التوتر الحدودي مع الكاثوليك يهدأ، كانت مراجع النصاب الاجتماعي القديم تناشد اليهود أن يعودوا.
وفي طور التفسخ الأخير لدولة الموحدين، عرفت سماء العلاقة الإسلامية - اليهودية إحدى أكبر غيومها، فأصدر المنصور قراره الذي "قضى بتمييز اليهود في أوائل 595ه. وقد نظم ابن نغرالة، زعيم اليهود المغاربة يومئذ، وهو في ما يبدو سليل أسرة بني نغرالة ... ارجوزة يتهكم فيها على هذا القرار وما فرضه من اللباس الأزرق ... ولما تولى الخلافة أبو عبدالله محمد الناصر لدين الله، ولد المنصور، استغاث به اليهود ... فأمر ان يستبدلوه بثياب صفر وعمائم صفر، واستمروا على ذلك بقية عهد الموحدين"، على ما روى عنان.
والمعروف أن البلاط الموحدي في ظل المنصور هو الذي قضى بنفي ابن رشد، فنُفي إلى بلدة اللسّانة، قرب قرطبة، والتي هي منذ عصور "منزل اليهود في تلك المنطقة من الأندلس"، فقيل في اختيارها منفى له "إنه يُنسب في بني إسرائيل، لأنه لا يُعرف له نسب في قبائل الأندلس".
وكان ابن ميمون 1135-1204، وبين أمور أخرى، صاحب "كتاب الوصايا". وأفكاره باتت العمود الفقري ل "الحلقة" Halakha أي النظام القانوني والفقهي اليهودي كما مورس منذ القرن التاسع وحتى نهاية الثامن عشر، وكما تحافظ عليه اليهودية الارثوذكسية اليوم. ولا تزال المجموعة التي وضعها الطبيب والفقيه الأندلسي، والمعروفة ب "مِشنه توراة"، من أهم مجموعات القانون التلمودي القديم. لكن أفكاره التي عاشت طويلاً عاشت أيضاً كموضوع مهاترة لا تنقطع بين اليهود وبين دولة إسرائيل اللاحقة. فالمتنوّر اليهودي وجد في كتابات ابن ميمون الكثيرة حججاً له، وكذلك فعل المتزمّت الضيق الافق. إلا أن المتفق عليه أنه كان إلى التزمّت أقرب في ما خص موقفه من غير اليهود، وهو ما يردّه المستنيرون إلى تأثيرات زمنه، خصوصاً منها أعمال المرابطين والموحدين.
ولوحظ، مع هذا، ان ابن ميمون في أكثر مواقفه تشدداً، لم يساو بين المسيحيين والمسلمين. فالأخيرون، بحسب ما رأى يهوشفاط هركابي، عدّ انظمتهم بالغة السوء والقهر لليهود، لكنه أخرجهم بصراحة من خانة الوثنية، فيما، بالصراحة نفسها، أدرج المسيحيين فيها. وقد تأثر رأيه السلبي بالنصارى، تبعاً لهركابي، ب "نظرته إلى الثالوث كشيء لا يتوافق مع التوحيد الصارم، وربما أيضاً بالظروف التاريخية لعصره. فقد عاش في بلدان إسلامية وكان من الواضح ضعف اتصاله المباشر بالمسيحيين، كما استشهد في أعماله بنصوص إسلامية عاملها بكبير احترام. وإلى ذلك لم يكن ابن ميمون غريباً عن الحملات الصليبية التي عرف ثلاثاً منها في حياته، وعن الرعب الذي حملته لليهود. وربما صدر ازدراؤه المسيحيين عن تأثر بوسطه المسلم، لا سيما بعد خسارة القدس لصلاح الدين ابان حياته".
على أية حال اعطى المطرودون من اسبانيا أولويتهم للنجاة، لا للمماحكة في آراء ابن ميمون، ووجهة النجاة كانت تركيا المسلمة.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.