تفرض العولمة، كما أصبح معلوماً، تحرير الأسواق المالية، وادماجها في سوق واحدة. بل أن هذا الأمر، أممية رأس المال، هو أساس العولمة. ويتخيل المرء أن أصحاب المشاريع الاستثمارية ومندوبيهم يحتاج الواحد منهم الى عدة ثوانٍ كل صباح ليعرف في أي قارة قضى ليلته، ويفكر بعض الوقت في المفتاح المناسب لإجراء مكالمة عبر هاتفه الجوال معه، بعدما أصبحت لائحة المدن التي يمكن أن يقضي فيها بضعة أيام وليالٍ طويلة: لندن، كوالالمبور، بانكوك، ديترويت، بومباي، شانغاي، هونغ كونغ، نيويورك، إلخ. وكما يقول أحد الاقتصاديين فإن الوضع الحالي يتصف بانصهار عدد هائل من "الاقتصادات القروية والإقليمية والوطنية في اقتصاد عالمي شمولي واحد لا مكان فيه للخاملين" بيتر مارتين وشومان. وفي مثل هذه الحالة تختفي مصطلحات كانت عزيزة على اقتصاديي ونقديي المرحلة السابقة مثل "الجنوب والشمال"، "العالم الأول" و"العالم الثالث"، و"التبعية" وغيرها. ويقترن فتح أسواق المال على بعضها بفتح أسواق العمالة. فالطلب يكون دولياً والعرض يكون دولياً، والقيمة ليست للجنسية، القيمة للكفاءة الأعلى والأجر الأدنى. تبحث الرساميل عن قوى عاملة أرخص، والقوى البشرية تتدفق عبر البلدان، ولا سيما نحو المواقع الرئيسية للشركات والمؤسسات الدولية الطابع. إن تصميم موديل جديد لسيارة لا يتم في مكان واحد، ثمة مهندس رئيسي لشركة فورد في ديربورن وآخرون في أوروبا واليابان. يصمّم الأول ويعلق الثاني، ويعدل الثالث، وتخرج السيارة المعدلة، التي تفقد تدريجياً شكلها القومي وتصبح بنت العالم محدودبة مثلاً أو كاملة الأتمته، أو متوسطة الحجم، ولا يبقى من طابع خاص لها إلا بعض تقاليد الشركة الباقية على قيد الحياة. والمهم أن سوق العمل يدعى منذ الآن تسوّق الأدمغة Brain Shopping، وتصبح نظرية اقتصادية لواحد من أباء الاقتصاد الحديث، مثل ريكاردو، هباء منثورا، لأن الفرقات النسبية في الكلفة لم يعد لها وجود، بل العبرة للتنافس المطلق في جميع الأسواق والبلدان في آن واحد. لم يكن لهذا الانقلاب أن يحدث لولا الثورة التكنولوجية، وبالتحديد مع التطور الهائل في شبكات الربط الألكترونية. ومن خلال هذه الشبكات يصبح المستثمرون وشركات التأمين والعاملون في البورصة وغيرهم على بيّنة بما يحدث في كل مكان في المعمورة في اللحظة نفسها، بما في ذلك اتجاهات المصارف الوطنية حول أسعار العولمة والفائدة والتحويلات والسندات. ورغم القدرات غير المحدودة التي أصبحت لأجهزة الحاسوب، والتكيف اللامتناهي لبرامجها مع حاجات المستخدم، فإن الميزة ليست فقط في كم المعلومات التي تختزنه بل في برامج المعالجة والتوقعات والاتصال واتخاذ القرارات التي توفره، وللبرامج الجاهزة التي تزيد من الاستغناء عن الاختصاصيين في الحاسوب السيد يسين. الشعور بالانتماء الى مساحة عالمية تصنعه، بصورة موازية ولصيقة، وسائل الاتصال، إعلاماً وإعلاناً. فالأخبار تنقل ساعة الحدث الى كل الأرجاء، والكوكا كولا هي شراب الجميع، وكذلك الجينز. ومع أن ستالين كان نجماً، وكذلك خروشوف أو كنيدي، فأنه كان بالنسبة للمشاهد مصنفاً في مكان ونزعة، بينما سندي كروفرد هي نجم للجميع، وهي يمكن أن تكون في أي مكان، مثلها مثل مكدونالد وأفلام والت ديزني. فهؤلاء من مكونات الثقافة العالمية اليوم. ولم يحدث في التاريخ أن سمع هذا العدد الهائل من سكان الأرض ورأوا نجوماً ونماذج وأحداثاً كما الحال اليوم. ولأول مرة في التاريخ تصير المساحة العالمية بكليتها هي حقل خيال الأفراد وتفكيرهم، بفضل وسائل الإعلام والإعلان. ثمة عناصر أخرى في هذا النظام الجديد، لكن ما يهمنا أمران لهما مغازيهما في موضوعنا التعليم العالي في الدول العربية: الدولة والمعرفة. ان كسر الحدود بين البلدان يفضي الى اضعاف الدولة، والى تغليب الحسابات والمقاييس العالمية على الحسابات والمقاييس المحلية، في الحقول التي تقوم عليها العولمة. كان تداول العملات الأجنبية مثلاً يخضع في غالبية البلدان للرقابة الحكومية، وكانت للدول سياسات تتضمن الحماية والخيارات الفضلى، لكن الأسواق المالية أقوى من المصارف المركزية، والمنظمات الدولية المانحة للقروض تضع شروطاً على الدول، من بينها إطلاق سعر الصرف والخصخصة وتخفيض الإنفاق على التقديمات الاجتماعية وعلى الحماية وتخفيض الضرائب. كما لو أن "الرقابة" اليوم هي رقابة السوق العالمية على الدول ورجال السياسة فيها ومصارفها وأسواقها. وبكلام آخر فإن المقاييس العالمية، في سوق المال أو في السياسة أو في سوق العمل، أصبحت ذات أولوية على المقاييس المحلية، إذا ما أرادت هذه الدول المحافظة على رؤوسها. وفي بلد مثل السويد طالما اشتهر بتأمين العدالة داخل النظام الرأسمالي عرف موجة هجرة للمؤسسات والأموال للإنضمام الى السوق العالمية الحرة، مما خفض العائدات الحكومية التي تغذي التقديمات الاجتماعية، ولم يكن أمام الدولة إلا تخفيض الضرائب لوقف هذا النزف، وفي الحالين تراجعت مداخيل الدولة، وأدى ذلك الى عجز في الموازنة الحكومية، مما دفعها الى التخلي عن عدد من البرامج الاجتماعية، وعلى هذا الخط تسير دول أوروبا ذات الإرث الاشتراكي المانياوفرنسا. وتجري الأمور وكأن على الدول أن تفكك نفسها وأن تقنع الناس بتفاهتها وكل هذا يعبر عن ما يسمى بالدولة الخفيفة Soft State السيد يسين. ثم ان الصورة العامة للعالم اليوم لها انعكاسات على بنية المعارف. فالجغرافيا مثلاً التي قيل فيها يوماً علم الحروب، باعتبارها لصيقة في نشوئها وتطورها بالمرحلة الإستعمارية، تنزع نحو الأفول. ومع تقلص قيمة المكان في المعرفة، ينكفىء التاريخ، علم الزمان. فدول أوروبا التي أنتجتها النزعات القومية تأسيساً على تاريخ قديم لهوياتها تضرب صفحاً عن هذا التاريخ وهي تلتف حول الأورو عملة القارة المتجاوزة للذوات القومية. وهي تنسج في ذلك على منوال أميركا التي تفتقد الى التاريخ. وبينما تقوم غطرسة اسرائيل على طمس التاريخ، فإن نمور آسيا تكونت في ظل تجاوز الحاضر والانخراط في سباق الزمن، ولتصبح جزءاً من مكان شامل تاريخه في مستقبله. وفي حقل المال سادت أخيراً المعاملات الآجلة المبنية على التوقعات، وغدت التوقعات الجماعية للمتعاملين بذاتها قوة مادية فعالة، بعد أن اتجه أصحاب الرساميل الصغيرة الى وضعها في عهدة مؤسسات يقوم عملها على الاستثمار هنا، وهناك استناداً الى توقعاتها حول سعر الصرف أو سعر السهم أو سعر الفائدة وما اليها. صحيح أن هذه التوقعات تبنى على معرفة جيدة بتقاليد كل مؤسسة أو شركة واتجاهات تصرفاتها، إلا أن دراسة تاريخ هذه المؤسسات ولا سيما المصارف المركزية والسياسات الحكومية، هي أقرب الى التشخيص والتاريخ "النفسي" للمؤسسة منه الى التاريخ بالمعنى المتعارف عليه. وصارت المستقبليات ذات حيّز مرموق في الدراسات الحديثة ملتهمة مساحات معرفية شاسعة وذلك على حساب أهل التاريخ. والفلسفة أيضاً أصبح وجودها موضوع سؤال. فقد أجهز عليها أولادها، العلوم الإنسانية، مرة، ثم سقط مولودها البكر، الأيديولوجيا، في حرب الخمسين سنة بين المعسكرين. أما سائر المعارف فقد اتخذت لها أماً بالتبني: التكنولوجيا، أو المعرفة التي تحول نتائج العلوم الأساسية الى أدوات وخدمات وسلع، كوسيط بين المعرفة ورأس المال. وهذا مدعاة لثلاثة معاني: إطلاق العقال للعلوم لكي تتناسل خارقة أي سقف للقيم. والاستنساخ باكورة هذه النزعة التي ستترك فراغات شاسعة في بطاقات الهوية، اللهم إلا من الأرقام التسلسلية. وإطلاق العقال للتداخل ما بين العلوم والمعارف تبعاً لمشيئة المهندس العام الحريص على زيادة الإنتاجية والعارف بأمور سائر المدخلات المعرفية وبالمحيط التكنولوجي لتفاعلها والخروج من ذلك بشيء يخفف عن البشر ويقصيهم عن العمل في الوقت نفسه تباعاً. وإطلاق العقال لرفع سقف المهارات المطلوبة نحو إدارة الأنظمة المعتمدة والمتصلة ورمي أصحاب المهارات المتوسطة والمتدنية جانباً. هذه التطورات سوف يكون لها ما تقوله حول التعليم بما هو إعداد للقوى البشرية العاملة. فالحاجة الى خريجي التعليم العام المهني سوف تتراجع بقوة. والكثير من حملة شهادة البكالوريا من خريجي المدارس المهنية سيفقدون عملهم ولن تكون هناك حاجة إلا الى عدد قليل منهم. حتى في عالم الحاسوب فإن التدفق الشديد نحو اختصاصاته، سوف يصطدم بجدار الأجيال الجديدة من الحواسيب والبرامج التي يؤدي فيها شخص واحد ما كان يؤديه مائة شخص. والحال يعم المصارف وشركات الاتصالات وشركات الطيران وشركات التأمين. هناك فرص عمل بالملايين سوف تفقد وهناك ملايين الأشخاص الذين سيركضون باتجاه اختصاصات معينة، فإذا بها موصدة عندما يتخرجون ويصلون اليها. ومن جملة درجات السلم التعليمي تشتد، في هذا السيناريو، الضغوط على التعليم العالي حيث ينتظر أن تسود المقاييس العالمية: 1 - اعداد شديد العمومية وشديد الخصوصية في آن. شديد العمومية على مستوى الدراسات الجامعية الأولى لضمان القدرة على العمل في مختلف الوضعيات وعلى التكيف مع التغيرات المعرفية والتقنية المتسارعة، وأبرز عناصر هذه القدرة العامة الحاسوب واللغات والرياضيات. وشديد الخصوصية، على مستوى الدراسات العليا، لضمان التمرن على البحث في جزئية معينة من جزئيات الحقل المعرفي، أو من جزئيات الأنظمة المعتمدة. 2 - إعداد يتصف بالثبات والتحرك في الوقت نفسه. الثبات لضمان تناقل الأساسيات في الجيل المعرفي المعتمد، والتحرك للتحول نحو الجيل الجديد في المعرفة. إذ ذاك يصبح منهج التعليم العالي أشبه بآلة يعاد تركيبها وإقامة الزوائد فيها بصورة دورية. 3 - أقول كلمة منهج، فالمعنى الذي سيسود هو نظام الإعداد أو برامج الإعداد. هذه البرامج تحوسب المقررات، وتشتمل على بنوك للمعلومات وللامتحانات وعلى برامج تفاعلية مع الأساتذة في الجامعة، ومع المؤلفين، ومع الباحثين ومع الشركات وصناع القرار وأصحاب المهن، وعلى حوارات وهمية مع العلماء والأنبياء ورجال الدين والمفكرين، الأموات منهم والأحياء، وعلى أسواق عكاظ، وغيرها. بحيث تصبح مهمة جيل الأساتذة الجامعيين القادم هي بالدرجة الأولى تحضير هذه الخدمات للطلاب. 4 - وجود مكون ثقافي عالمي اللغة الإنكليزية ومكون ثقافي هامشي يتم التعرف فيه على الثقافات الأخرى واللغات الأخرى، من أجل العمل في أمكنة متعددة. 5 - زيادة الجرعات الإدارية والتكنولوجية في الإعداد. 6 - رفع سقف الشروط الجامعية نحو سنوات دراسية أكثر ونحو ثنائية أو تعددية الاختصاص، بحيث تكون المهنة الأكثر رفعة هي مهنة المهندس العام. إن استقطاب الإعداد الجامعي في الوجهة المشار اليها أعلاه لا يعني إلغاء اشكال الإعداد الجامعي الأخرى، القائمة حالياً، بصورة آلية، بل يعني إعادة ترتيب النظام العام الاقتصادي والمهني والتعليمي في سلم مختلف من الأولويات بما في ذلك من تراتبية وعلاقات قوى، أو أن الإعداد الحالي الذي يستمر في المستقبل سوف يغذي أشكال العمل الهابطة في أهميتها في السوق العالمي. ويؤدي بالتالي الى توقعات أجور أقل، وتوقعات بطالة أكبر. لكن المفعول الأكثر أهمية للاستقطاب المتوقع يكمن في مقاومته. مقاومة التغيير أ - التعصب والجنون: تساهم العولمة في ضعف الدول، والطبقة الوسطى هي أولى ضحايا هذه النتيجة. ومع تراجع الرخاء الاجتماعي يزيد اعتقاد أبناء هذه الطبقة بأن مشكلتهم تكمن في الغرباء، أي اليد العاملة المجذوبة نحو مراكز استقطاب العمالة، وينشأ عن هذا ميول عنصرية وانعزالية، ويحظى رافعو شعارات العداء للغريب بتأييد متزايد، كما يحصل في فرنسا والنمسا. وبالمثل يصبح الغرب، في هوياته العامة أو المفردة القومية، شراً مطلقاً لدى شرائح واسعة من السكان الناقمين على الأوضاع التي آلوا اليها مع النظام الجديد. وتنفخ في هذه العنصرية القومية قوى محلية ذات أهواء استبدادية. وتشهد دول "المركز" سابقاً نزعات جنونية تجسدها مجموعات من البشر يقذفهم النظام الجديد نحو الهامشية. تقوم بتوليد أديان وأوهام حول الحياة والموت، وتحل مشكلتها بخرافات عن المستقبل وبالخلاص نحو عالم أفضل عن طريق الانتحار الجماعي. ب - رجل الدين: وفي المساحات الأوسع من الكرة الأرضية تختط بعض التجمعات البشرية خطاً جماهيرياً مناقضاً تماماً للعولمة. أول مكونات إيديولوجيا هذه الجماعات هي الماضي. الإرتداد للماضي هو الحل: يجب أن نحكم ونشرع ونتصرف على ما تصرف به أولياء ديننا قبل ألف سنة ونيف، وطبعاً بصورة انتقائية. إذ بينما قامت الحضارة الإسلامية على مفهوم جغرافي واسع النطاق، شبيه بالعولمة، وبالقدرة على احتضان الثقافات والجدال والنقد والتيارات الفكرية، فإن القيم المثلى المنتقاة هي تلك التي عرفتها قبائل العرب في احدى مراحلها المبكرة، ممزوجة بما شهدته المجتمعات الإسلامية في عصر الانحطاط: الغرب شر مطلق، المدرسة لتعليم الدين فقط، المرأة لا تتعلم ولا تخرج، القانون هو شأن الحاكم ومستنابيه، واللهو حرام، والعقل في السجن، والقطيع هو النموذج. ومن مكونات هذه الإيديولوجيا الموت. نكثر من الأولاد ونرسلهم عراة الى الموت ليلاقوا وجه ربهم. وتقدم التجربة الأفغانية والحركات المسلحة في الجزائر اليوم نموذجاً حياً عن هذه النزعة التي ينتظر أن تتمادى في قهرها للإنسان وأن تتمدد عبر المكان، وأن تعيد جزءاً من البشرية آلاف السنين الى الوراء. تقارع هذه الإيديولوجيا العولمة نقطة نقطة. وبدلاً من مقاومة البكتيريا في الجسم بالمضادات المناسبة تحكم هذه الإيديولوجيا على الجسم كله بالموت. والنتيجة تجمعات بشرية أمية، همجية، بدائية في أدواتها ووسائلها، جائعة، عطشى، تفتك بها الأمراض وتعرض نفسها للكوارث الطبيعية، وللكوارث البشرية بما فيها تعامل أصحاب التكنولوجيا معها كما يتعامل العلماء مع الحشرات والفئران والحيتان. وكما في مجموعات المجانين ومجموعات المتعصبين، يقود هذه التجمعات البشرية قادة متعصبون يعتمدون الدين مطية روحانية لتأجيج الهروب الى الماضي. ويواجهون التكنولوجيا بالإيديولوجيا، والطائرة بالدعاء لربهم عليها. رجل الدين يواجه المهندس العام. وبخلاص الظن السائد بواحدية العالم مع العولمة، فإن عنف العولمة الاقتصادي والتكنولوجي والدعائي يدفع الضعفاء في أركان المعمورة الى التجمع في قطب مقابل تحت راية الخرافات. وأكبر هذه التجمعات أبعدها عن مراكز العولمة وضواحيها. وحيث التعليم، والتعليم العالي، لا قيمة له أصلاً، بصفته إعداداً للقوى البشرية. أما وجوده فبالأشكال الملائمة لزرع الخرافات في أذهان الناشئة. بين المطرقة والسندان الدول العربية، كما الكثير من المساحات العالمية التي لا تندرج هنا وهناك، تشهد أطراف الموجات التي يبثها القطبان على السواء. تشهد حالة من الحصار الثقافي والاقتصادي والمهني يعزز اللاتجانس أو التفكك في بنياتها. ثمة انخراط لا مناص فيه في منطق العولمة تشهده شرائح ومؤسسات متعددة، وتخضع له الدول والحكومات. وثمة شرائح تجد في الأصولية جواباً على نقمتها من الطبقات السياسية الخاسرة في تحديات النمو والرفاهية والحرب مع اسرائيل. أما الدول والحكومات فهي رغم نزعتها الأكيدة نحو الحداثة تجد نفسها يومياً أمام ضغوطات معلنة وغير معلنة للخضوع لمعايير الماضي التي تطلقها الجماعات الأصولية. وإزاء تنازلات من هنا وتنازلات من هناك يزيد ضعف هذه الدول وتجد نفسها مدفوعة لحل اشكالاتها عن طريق العنف والاستبداد، وتجعل من الديموقرطية، إذا ما تبنتها كلاماً، أمراً كاريكاتورياً. لا شك أن الدولة، الضحية أولاً ثم المولّدة للضحايا ثانياً، ما زالت نقطة الارتكاز في أي تحوّل يخرج مجتمعاتنا من لا تجانسها، ولا يمكن أن تكون خفيفة فيها لكي تقوم بهذا الدور. والجبهة الأساسية لها في مواجهة المصير المتوقع هي الجامعة. فالجامعة هي موئل العقل، وهي المولد لنخب المستقبل وهي الجهاز الرئيسي في أجهزة الدولة الفكرية بعيداً عن العنف المادي والشعارات الجماهيرية. وفيها يمكن أن تتطور وتنضج تيارات دينية متنورة ومتسامحة، وفيها يمكن أن تتطور وتنضج صلات أكاديمية مع العالم تتمتع بقدر كاف من النشاط اللازم "للمشاركة" في صناعة العالم الجديد. ثمة مغامرة مطلوبة على صعيد التعليم العالي: إعطاء الجامعة استقلالية كافية وموارد لازمة كي تستقبل طلاباً من جميع الشرائح والبيئات وتوفر لهم ولأساتذتهم محيطاً من التفاعل الحر، وللتعاون الوثيق مع الجامعات الأخرى في المنطقة وفي العالم لكي تتمكن من أن تقاوم الاستسلام للخرافات والاستبداد من جهة، وللاستتباع من جهة ثانية. وفيها يفترض أن تتبلور في المستقبل نواة التجانس الاجتماعي الأدنى المفقود. لا يغرننا الاستقرار القائم، فهو أقرب الى حالة عابرة، تتم بالكثير من الجهود الأمنية واستنزاف الطاقات، والأنظمة ما زالت شديدة الحساسية تجاه أية موجة أو مؤامرة تأتيها من الخارج. ثم أن الحلول القائمة المعتمدة هي أقرب الى الموازنة بين الماضي والمستقبل، والى الوقوف عملياً في الحاضر، مع شتى ضغوطاته، والحاضر هو دائماً نكوص من زاوية التقدم السريع في مساحات أخرى من العالم نحو المستقبل. تتنافى استقلالية الجامعة مع التعامل مع الجامعة بطريقة أمنية، أو كأنها إدارة من إدارات الدولة يجب أن يكون المسؤولون فيها من المتعاونين مع الحكومة في معركتها ضد معارضة ما، أو أن تكون الخطب المتداولة فيها امتداداً لخطاب الحكومة. فالدولة شيء والحكومة شيء آخر. ان استقلالية الجامعة من استقلالية المعرفة فيها. وتقوم الاستقلالية على الانضمام الى شبكات معرفية عربية ودولية وبرامج مشتركة واتفاقات تعاون وتبادل أساتذة وباحثين وطلاب ومعلومات وعقد ندوات ومؤتمرات بصورة توفر للجامعة فرص المشاركة، من أي موقع كان، في عالم العصر. وتقوم الاستقلالية على أولوية مبدأ الزمالة وحرية التفكير وإبداء الرأي وعدم تهديد الأشخاص في وظيفتهم نتيجة آرائهم وترفيع غيرهم على القاعدة نفسها. إن المشاركة في صناعة المستقبل لا تتم بالإلتزام التقني بالأساليب الشائعة، ولا على فراغ فكري هائل فيما يسمى بالأبحاث العلمية، كما تدل المجلات المسماة "محكّمة" في عدد من الدول العربية. وبخلاف الظن، وكذلك بخلاف الضغوط الوافدة من المنظمات الدولية، فإن خصخصة التعليم العالي، لا يفضل إلا الى اخضاع الجامعات لمنطق آخر، بعداً عن السياسة، منطق الربح والى نزع المعنى الأصلي للجامعة عنها. يقوم السيناريو الخيالي إذاً على وجود جامعات عربية حكومية ذات استقلال أكاديمي وإداري ومالي، تتفاعل فيها الأفكار بحرية، وتندرج في منظومات شبه إقليمية تجنبها الهزال والخفة، وينتج فيها غير ما هو سائد لدى الجماعات الأولية ولدى أصحاب الخرافات أو لدى الطبقات السياسية الحاكمة، أو لدى المنظمات الدولية والمستثمرين الفاعلين باتجاه الحصول على الطاعة فقط. سيناريو يفترض أن التغيير تقوم به أجيال جديدة من الأساتذة والمسؤولين الجامعيين يتفاعلون مع أجيال جديدة من المعارف والتكنولوجيات، ويكون الإنفصال النسبي فيه للجامعة عن القوى القائمة وعن الرقابات المتعددة شرطاً ضرورياً من شروط مساهمتها في تطوير المجتمع. سيناريو ملخصه أن قيام الدولة من قيام جامعتها. وفي هذه الوضعية المتخيلة تقتدي جامعاتنا بالجامعات العريقة والمبرزة روحاً لا شكلاً، وتعيد النظر في أنظمة الإعداد فيها، في سياق المنافسة التي تفرضها العولمة، عن طريق تبني المقاييس العالمية المذكورة سابقاً في الإعداد الجامعي. وتقوم، فضلاً عن ذلك، بتوليد مقاييس قومية ووطنية توفّر شروط المشاركة الفعلية في النظام الجديد. هذه المقاييس تتعلق باللغة والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، أي بتلك الحقول التي تغذي المخيلة الإستراتيجية وتؤمن دفاعات وأسلحة عقلية ضد الخرافات ونزعات الاستبداد الخارجية، وتؤمن خلفية ضرورية للدراسات المستقبلية والتوقعات. والدراسات المستقبلية لا تجري على أساس التبصير بما سينجزه العلم، فنحن جاهلون بحاضرنا وبحاضر غيرنا فكيف بالمستقبل في علاقتنا بغيرنا؟ العولمة تجمع بين التهديدات والفرص مثلما هو حال كل دولة أو مجتمع على حدة. والجامعة هي المكان الوحيد تقريباً الذي يحتمل أن يولّد تغيراً فكرياً حقيقياً في سياق البحث عن نقل شعوبنا من حالة الغابة التي يتناهش فيها أصحاب النزعات الإلتهامية ويكثر فيها الصيادون والباحثون عن مواد يبنون بها قصورهم الحاضرة وأمجادهم الآتية الى حال الرفاه والمشاركة. فهل تجرؤ الحكومات على التماهي بفكرة الدولة وإطلاق العنان للتعاون الفعلي العربي أو شبه الإقليمي أو لخيال مستقبلي؟ هل تجرؤ على مثل هذه المغامرة غير المضمونة النتائج؟ * كاتب وجامعي لبناني.